القاهرة مدينة فنية؟! حتى وقت قريب جداً لم يكن من الممكن قول ذلك سوى بالمعنى المبتذل الذي روج للقاهرة كونها الأكثر انتاجاً للمسلسلات التلفزيونية التافهة والأغاني التي لا معنى لها والأفلام التجارية الهابطة، ولكن، الآن أصبح في الامكان القول ان القاهرة مدينة فنية بمعنى مختلف نوعاً، أو بمعنى آخر: القاهرة مدينة فن. في مدينة أوروبية نائية قضيت فيها وقتاً طويلاً نسبياً كتب شخص مجهول على حائط "سنملأ المدينة كتابة". وانتظر أهل المدينة فلم يخرج عليهم بجملة ثانية. كريم فرنسيس، وعارض لوحات في وسط القاهرة، خرج علينا بأحاديث صحافية قبل شهور بالزعم نفسه: سنملأ المدينة فناً. البعض، وأنا واحد منهم، انتظر حتى يرى النتيجة، لكن كريم لم يكذب في النهاية. لقد امتلأت قاعات العرض والمراكز الثقافية والمطاعم والمقاهي بأعمال فنية ذات طابع مميز لفنانين مصريين وأجانب، فبات في إمكاننا الحديث عن ماهية الدور الذي يمكن أن تلعبه مدينة نائية نوعاً كالقاهرة في مجال الفن. والسؤال: هل من الممكن أن تلعب القاهرة دوراً كالذي لعبته فيينا أواخر القرن التاسع عشر - حينما كان الفن في عواصم الفن الكبرى يعيش تبعات الرومانسية الفنية بكل ما ترتبط به من حضور قوي للموت ورموزه - لتخرج للعالم أعمالاً فنية لغوستاف كليمت بصحبة أعمال رفاق له تتضمن قيماً جمالية مقاربة لتلك الموجودة في أعماله، إضافة الى كون هذه الأعمال ثورية في جماليتها ونابضة بالحياة ولها - وبالأخص أعمال كليمت - طابع "المانيفستو"؟ في اعتقادي الشخصي ان هذا هو ما يحدث في القاهرة الآن، وإن كانت لم توجد بعد مدرسة فنية واضحة المعالم، لكن ما يوجد بالفعل هو أعمال فنية متجاورة في مهرجان فني واحد، تشعر بخصوصية كل فنان فيها من ناحية، ولكن، من ناحية أخرى، تلمس وشائج قرابة تعود في الأساس الى المكان الذي أوحى لهذه الأعمال بالظهور. وسأحاول نوعاً أن أقرن حماستي لهذا الفن الجديد - اذا جاز التعبير - بحماسة وليم ويلز مدير غاليري "تاون هاوس" المشارك في احتفالية "النطاق"، وهو ما جاء واضحاً في شهادته المطبوعة عن الأعمال المعروضة في قاعته: "هذا اختيار لأعمال ستة فنانين، اخترناها لشعورنا بأنها تمثل خطاً تعبيرياً على مستوى الوسيط الفني، والمفهوم واللغة، وهذا الخط بدوره مستخدم اليوم من خلال فناني مصر المعاصرين. وعدم وجود تيمة فنية محددة يفترض العمل عليها، يعود بالأساس لكون الفنانين يعيشون وينتجون أعمالهم في مصر. وهذه الأعمال لها خاصية احترافية واضحة وتستخدم لغة عالمية لتعنون بها لمختصات محلية، وفيها مرجعية ما لقضايا سياسية واجتماعية مرتبطة بالمكان الذي تنتج منه، بينما تتحدث الى متلقٍ عالمي. وأخيراً فإن هذا المعرض بمثابة مقدمة الى غنى الثقافة العربية المعاصرة التي تبقى في أحوال كثيرة موضوعة في خانة "غير المعترف به". وقاعة عرض ال"تاون هاوس" هي بمثابة أداة نقل ودعاية لهذا الفن، إضافة الى كونها قناة تكفل لهذا الفن التقدير الذي يستحقه". مشروع ال"تاون هاوس" لافت في المراهنة على أعمال لفنانين تخرج من نطاق اللوحة والنحت الى نطاق العمل المُركّب Installation art work وحين يترجم المصطلح Installation الى العربية يحمل مفارقة لغوية نوعاً، فهل يعني ان يكون العمل مركباً من عناصر متعددة، أم أن يكون مركباً في مكان، أم ان يكون مركباً - بالمعنى الكيماوي، حيث يعني التركيب: التحضير - وبهذا المعنى يكون العلم مرتبطاً بتحضير الفنان كيماوياً للأدوات المستخدمة في عمله. وبعيداً مما يعنيه المصطلح فعلياً، فإنه، من خلال مشاهدة الأعمال المعروضة في ال"تاون هاوس"، يمكن المشاهد تطبيق المعاني المتعددة للكلمة في العربية على بعض الأعمال أو معظمها، وسنتوقف هنا عند أعمال ثلاثين فناناً للتدليل على ما نعنيه. وهذه الأعمال هي: "شجرة بيت جدتي القديم" لشادي النشوقاتي، "قراءة للسطح" لحسن خان، و"مولد سيدي الاسفلت" لوائل شوقي. "شجرة بيت جدتي القديم" عمل شادي النشوقاتي حساس وشاعري يعالج فيه موضوع الموت في ارتباطه بالذاكرة برفاهية بالغة. والعمل المركب الذي يعالج فيه موضوعه موزع على ثلاث غرف مركب فيها. الغرفة الأولى عبارة عن ستائر من البلاستيك المحبب بُكرات الهواء الصغيرة، وعلى هذه الستائر صور بالأبيض والأسود وبالألوان، مطبوعة عليها كتابة ماكينة بارزة احياناً وغير ظاهرة في أحيان أخرى. ومحتوى الصور هو بيت جدة الفنان/ المؤلف وأفراد عائلته، إضافة الى الجمل المهيأة للدخول على العمل المصور بكاميرا فيديو في غرفة لاحقة، وهذه الجمل التي ترد على ألسنة أفراد العائلة تنطوي - على بساطتها - على شاعرية استعارية موجبة، والصور في منطق تصويرها وطبعها تبتعد من صبغة الفوتوغرافيا المباشرة، ما ينقلها في المقابل الى مستوى شاعري أيضاً. في الغرفة الثانية، يوجد حائط في المنتصف مكون من 600 قالب من الشمع الدهني - وهو ما تنطبق عليه صفة الشيء المحضّر كيماوياً - وعلى رغم حجم هذه القوالب وقربها شكلياً من قوالب الطوب الأحمر المصري، فإنها لا تأخذ من قوالب الطوب الأحمر سوى شكلها الاستعاري، بينما يراها الرائي كقطع صابون من حجم بالغ الكبر، مطبوع عليها "صنع في مصر" وموزع عليها بقايا شَعر آدمي، وموضوعة أعلاها أجزاء من أشجار الصبار. الغرفة الثالثة، التي تتمم العمل، توجد في منتصفها مقاعد الجلوس في غرفة الجلوس ببيت الجدة، يُعرض أيضاً عمل فيديو بواسطة "بروجيكتور سكرين" ينتمي، اذا أردنا تصنيفه، الى الفيلم الاتنوغرافي. ولكن، بعيداً من التصنيف، فإن عمل شادي النشوقاتي البصري الذي يصور فيه والده وأمه وأخواته المحجبات، يعطي الى المشاهد مؤشراً الى مدى عمق أو جمال العالم الروحي الذي تعيشه هذه الشخصيات المتدينة، ويشير أيضاً الى كيفية الدين كعالم موح على المستويين التخييلي والجمالي. ونقف عند بعض الاستعارات في العمل: البيت الذي تم تحويله بأكمله الى كفن بوفاة الجدة. وذلك من خلال تغطية كل الأثاث بأغطية قماشية. الأم التي تحلم بأن شجرة العائلة تطير في السماء ولا أحد يستطيع الإمساك بها لمنعها من الطيران، والبعد الرمزي للحلم في الواقع وهو صعود روح الجدة، هذه الروح التي تظل تتحرك في بيت الجدة وحاضرة في كل شيء من أشيائها حتى بعد وفاتها. وحشية حياة الأم من دون الجدة، وكيف انها تسأل الله أن ترى أمها فتحضر لها في الحلم وتبعد منها خطراً محدقاً. وأخيراً رسالة الأم للجدة في الفيلم "أحب أبلغك أن الشجرة بتاعتك زي ما هيه، ماحدش هيقدر يقطعها أبداً طول ما احنا عايشين". وهذه هي "شجرة بيت جدتي القديم" لشادي النشوقاتي، الشجرة التي هي الروح لأناس يعيشون بالفعل في الأبدية ويتوارثون اسرار معيشتهم والكيفية التي تكون عليها ارواحهم أباً عن جد والتي هي أيضاً شجرة الحياة. "قراءة للسطح" يُعنون حسن خان عمله المركب ب"قراءة للسطح: 100 وش، 6 مواقع، 25 سؤال..."، وعمل حسن خان أقرب الأعمال الى استخدام ما يعرف ب"فن الفيديو". واذا كان فن الفيديو أحد الفنون المابعد حداثية التي تنطوي على فكرة غياب الموضوع واستبداله بالتشكيل البصري، فإن ما يميز فن الفيديو لدى حسن خان هو الحضور غير المباشر للموضوع كجزء من مفهوم العمل. وعلى رغم أن حسن خان لم يقرر بعد أن يكون متورطاً مع ما وراء السطح، فإن قراءته السطح تكشف عن إمكان ما لقراءة الاشياء من سطحها، وكيف ان مثل هذه القراءة قد تكشف في شكل بسيط عما قد تعجز عن توصيفه قراءة العمق المعقدة. يستخدم حسن خان في عمله ثماني شاشات عرض موزعة على أربع غرف، إضافة الى كاميرا تصوير وميكروفون للتسجيل الصوتي وهيدفون. في الغرفة الاولى، يذكر مشهد المدينة المتراصة بمبانيها الضخمة، الواحد الى جوار الآخر، والاسمنتية في مجملها. وهو المشهد الذي يأتي كخلفية للوجوه، يُذكر بالمشهد الافتتاحي لفيلم "المملكة" للدنماركي لارس ثون ترير. ومن خلال مئة وجه يتم عرضها وجهاً وراء وجه يرسم حسن خان ملامحَ متباينة لشخصيات توجد في مواقع مختلفة من المدينة، سواء كانت تنتمي الى المكان او توجد فيه بالمصادفة. المدينة التي تشغل تفكير حسن خان، كما هو واضح في تقديمه المطبوع للعمل، هي مدينة مُفزعة، وموقع الصورة فيها مفزع أيضاً: "الصورة كشفرة للهيكل الاجتماعي تصبح اسطورية، فهي تعمل بمنطق ميزان القوة الذي يسيطر على شوارع هذه المدينة، ووجودنا الاجتماعي يحدد هوية الذات ويضعها في إطار"، هذا الإطار الذي هو أن "يتقبل اعضاء الجماعة هويتهم في النظام الاجتماعي باستسلام" حيث يصبح "الحديث العام هو نوع من الدوار". ويصف حسن خان عمله بكونه "بحثاً عن مركز ليس له وجود - لذلك منطق عدم التمركز - وليس التفتيت هو مُنطلق هذا العمل". وبعيداً من نظرة حسن خان المفزعة للمدينة، فإنه يظل حالماً بدور أكبر للافراد في بناء حياتهم، وعمله يذهب الى أن يتاح للافراد دورهم في بنائه على الاقل. ومن جانب آخر عمل حسن هو نقد للصورة السائدة وللدور السلبي الذي تلعبه. وهو يحلم بالميكروفون والكاميرا "أدوات تغطي الذات القدرة على تمثيل نفسها"، وأن يكون للاصوات دور حيث يصبح الرد من خلالها "جزءاً من الخطاب العام ويسترجع موقعاً فاعلاً في داخل المساحة الاجتماعية". والعمل المقدم من حسن خان، يبرز قدرة خارقة للفن الذي ينتمي اليه: فن الفيديو، وذلك بقدرة هذا الفن على التعبير عن الواقع وإبراز تناقضاته غير القابلة للمعالجة بشكل ما في أعمال فنية تنهج نهجاً كلاسيكياً أو مستهلكاً. والمثال على ذلك هو الجزء الرقم 2 من العمل: ثلاث شاشات عرض في غرفة تعرض صوراً مختلفة من خلال شريط صوت لا متزامن، ومن خلال عملية حسابية تخضع لمنطق الاحتمالات، فإن الكيفية التي تلتقي بها الصور الثلاث مع اجزاء مختلفة من شريط الصوت تكون مختلفة في كل مرة عن سابقتها. ووقفة على تناقضات المكان ما بين التفكير الديني الإظلامي ومباريات كرة القدم والدور الذي تلعبه المادة في حياة مجتمع عشوائي لا يخضع لنظام. واذا كانت الغرفة الثالثة مخصصة لعرض المادة الخام المصورة في المواقع الستة، فإن الغرفة الرابعة حيث يوجد الميكروفون يجد المشاهد نفسه أمام اسئلة موجهة له عن الاشياء التي يخاف منها، وعن معنى النظام، وعن إحساسه بوضعه الاجتماعي.. بينما تكون صورته على الشاشة تواجهه وهو يتحدث الى نفسه. "مولد سيدي الإسفلت" عمل وائل شوقي "مولد سيدي الأسفلت" هو نوع من المانيفستو يطرحُ اسئلة عن الاستهلاك والثقافة والبداوة والمدنية والمواد والكيمياء، وأولاً وأخيراً: التناقض. في البداية، تدخل قاعة العرض فتجد كأنك في كهف اسمنتي، وتجد الأسوَد البازلتي يحاصرك. ثم تجد الشاشة تعرض فيديو كليب لأغنية أميركية بمصاحبة صور من رقص الزار ومن راقصة شرقية. والنتيجة التي يصل بها وائل شوقي الى التزامن السمع بصري مُدهشة نوعاً، حيث يبدو في عصر ما بعد الحداثة أن كل ما هو متنافر يعيش في تجانس مع نقائضه، تجانس اجباري لأن لا أحد في إمكانه أن يحل التناقض ما بين الاشياء. وفي القاعة الثانية، إضافة الى تصميم على الحائط ومن سماعة صوت تسمعُ شريطاً شهيراً في القاهرة، يبشر بيوم القيامة ويعدد علاماته، شريط تسمعه في كل مكان. في المواصلات، في المكبرات الموضوعة في الشوارع. ومن إلفتك للشريط قد لا تنتبه الى أن وائل شوقي استخدم الشريط بعد أن غير سرعة تشغيله، محدثاً بذلك نوعاً من اللاتزامن المقصود، وعلى رغم أنك قد لا تسمعُ شيئاً يقال بوضوح، فإن إلفتك مع الشريط قد تجعلك تستمع اليه كأنك تفهم كل كلمة يقولها. هذه هي الحقيقة، هناك من يراهن على النهايات، لكن الفن لا يراهن عليها، الفن يجب دائما أن يُراهَن على إمكان جديد للبدء، وهذا دوره. * كاتب مصري.