تبدو القاهرة هذه الأيام أشبه ببركان ثار فجأة بعد خمود طويل. تتداخل مشاهد المسيرات والاحتجاجات ومظاهر الغضب والاشتباكات، مع المشهد القاهري المعهود بصخبه وازدحامه وتناقضاته. غير أن هذه المدينة لا تبدو دائماً على هذا النحو، فأحياناً ما تنعم شوارعها وميادينها بشيء من الهدوء والسكينة. هذه اللحظات القصيرة التي يعم فيها السكون تبدو فيها القاهرة ككائن أسطوري توقف ليلتقط أنفاسه بعد ساعات من اللهاث المستمر. الفنان الألماني كايا بيكلام يسجل هذه اللحظات الاستثنائية ويلخصها في مجموعة اللقطات والمشاهد التي يعرضها في غاليري «تاون هاوس». فالقاهرة هنا تبدو غير القاهرة التي نعرفها، ليست مدينة مزدحمة بالناس التي لا تكف الحركة فيها ليل نهار. الشوارع هنا خالية من المارة، ليس هناك شيء سوى الهواء يلعب بالمهملات التي تركها أصحابها على الأرض، وليس سوى أضواء المدينة ترتعش تحت وقع الضباب الصباحي. إنها حالة الهدوء التي تسبق الذروة، فبعد لحظات سيسود الصخب وتمتلئ الأشياء بالضجيج. اختار الفنان الألماني أن يوثق تلك اللحظات الهادئة للمدينة التي يزورها للمرة الأولى، كنوع من البحث عن أوجه مختلفة للمدن، وهو مشروع يعمل عليه منذ سنوات. ويعد هذا العمل جزءاً من ثلاثة أعمال أخرى في مجال الفيديو تعرض في قاعة «تاون هاوس» في القاهرة، تحت عنوان «ما قبل الذروة». ويعمل بيكلام في عدد من الوسائط التي تعكس مفهوم «الوثيقة» ونسق النص وأسئلة عن التجسيد. وأنجز مجموعة من الأعمال أبرزها متحف الغرب، والمتحف الشخصي للتاريخ الموقت، والمتحف غير المادي. وهو مؤسس لمجموعة فناني ريلودينغ إيمدج» التي نظمت عدداً من مشاريع البحث الفني المشتركة في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. أما الفيديو الثاني فهو للفنانة جين كايزن، وهي فنانة بصرية تقيم في كوبنهاغن، حاصلة على الماجستير في نظرية الفن والاتصالات من الأكاديمية الدنماركية الملكية للفنون الجميلة وماجستير الفنون الجميلة في فنون الأستوديو المتعددة المناهج من جامعة كاليفورنيا. وترصد كايزن في الفيديو الذي تقدمه تلك العلاقات الإنسانية وأجواء العمل داخل قاعة «تاون هاوس» خلال التجهيز للعرض. ففي هذه الأثناء تتشكل حالة من الثبات الانفعالي والوجداني بين المشاركين في تجهيز المكان كما تقول الفنانة، هذه الحالة التي أكدتها في تثبيت حركة الأشخاص داخل المشهد مع استمرار حركة الكاميرا في آلية دائرية لا تتوقف. أما الفيديو الثالث فهو للفنان سورين فاندر ويمثل لقطة واحدة لأحد الشواطئ، يتعامل معها الفنان حذفاً وإضافة وإضفاء تأثيرات لونية مختلفة ليترك المشاهد أمام حالة أشبه بالحلم أو الواقع الخيالي. ما قبل الذروة، هو أول معرض نصف سنوي للفنانين الذين أمضوا فترات إقامة في «تاون هاوس»، وعبارة «ما قبل الذروة» هي ترجمة حرفية لكلمة «ليميناليتي»، وهي أحد المصطلحات المُستخدمة في علم الأنتروبولوجيا وتشير إلى هذه اللحظة التي تنتهي فيها صلتنا بواقع معين قبل أن يتشكل واقع جديد، وهي حالة تماثل تلك التي تنهار فيها نظم قديمة قبل أن تخرج نظم جديدة إلى النور. ويُستخدم المصطلح لوصف اللحظة الانتقالية التي يمر بها من يمارسون الطقوس التي تؤثر في مدركاتهم الحسية، وهم يتنقلون بين حالات الوعي البديلة. وانتفل المصطلح إلى حقول أخرى من المعرفة، فيُستخدم في علم النفس للدلالة على لحظات التشتت التي تسبق ظهور احتمالات جديدة. وكثيراً ما يصف الفنانون المقيمون في القاهرة تجربتهم من خلال عبارات مماثلة. فهم عندما يصلون إلى القاهرة فإنهم كثيراً ما يفقدون اهتماماتهم الأصلية، وتتبخر خططهم للعمل، وقد لا يجدون أي خطط جديدة حتى تنتهي فترة إقامتهم في المدينة. الواقع أن فترة الإقامة ليست بالضرورة فترة للعمل ولكن للإحساس المستمر بتلك الحالة من التشتت الذهني. «ما قبل الذروة» تقدم مختارات من تلك الأعمال التي أنتجها الفنانون بعد انتهاء فترة إقامتهم في الغاليري، وهي تلك الأعمال التي يندر أن تعود ثانية للعرض في القاهرة. يقدِّم المعرض تفسيرات متباينة للواقع الذي يولد في تلك اللحظات، أي في الأوقات التي تستعصي على التعريف والتي تتبدل فيها الاتجاهات والآراء. نرى هذا في لقطات بيكلام التي تشبه الأحلام القاتمة والتي تبدو فيها شوارع القاهرة وكأنها أماكن مهجورة في أعماق الليل، كما نراه في الطريقة الشاعرية التي تقدم بها كايسن ذلك الواقع في سلسلة من الصور تشبه الإيحاءات المسرحية.