المتجول في أسواق عمان القديمة لا بد له من أن يشتم فيها روائح مدن أخرى، لا يعرفها ربما، ولكن ثمة صوراً عنها في مخيلته لا يدري من أين جاءت. في أسواق عمان لا بد لك من أن تشاهد شيئاً من بغداد، أو من روح تلك المدينة التي احتفظت لها بصور، تواردت الى ذهنك من مصادر مختلفة. قد يجمع المدينتين هذا المقدار الكبير من التنابذ والتجاور في آن بين عناصر تكوينهما. فإلى جانب تقليديتهما ومحافظتهما اللتين تأخذان أشكالاً فضَه في كثير من الأحيان، تشترك بغدادوعمان في ازدهار تلك الحانات الشعبية والضيقة التي ينحبس روادها في أروقتها وردهاتها حيث يتكاثف دخان السجائر المندفع من أفواه الرواد القليلي الكلام والمختلفي القيافات. فمنهم مرتدو الجلباب الشتوي البني اللون، ومنهم من آثر لبس سراويل الجينز الرخيصة، وآخرون يستمعون منطربين الى صوت عبدالحليم حافظ المنبعث من المذياع، ومنهم من رفع صوته ليفوق ارتفاعه صوت الموسيقى، وليسمع مستمعاً يجلس الى طاولته. والجميع ارتفعت قناني الجعة الكبيرة والعريضة الى مستوى أعلى من مستوى رؤوسهم التي "تعتعها" الشرب. ويمكنك في عمان أن تشاهد بعضاً من مدن متوسطية طرفية كصيدا وطرابلس في لبنان. فتلك المقاهي الواقعة في الطبقتين الأولى والثانية من الأبنية القديمة والتي تخرج طاولاتها وكراسيها الى الشرفات، يظهر للناظر من الشارع اليها نصف مشهد لاعبي الورق الشدة أو المتحدثين في جلسات الشاي. ولا تشترك هذه المقاهي في هذه المدن في مواصفات البناء وأنواع الرواد فقط وانما في الأسماء أيضاً. كمقهى كوكب الشرق ومقهى القدس، وتكر سبحة الأسماء لتحاكي في مخيلة المتجول في أسواق عمان ما لا يدركه من معانٍ تلامس حساسيات يكون قد اعتقد أن مرور الزمن قتلها فيه. فهذا المبنى القديم ذو الشرفات الصغيرة والصدئة "الدرابزين" هو فندق القاهرة، والمبنى الذي يجاوره هو فندق بغداد الكبير الذي ينزل فيه التجار الوافدون الى عمان من الأرياف البعيدة، أو من المدن الفقيرة، وقبالته مطعم القدس الذي يقدم طبق المنسف الأردني المغمس بالجميد المصفى من اللبن. ومطاعم أسواق عمان التي تقدم الوجبات التقليدية، كثيراً ما تكون واجهاتها مساحات تعرض فيها أنواع من الحلوى، وخلفها وضعت الطاولات المغطاة بشراشف بلاستيك شفافة، يتحلق حولها رجال دهمهم الجوع بعدما أطالوا التجوال في الأسواق. وحول هذه الطاولات أيضاً يمكنك التمتع بخرق قرار وزارة الصحة منع التدخين في الأماكن العامة، والملصق نسخة عنه الى جوار كل طاولة. عقارب الساعة تسير بطيئة في عمان، والوقت الذي يفصل بين موعدين، واخترت أن تقضيه متجولاً في الأسواق القديمة، يبدو طويلاً لأكثر من هذا التجوال ومن تكراره أيضاً. ولهذا فإن اعادة النظر مرة أخرى قد تطيح الفكرة الأولى، أو تزعزعها على الأقل. فهؤلاء الرجال الكثر الذين يرتدون جلابيب وكوفيات حمرا يختلفون عن آخرين في طريقة عقدهم الكوفية. انهم تجار عراقيون جاءوا من بغداد ليتزودوا تمويناً يمنعه الحصار من المجيء وحده الى مدينتهم. أما الأولون فهم رجال عشائر أردنيون يختلفون عن العراقيين بطريقة ترتيبهم الكوفية. وبلهجاتهم طبعاً. وللعراقيين أيضاً وجود ثانٍ يفوق هذا الوجود كثافة، ويثقل الأسواق بحدة اختراقه لها واحتلاله مساحاتها. انهم عشرات الآلاف من النازحين الذين ضاعفوا من المفارقات في أسواق عمان، السيدات اللابسات العباءات السود، يفترشن الأرصفة المسقوفة ويعرضن السجائر الرخيصة بالمفرّق أو المعلبات أو منتوجات يدوية شديدة التواضع. قد تتفهم اعتراض هؤلاء السيدات على التقاط صور لهن وهن آخذات وضع البائعات المفترشات الأرض، إذا سبق أن أخبرك مرافقك أن العراقيين كانوا يأتون الى عمان سياحاً مرفهين، وان بعض هؤلاء الباعة والمتسولين يعرفون هذه الأسواق من خلال تجوالهم السابق فيها كزبائن غير عابئين بارتفاع الأسعار أو انخفاضها. ويبدو أن أسواق عمان هي منطقة لقاء العراقيين المقيمين في العراق بالنازحين عنه، فيها يتسقطون أخبار من تبقى من أقاربهم هناك. وفي زواياها لا يتوقفون عن ترداد حكاياتهم عن العراق، والى هذه الأسواق تصل لوائح أسماء أعداء النظام التي يوزعها، على ما يبدو، في الأحياء والمقاهي قبل أن ينشرها في الصحف، فلا تعدم أن ترى مجموعة شبان يدققون في ورقة كتبت عليها أسماء "الضالين" الجدد ولن يتحفظ هؤلاء الشبان من الشكوى أمام آخرين ممن ما زالت تربطهم بالعراق وبنظامه ربما علاقات وعواطف، ولن يلزمك حظ كبير حتى تشهد تعاركاً بالأيدي بين هؤلاء الجائعين من عراقيي العراق وعراقيي عمان. وأسواق عمان تقع في منطقة وسط عند التقاء سفوح التلال السبع التي كانت تؤلف المدينة القديمة، لذا فمناطق السكن الكثيف تبدأ من قمم التلال وتنحدر في اتجاه الوادي الذي يؤلفه تراصف هذه التلال وتقابلها حيث الأسواق القديمة. ومناطق السكن بهذا المعنى مطلة في معظمها على الأسواق، في حين يتيح انحدارها، انكشاف الأحياء الكثيفة للناظر اليها من الأسواق، ويبدو أن تمدد السكن صعوداً نحو قمم التلال أو نزولاً نحو الأسواق، أملى على السكان استبدال الطرق الى الأسواق بأدراج، تفضي في معظمها الى خارج مناطق السكن. ادراج من كل الأنواع، بعضها واسع وبعضها ضيق، وبعضها مبني من الحجر وبعضها من الاسمنت... وكلها تفضي الى قلب الأسواق القديمة. لا يبدو وجود الملتحين، جمهور الجبهة الإسلامية الأردنية، غريباً عن تلك الأسواق، وعن أماكن الاكتظاظ فيها، بل يظهر منسجماً معها. وفي أصل مادتها، على رغم مجاورته مظاهر من المفترض ألا تنسجم مع هذا الوجود، كالحانات التي قد تشعر أنها بدلاً من أن تتحدى هذا الوجود أو يتحداها، انكفأت الى داخل الأبنية وصارت أماكن عليك لكي ترتادها أن تصعد ادراجاً خلفية، وان تخرج منها بهدوء ولكن بلا حذرٍ كبير. طبعاً هناك حوادث حصلت، وتمكن الإسلاميون من اقفال بعض الحانات الشهيرة، لكن ذلك بقي وقفاً على مدى قربهم وبعدهم عن الدولة: فالإسلاميون الأردنيون حريصون منذ نشأتهم في بدايات الخمسينات على ألا يأخذ وجودهم ونشاطهم أشكالاً يمكن أن تعتبرها الدولة تهديداً لها. وهذا الوجود الهادىء نسبياً للإسلاميين لا يتناقض مع بعض الحوافز السياحية في عمان القديمة، فيمكنك بسهولة أن تجد صاحب متجر لبيع السلع السياحية، ملتحياً ويحمل سبحة، وقد ألصق صوراً للعائلة المالكة، وأفرد الى جانبها صورة للملكة نور. ايقاع بطيء عقارب الساعة تسير بطيئة في عمان وكذلك نادل المقهى الواقع ضمن سلسلة المقاهي المقابلة للمدرج الروماني. ففي أوقات ما بعد الظهر يشعرك معظم الأردنيين أنهم يعيشون على ايقاع السير البطيء للزمن الخاص بهم، وفي المدة التي تفصل طلبك للقهوة عن احضارها اليك، أنت الجالس على حافة المقهى التي ترتفع قليلاً عن ساحة المدرج، تشرع تحت تأثير الضيق الذي يحدثه طول الانتظار، في التساؤل عن مفارقات تعرفها عن مناطق الاكتظاظ، لكنك لا تجدها في أحياء عمان المكتظة، فلن تعثر مثلاً على بعض مظاهر العنف الذي يولده الاكتظاظ، لكن ذلك لا يفضي الى معانٍ أو وظائف أخرى للاكتظاظ. ثم لا يمكن تقديم تعريفات محددة لسكان الأحياء الشعبية التي تلامس الأسواق عند أسفل التلال، ففيها يختلط الأردنيونبالفلسطينيين، والإسلاميون بأصحاب الولاءات التقليدية والعشائرية، وبجمهور بعض المنظمات الفلسطينية. وقد يكون السماح ببعض الاختلاط الذي تشهده مقاهي المدرج الروماني وبعض الجعة التي تقدم هناك ثمرة عدم الانسجام في نسقٍ سياسي وربما اجتماعي واحد. الأزقة المتفرعة من شوارع الأسواق الرئيسية كثيراً ما تكون معابر مسقوفة، تتقابل على جانبيها متاجر متلاصقة، وملاحم ومحال لبيع الحلوى، وربما أبواب صغيرة وهامشية يمكن الصعود منها الى حانات الأسواق. وأن تعبر هذه الأزقة بحثاً عن ملامح عمان أو عن هوية ما لها، عليك أن تتزود حواسَّ اضافية، أو مخيلة تتجاوز عبرها حدود مشاهدة الأشياء كما هي. العائلة الأردنية المقيمة في جبل الأشرفية، وفي حي قريب من منطقة السكن الأرمني في عمان، لم تشأ سيدتها أن تطبخ المنسف الأردني في ذلك اليوم الحار. وقال سيد المنزل معتذراً من ضيوفه، أن الجميد، وهو خلاصة تجفيف اللبن، يحدث في أيام الحر انتفاخاً وعطشاً شديدين. والعائلة المسيحية المقيمة في منزل في الطبقة السفلى من مبنى يقع في حي شعبي لم يعد ذا غالبية مسيحية ربما، خرج معظم أبنائها من علاقات الحي ومن ثقافته، إذ يبدو هذا الخروج أسهل على المسيحيين الأردنيين، وربما كان أنسب لهم. لن تشاهد في المنزل ما يوحي بمسيحية العائلة إلا صورة تَخَرّج الابن في احدى مدارس الطائفة. ثم أن أثاث المنزل وآداب الطعام والضيافة توحي باشتراك في تقاليد أردنية جامعة، والشابة التي على مشارف سنتها الجامعية الأولى تتذمر كما تتذمر الأردنيات من ضيق السبل أمام الشباب في أوقات العطل الطويلة والشاسعة وأما شقيقها الذي يكبرها بسنوات قليلة فقد خرج منذ سنوات من الحي وأنشأ حياة تمتد على طول عمان. ... أزمة الخليج والخروج الصعب من العائلة والحي في عمان له دلالات وصور أخرى، وهو ليس خروجاً نهائياً وقاطعاً، ومن الصعب على الذين ما زالوا مرتبطين بأهلهم أن يقوموا به، أما معنى الخروج، فهو أن ينخرط صاحبه في مستوى جديد من مستويات الحياة وفي أذواق وأنماط عيش وافدة حديثاً الى الأردن. انه التحاق بأبناء الفئات الجديدة وبأنديتهم ومطارحهم، وهو أمر لن يتاح للشباب من غير المستقلين عن أهلهم أن يفعلوه. ويربط الكثير من المراقبين الأردنيين توسع هذه الفئة واضطراد أماكنها بأزمة الخليج التي أدت الى نزوح عشرات الآلاف من العائلات الأردنيةالفلسطينية الأصل الى الأردن، وهو أمر أحدث أزمات على صعد أخرى أيضاً. هذه العائلات التي حملت بعض ما ادخرته في مغترباتها الخليجية جاءت الى عمان وشرعت في افتتاح أحياءٍ جديدة. ولعل التعبير الذي استعمله شاب اسلامي للتعريف بأبناء الفئات الجديدة دال أكثر الى المعاني التي نقلها هؤلاء معهم الى الأردن فيقول "العائدون من الكويت أحدثوا صدمة في الأذواق والعادات، فأول مرة شاهدت فتاة محجبة لكنها ترتدي سروال الجينز. كانت عندما نزح الأردنيون من الكويت". يعتبر شارع عبدون وهو امتداد للشارع الذي تقع عليه السفارتان الأميركية والإسرائيلية في عمان، شارع الفئات الأردنية الجديدة، من دون أن يعني هذا التجاور شيئاً باستثناء دلالات رمزية ربما. وعليه يقع عدد من المقاهي ونوادي الليل الجديدة التي يرتادها شبان وشابات وكهول وعائلات أردنية. وكما عثرت على رائحة لبغداد وصيدا في الأسواق القديمة لعمان، ستزكم أنفك روائح بيروت ودبي في شارع عبدون. فهنا يقع مقهى "يا ليل يا عين" الذي استمد اسمه من برنامج منوعات تبثه المؤسسة اللبنانية للإرسال. وهنا نادٍ ليلي استقدم عازفين من بيروت وعرف منهم على أنهم لبنانيون، ومقهى المودكا سيذكرك بمقهى شارع الحمرا من دون أن يكون قصد صاحبه ذلك ربما. وفي ساحة شارع عبدون حيث تتجمع هذه الأماكن، يتجول عشرات من حملة الهاتف النقال، ومن المنتظرين خلو طاولة لهم في المقاهي المزدحمة، التي يشترط على روادها أن يأتوا اليها "عائلات"، وهو تهذيب لشرط أن تكون المجموعات التي ترتادها مختلطة شباناً وشابات، تفادياً لقدوم شلل الشباب التي من غير المستحب أن ترتاد المقاهي، على ما قال النادل، في نوادي عبدون الليلية كما في نوادٍ أخرى في عمان يقتصر السهر على ليلتي الاثنين والخميس. ويبدو أن برامج السهرة تبدأ باكراً والنوادي حتى في هاتين الليلتين أقل اكتظاظاً من تلك السهرات التي تشهدها نوادٍ مماثلة في مدنٍ أخرى. ثم ان من المرجح أن يكون متوسط أعمار رواد نوادي عمان أعلى منه في نوادي المدن الأخرى. ومنطقة عبدون هي من المناطق الجديدة الناشئة بفعل توسع المدينة غرباً بعد حرب الخليج الثانية، وتغيب عن مقاهيها هموم ونقاشات دائرة في المقالب الأخرى من المدينة، كمقاومة التطبيع والتمويل الأجنبي والحريات العامة وما الى هنالك من قضايا خلافية شديدة الحضور في أذهان المتعاطين في الشأن العام من الأردنيين. لكن ثمة مجموعات من أبناء الأحياء الغربية والملتحقين بهم أوجدوا حيزهم العام المختلف، وجعلوا من مكافحة جرائم الشرف مثلاً قضية يعتصبون حولها. ثم انهم طوعوا وسائل لهوهم وتسليتهم في سياق التزامهم قضايا عامة اجرائية وأقل نظرية من مثيلاتها في مقالب المدينة الأخرى. فهم يقيمون سهرة "بينغو نايت" من أجل دعم احدى جمعيات المكفوفين التي تعمل في مخيم فلسطيني. والصحيح أيضاً أن هؤلاء الشبان والشابات يحتاجون في الأردن لكي يلتقوا ويتصادقوا، ويصرفوا أشكال عيشهم وفق ما تمليه أعمالهم ووظائفهم في مدينة بدأت تسمح بشيء من التصريف، الى قضية وان كانت صغيرة. المجموعة المؤتلفة حول مكافحة جريمة الشرف وحول قضايا أخرى من هذا النوع، مثلاً، مستقرة الى حدٍ كبير، لم تتبدل وجوه كثيرة فيها منذ سنوات، ولم يغادرها أحد أيضاً، ما قد يعني نضوب المعين الاجتماعي الذي تتغذى منه، ويبدو أن فئات الشباب الأصغر عمراً من الشريحة الاجتماعية نفسها لم يعودوا في حاجة كبيرة الى قضايا عامة لكي يلتقوا ولكي يقضوا أوقاتاً في المقاهي وفي نوادي الليل. التطبيع! التطبيع! يشعرك تضخم الحديث وتشعبه في قضية التطبيع، ان هذا الأمر هو أحد الهواجس الأردنية الفعلية، وهو أمر صحيح لسببين: الأول أن ثمة مزاجاً عاماً ما زال يرفض فعلاً التطبيع. ولهذا المزاج مظاهر وقوى تمثله ولغة جاهزة. والثاني أن الأردن قطع أشواطاً تطبيعية لا بأس بها وثمة قبول سلبي حتى من مقاومي التطبيع بمقولة عجز الأردن عن مواجهته. من السهل أن تجد في عمان لافتة تدعو الى "مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني". فقد ألصق بعض منها حتى على دور الرعاية الاجتماعية. وربما وجدت سيارة تاكسي كتب سائقها على ورقة وعلقها على زجاج السيارة، عبارة أنه لا يقبل ركاباً اسرائيليين. لكن الأمر أصعب على الأردنييين من أن يواجه بموقف أو بشعار. فالقنوات بين الأردنيين واسرائيل لا يمكن اقفالها هذه الأيام. ثمة أكثر من 60 في المئة من الأردنيين، هم من أصول فلسطينية وتربطهم بسكان الضفة الغربية وحتى بالعرب الإسرائيليين علاقات قربى وتجاور قديمة. والأردن في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها، وبعد أزمة الخليج وعودة نحو أربعمئة ألف من أبنائه من هناك، أصبحت اسرائيل أحد منافذ الأيدي العاملة فيه. إذ تشير الإحصاءات الرسمية الى أن عدد العمال الأردنيين في اسرائيل هو نحو خمسين ألفاً. وهناك عدد يوازيه من العمال المتسللين الى اسرائيل من دون أذونات عمل. وإذا كان الكلام العام والسائر في الأردن يؤكد فشل مشاريع المصانع ذات الرأسمال المشترك الأردني - الإسرائيلي في المناطق الصناعية التي أعفيت صادراتها الى أميركا من الرسوم الجمركية، فإن هناك ما يضعف رجحان هذا الرأي، إذ ثمة كلام كثير هذه الأيام على حقوق ستة آلاف عامل أردني في المصانع الإسرائيلية، أو الأردنية - الإسرائيلية، في الأردن الذين يقول مقاومو التطبيع وتنشر الصحف الأردنية ان حقوقهم مهدورة وأن رواتبهم متدنية، وتنشر مقالات عدة عن استفادة متمولين اسرائيليين من انخفاض أجور اليد العاملة الأردنية، واستفادتها أيضاً من الاعفاءات الجمركية التي منحتها الولاياتالمتحدة الأميركية للبضائع المصنعة في مصانع ذات رأسمال مشترك، لجلب الاستثمارات الى الأردن. على رغم التقديم الأردني السلبي لهذه المعطيات، وعرضها في سياق رفض التطبيع، فإن التدقيق قليلاً فيها يوحي بأن الأردن وعلى مدى السنوات السبع من عمر معاهدة السلام أرسى تقاليد علاقة تبادلية مع اسرائيل، ساهمت فيها بلا شك القنوات التي اتسعت بعد فتح الحدود بين فلسطينييالأردنوفلسطينيي مناطق الحكم الذاتي واسرائيل. فكثر من الأردنيين زاروا أقاربهم وقراهم ومدنهم بعد فتح الحدود وتسللوا الى المدن الإسرائيلية. صحيح أنهم يتحفظون قليلاً عن البوح بزياراتهم هذه، لكنهم يعودون ليقروا بها. والقوى السياسية الأردنية المناهضة للتطبيع وعلى رأسها جبهة العمل الإسلامي متسامحة الى حدٍ كبير مع زائري اسرائيل من الأردنيين، ومتفهمة أيضاً للظروف التي تدفع العمال الأردنيين الى عبور الحدود يومياً بهدف العمل في اسرائيل. وهذا التفهم ينسحب أيضاً على مواقف الدولة، وأحياناً على اجراءاتها في حق القوى التي قد تعيق فعلاً سير الأردن في اتجاه التطبيع. ويبدو أن قوى سياسية أردنية وفلسطينية أعادت تكييف نفسها، وفق المعطيات الجديدة، بخطاب رسمي وخطاب موازٍ براغماتي أكثر ويتيح قبولاً واقراراً بواقع الأردن الجديد. تحولات وربما كان من الأمثلة الدالة الى تكييف الأردنيين أنفسهم وقواهم مع الواقع الجديد، تلك التحولات في الوظائف والأهداف، التي أصابت عدداً من القوى. فمركز الأردن للدراسات الذي أسس عام 1983 وهو ابن مجلة الأردن الجديد التي كانت تصدرها الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين من خارج الأردن، أنشأه هاني الحوراني بعد انفصاله عن الجبهة ولم يضمِّن بيان تأسيسه وأهدافه ما كانت المجلة الأم أخذته على عاتقها من مهمات الصراع والمقاومة. فالمركز بحسب تقديمه نفسه "موسسة علمية تعمل من أجل تحقيق تنمية سياسية واقتصادية واجتماعية مستديمة في الأردن من خلال وضع الأبحاث والدراسات ورعايتها وتنظيم ورش التدريب وتبادل الخبرات وتقديم الاقتراحات والاستشارات الخاصة بالشأن العام". والمركز مصاب اليوم كما غيره في الأردن بسهام الاتهامات بالتمويل الأجنبي، وهي حمى انتقلت سريعاً من مصر الى الأردن، ويبدو أن هذه التهمة سرعان ما يمكنها أن تتحول تهمة بالتطبيع، على رغم الجهد الذي تبذله ادارة المركز لتفادي التهمة الثانية. فيقول الحوراني مدللاً الى حذر المزكز من أن توجه اليه تهم كهذه، أن محاولات باحثين ومهتمين اسرائيليين الاتصال بالمركز كثيرة، لكنها تقابل كلها بالصمت وعدم الاكتراث. ويروي أن المركز نظم أخيراً مؤتمراً عن تاريخ الأردن، فأرسل الباحث الإسرائيلي "أشر سشر" وهو صاحب مؤلف عن "وصفي التل" رسالة عبر البريد الالكتروني يعلن فيها رغبته في حضور المؤتمر والمساهمة في نقاشاته، لكن المركز لم يجبه. ويضيف حوراني ان هذا الباحث لو لم يرسل طلباً لحضور المؤتمر، وجاء من تلقائه وحضره بخفر ومن دون ضجة كبيرة، لكان الأمر ممكناً. ويؤكد أن ضغوطاً من الجهة الأخرى يتعرض لها المركز، فهناك مؤسسات اسرائيلية اتهمته لدى دول وجهات ممولة لبرامج وأبحاث، بأنه يمارس عنصرية من خلال تمنعه عن استقبال اسرائيليين. ايقاعات خارج الزمن يعتبر الإسلاميون الأردنيون أن توسع ثقافة الفئات الجديدة تسير على ايقاعات، خارج الزمن الذي يعيش فيه الجزء الأكبر من الحركة الإسلامية، ولهذا فإن كثراً من الشبان الإسلاميين وخصوصاً الفئات المتعلمة منهم يشعرون أن مواكبة التحولات الاجتماعية تتطلب مقداراً أكبر من المرونة، لكنهم يدركون أن أفق التشريع لأنماط العيش الجديدة لن يكون من الرحابة التي تتيح قبولاً بأنماط العيش الحديثة الوافدة الى الأردن. ويقول ياسر وهو اسلامي مستقل ومراسل احدى الفضائيات العربية، ان الإسلاميين الأردنيين أظهروا مرونة غير مسبوقة في تكيفهم مع المتغيرات، ويعطي مثالاً على ذلك أنه هو نفسه كان كتب أثناء اعداد برنامج الجبهة الإسلامية لانتخابات العام 1992 البند المتعلق بمنع وصول الفضائيات الى الأردن ومنع عملها فيه، في حين هو يعمل اليوم في احدى هذه الفضائيات. والشبان الاسلاميون الخمسة الذين جمعهم ياسر في منزله، قدموا ما لا يحصى من الأمثلة والنماذج التي تؤكد اختلاف تجربة الحركة الإسلامية الأردنية عن تجارب الحركات الإسلامية في دول أخرى، وأن الشرعية الاجتماعية والتاريخية لهذه الحركة أرسخ من أي تجربة أخرى، وهذه الشرعية تملي بحسبهم على الحركة قبولاً وطواعية أكبر، خصوصاً في العناوين العامة، فلن يؤدي رفض الجبهة اتفاقات السلام الى حركة تمرد على النظام، ولن تقابل المضايقات التي يتعرض لها "الاخوان" الأردنيون الى نفور من المجتمع والى تكفيره. والإسلاميون الخمسة الذي جمعهم ياسر وهم مهندس ومحام وصحافيان ومدرس شريعة، ترك ثلاثة منهم الجبهة بحثاً عن نظرة أوسع الى الحياة، وهم في نقاشهم ودفاعهم عن تجربة الإسلاميين يسوقون عبارات مستجدة من قواميس أخرى كحقوق الإنسان، والديموقراطية والحريات العامة. وإذا كانت أنواع أحاديثهم واستشهاداتهم دالة وأسيرة تصنيفات وقعوا فيها هم أنفسهم، فإن في هذرهم وتسامرهم ما هو أكثر دلالة الى سهولة أخذهم بأساليب العيش الجديدة. فإلى ملابسهم وقيافاتهم التي لم يحرصوا على اختلافها عن متوسط القيافة الأردنية وربما أعلى بقليل، أعد ياسر سفرة محورها طبق "لازانيا" الإيطالية التي يبدو أن زوجته تجيد صنعها. وقرر الشبان عدم التزام التحلق حول طاولة السفرة فملأ كل منهم صحنه بأنواع مختلفة من المعجنات وال"لازانيا" وعادوا الى أماكنهم، مازجين بين الأكل الجاد، والقليل من الهذر والنكات على مذيعات التلفزيون اللبنانيات وتأثيرهن في الفئات الجديدة من الأردنيين، ثم الانتقال للحديث عن كتاب قرأه أحدهم لأحد المشايخ وعنوانه "السهل والصعب" وعلق قارئه متبنياً وجهة نظر الشيخ، لجهة تساهله وسماحه بأمور كثيرة، بأن قال يجب أن يكون عنوان هذا الكتاب "السهل والسهل". تشعرك مجالسة اسلاميين أن عالماً كاملاً قريب منك الى هذا الحد لا تملك مفاتيحه، عالماً من الرموز والإشارات والطقوس التي يمكن التعايش معها، خصوصاً إذا قدمت نفسها على النحو الذي قدمه ياسر وأصدقاؤه أنفسهم. ولكن في الأردن لا يبدو أن قبولاً متبادلاً غير حاصل بين الفئات المختلفة، وليس جواب الشابة في مقهى عبدون حين سئلت عن وجود أصدقاء وصديقات لها بين الإسلاميين، والذي حمل نفياً واستنكاراً شاركها فيهما أصدقاؤها، سوى اشارة صغيرة الى تنكر متبادل لجوامع مشتركة حقيقية، بينها وبينهم. أصوات العيارات النارية التي كانت تكسر هدوء الليل الساقط على مساحات غير مبنية تفصل الحي الذي يقيم فيه ياسر عن أماكن الاكتظاظ في عمان، كانت تصدر من مضارب احدى العشائر القريبة من المنزل، وهو رصاص الاحتفال بزواج أحد أبنائها. واليها كان يشير أحد المدعوين ليقول: ان من يطلق النار في الأردن ليس الإسلاميين.