طقوس الليل من سهر وموسيقى ورقص وغزل واغواء ولقاء الآخر، الطقوس هذه هي، وبالنسبة الى الفئات العمرية المتأرجحة بين المراهقة والرشد، مرآة الانتقال من وصاية مجتمع الأهل والتفلت من رقابته. وهي كذلك معبر الفئات هذه الى عالم مفتوح على احتمالات وعلاقات مختلفة ومتنوعة يعود امر شبكها واختيارها الى الشخص نفسه. ويتشكل من الشريحة العمرية هذه، أي المراوحة بين سن الانتهاء من العام المدرسي الأخير وسنتي التخصص الجامعي الأولى والثانية، غالبية رواد شارع "مونو" الأشرفية، شرق بيروت في مساء كل سبت من نهاية الأسبوع. فيتهادى الرواد هؤلاء من شبان وشابات في مجموعات صغيرة على الجزء الغربي هذا من تلة الأشرفية، ويتخففون ويتخففن من مجتمع الأهل. فيشبك الأزواج منهم شاب وصبية الأيدي ويتعانقون ويتبادلون النظرات الحميمة والقبل. ويجعل كل منهم من المرآة والاحتكام اليها مختبراً يواكب عملية صنعه لصورة عن نفسه ترضيه وتكون واجهة ذاته. وتصبو الفتيات الى الحصول على دور البطولة على مسرح "المونو" الاحتفالي، من خلال جعل الطلة الخاصة بكل منهن مميزة ولافتة. ويقمن بتجنيد ألوان الماكياج وأقلامه من جهة، والملابس و"الاكسسوارات"، من جهة أخرى. فتأتي عيونهن مرسومة وتقاسيم وجوههن ملونة ومزوقة على ما تملي أصول الموضة والتبرج. ويرخى الشعر البسيط التصفيف على الأكتاف التي لم تغطها أقمشة "البلوز" المحفورة الكم والكاشفة للرقبة، وتغلب السراويل الضيقة والشديدة الالتصاق بالأجسام، على تلك الواسعة ذات الخصر المنخفض عن السرّة ببضعة سنتيمترات والكاشفة عن البطن والظهر. أما الشبان الدائخون والمدوخون بروائح عطور الصبايا المرافقات لهم أو المحيطات والمارات بقربهم، فيأتي معظمهم حليق الذقن ومتقلداً قصة شعر ريكي مارتن أو مرخى الشعر ومزيناً أذنه بأقراط صغيرة. أما قمصانهم الملونة الواسعة والضيقة، فيصاحبها الجينز وحذاء التنبرلند. والى جانب الاحتكام الى المرآة في كواليس البيت، تصبح أرصفة "مونو" مختبراً للذات وتُشكل امتداداً لمقصد هؤلاء الشباب من حانات مترامية في أنحاء الأرصفة هذه، فتترك للجسم حرية التحرك وخفته والانسياب والتمايل استعداداً لطقس عيدهم الاحتفالي. وعلى الأرصفة المكتظة، والتي تستقبل زواياها من لم تتسع له دواخل الحانات، تتلامس الأجسام والأكتاف وتختلط الأصوات والضحكات من غير ان تعبأ أو تكترث بأثر عقدين من زمن قد ولى وخطوط تماس مماثلة في الجهة الغربية من زواريب "المونو". فالزواريب هذه، قسم منها مُضاء ومأهول بالمرتادين وقسم آخر مقفر ومبانيه مظلمة وتجاعيد القتال وحفره ظاهرة على أحجاره. ويخشى عدد من هؤلاء الساهرين والمتسكعين ان يُظن فيهم الشذوذ اذا ما اقترنت أصواتهم الفتية بمخارج اللغة الفرنسية الصوتية الناعمة والشائعة في الأشرفية، على ما يقول أحدهم. والشبان هؤلاء والشابات فارغو الصبر لبلوغ الواحدة والعشرين عاماً. وهي السن الكفيلة بأن تُفتح لهم أبواب حانات امتنعت عن استقبالهم. فاستبعاد الشريحة العمرية هذه واشتراط الحجز المسبق في بعض الحانات الأخرى هي سياسية يتوخاها أصحاب الأماكن هذه ومديروها. وهم يتوخونها، على الأرجح، بهدف ضبط صورة المكان وللمحافظة على اطار يحدد الأجواء المرجوة والمطلوبة من جانب نوع من المرتادين. ومرتادو الأماكن هذه لا يأتون منفردين ومن غير أصحاب أو صاحبات. ذلك ان الحجز المسبق يفترض التخطيط وتعدي الفرد الى اثنين أو ثلاثة أو الى مجموعة صغيرة. والمجموعات هذه غالباً ما تتألف من ثلاثة شبان وصبيتين. وللمحافظة على نوع من الموازنة بين أعداد الشبان والشابات يتغاضى القيمون على الحانات عن شرط الحجز المسبق ويسقطونه، فيسمحون للشابات المنفردات، أي من غير صحبة الجنس الآخر لهن، بالدخول. أما الفئة العمرية المستهدفة ما فوق الواحدة والعشرين فهي السن التي توافق مرحلة ما بعد الدراسة الجامعية المفترضة، أي مرحلة العمل الذي يترتب عليه دخلاً مالياً ومستوى معيناً ليتماشى مع كلفة الخدمات التي يقدمها المرفق من مشروب وموسيقى وعشاء. فكلفة ارتياد الأماكن هذه باهظة بالنسبة الى من هم دون السن هذه، على ما يقول شربل طالب جامعي إذ يُفضل هو وأصدقاؤه حانات على مثال "راوندرز"، والتي قد يتسنى لهم الدخول اليها من غير كلفة طلب المشروب عندما يشتد الازدحام فيها. ويشكل مقصف "الراي" بأبوابه الخشبية العالية والحديدية اللون وحجره الرملي المظهر، الى جانب غيره مثل "سيركس" و"هيكسوس" وغيرهما، واحداً من الأماكن المرجو اكتشافها من الشريحة المستبعدة أمثال شربل وأصدقائه. و"الراي" السرّي هذا والممتنع هو أشبه بكهف يكون الوصول اليه عبر درج اضاءته نارية اللون وخابية. وتزين جدرانه لوحات زجاجية "فيتراي" و"قناطر" صغيرة زاويتها مقوسة. وتتوزع في أرجائه وزواياه كنبات شرقية "الأرابيسك" خشبها مفرغ ومحفور. وتختلف الأماكن "الممتنعة والمُشترطة" عن تلك "المباحة"، بتخصيص الزبائن بأمكنة جلوس. بينما تلك "المباحة" فتقتصر على ساحة رقص وشرفة داخلية مطلة على الساحة هذه وعلى بار تتوزع حوله الكراسي القليلة. وليس شارع "مونو" في معرض الوصف هذا حكراً على الفئات العمرية المتراوحة بين الثامنة عشرة والثلاثين، ولا هو مقتصر على الحانات. فإلى جانب المسرح في احد زواريبه الشرقية والحانات، تأتي مطاعم "مونو" لترسم الاختلاف والفواصل بين مطاعم الفاست فود المأكولات السريعة المنتشرة في مختلف أنحاء بيروت. فالمطاعم - المقاهي هذه والحانات ألبست البيوت الخاصة والقديمة الطراز بسقوفها العالية حلّة الأماكن العامة. فأمسى الخاص والطابع الحميمي الذي يغلب على بناء جُعِل في الأصل بهدف سكني، مفتوحاً على الآخرين ويخضع لحركة طلبهم. وحُلّت الأجسام من وضعيات الجلوس "الرسمية" المهذبة وفقاً لنموذج يحاكي الفصل الحاد والمتعارف عليه بين الداخل والسلوك الذي يفترض والخارج. ذلك ان هذا الخارج قد بدأ يأخد، ومع نهاية العقد التاسع، بوظيفة الداخل الترفيهية والاسترخائية التي كانت تدور في اطار العائلة. وجاءت هندسة المطاعم الداخلية والحانات خشبية اللون والأثاث، وتركت البلاستيك الزهري والأزرق والرمادي لمحلات السلاسل العالمية أمثال الأميركانا كانتكي - فرايدز - هارديز والماكدونالد والبرغر كينغ. والهندسة الداخلية هذه ليست واحدة في جميع مطاعم مونو، فهي تختلف ما بين "الشاو" وعبدالوهاب، على سبيل المثال. فالأول، والذي يقدم الأطعمة الايطالية من باستا معكرونة وبيتزا، يوفق بين لمسة الجهة الغربية من ضفة المتوسط من رسم وموسيقى وبين ما هو شرقي في أشكال الكراسي الخشبية والبلاط الملون والمرسوم والمزركش الذي صُنعت منه الطاولات المتوزعة بشكل غير أفقي في أنحائه، بينما الثاني يعلن عن هويته من خلال اسمه عبدالوهاب، ويعود لتوكيدها، من خلال الأرابيسك والنراجيل الأراكيل في اللهجة اللبنانية التي تكاد لا تُفارق مبسم الصبايا والسيدات اللواتي يكن بصحبة زملاء عمل تارة والأهل والعائلة تارة أخرى. وشارع "مونو" بجمعه المطابخ المتنوعة من صينية وتايلندية ومازة لبنانية ومعكرونة ايطالية في زواريبه وزواياه، وباستقطاب حاناته الفئات العمرية والاجتماعية المختلفة، هو أشبه بمدينة مصغرة نابضة بالحركة والحياة وتحاكي المدن الأوروبية ومراكزها. أما مدينة هؤلاء الشبان والشابات فتتشكل خريطتها وترسم معالمها وفقاً لمرافق السهر وطقوس ليله ابتداءً من الهاردروك كافيه وكالينكا في فردان مروراً بشارعي بلس والمكحول غرباً، ووصولاً الى المونو وجونيه وجبيل شرقاً.