افتتح حديثاً في المتحف الشمالي في العاصمة السويدية معرض "حلم القدس" للمصور السويدي لويس لارشون 1881-1952 وهو كان من اوائل مؤسسي مكتب التصوير الشهير "امريكان فوتوغرافرز كولوني" في نهاية 1900 في القدس. المعرض هو الاول من نوعه عبر مجموعة الصور الفوتوغرافية التوثيقية الواسعة التي صورها لارشون بين فترتي 1896 و1930 في المدينة المقدسة وكان هاجر اليها من قريته نوس في مقاطعة دالارنا السويدية مع 37 شخصاً من اهل القرية لينضموا الى المستعمرة الاميركية في فلسطين. كانت تحوي المستعمرة 120 شخصاً نصفهم سويديو الاصل تجمعوا في القدس لاعتقادهم ان المخلص سيأتي عما قريب وليكونوا من أوائل المنضمين إليه. ولكن بعد مرور فترة من الزمن لم يتحقق حلم تلك الطائفة الدينية التي اسست مستعمرة قائمة على نظام اقتصادي فلاحي يكفل لها العيش من خلال البضائع التي تنتجها وتوزعها في الاسواق المحلية. ولذا انحلت المستعمرة سنة 1930 وتقاسم من كان يشرف عليها الاملاك وبدأ رموزها يلعبون دوراً سياسياً واجتماعياً في المنطقة العربية وخصوصاً خلال فترة اعادة رسم الخريطة الجغرافية للمنطقة وزرع دولة اسرائيل في فلسطين. عرف المصور لارشون عالمياً من خلال صوره الشهيرة التي لا تزال حتى الآن تباع في الاسواق العالمية كبطاقات من الارض المقدسة وهي صور من الروايات الانجيلية اشهرها الراعي وماشيته في منطقة عين فرح. اضافة الى صور لبحيرة طبريا وشوارع القدس القديمة وميناء حيفاء ومناطق من صحراء سيناء والاردن ولبنان والدول المجاورة لفلسطين. وتكشف مجموعة الصور التي تعرض للمرة الأولى مع عدد من الرسائل التي ارسلت من المستعمرة الاميركية الى السويد عن خفايا وأسرار تختلف عما يعرفها البعض. فهي تحكي عن آلاف الصور التي ارسلت الى عواصم القرار الاوروبي مثل باريس ولندن عبر البريد النمسوي لتسهم في طريقة مباشرة بتعزيز الاستيطان الصهيوني لفلسطين وتعزيز مقولة "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض" التي كانت تتبناها الدعاية السياسية للاعلام الصهيوني في العالم من اجل اقناع الرأي العام العالمي بأن اختلاق دولة ليهود العالم على ارض فلسطين أمر مشرع انسانياً وسياسياً وتاريخياً ودينياً. والصور التي يعرضها متحف الشمال في استوكهولم تحكي عن مراحل مهمة مرت بها المنطقة مثل موجة الجراد سنة 1915 وتسليم الاتراك فلسطين ومدينة القدس الى الانكليز وزمن التركي جمال باشا الجزار 1872-1922 الذي كان والياً على المنطقة والمفاوضات التي تمت بين الانكليز والأمير عبدالله بن الحسين والجلسات السرية لقائدي الحركة الصهيونية مع ضباط الانكليز في فلسطين. مراحل تاريخية يعرفها الكثيرون ولم تبق سرية. ولكن اهمية المعرض انه يلقي ضوءاً جديداً على طرق استخدام الصهيونية العالمية لبعض الجماعات الدينية المسيحية التي هاجرت من دولها في اوروبا الى فلسطين لتنتظر المخلص، من اجل الدعاية السياسية. وهذه الهجرة كانت من دون شك مبنية على قناعات دينية لدى معظم المهاجرين العاديين بدأت في نهاية 1800 عندما اتى الى دول الشمال الاوروبي اشخاص يدعون التبشير الديني وبدأوا يحرضون مجموعات من مواطني تلك الدول على السفر الى فلسطين لملاقاة المخلص المسيح المنتظر. وفي صيف 1896 قرر الفتى لويس لارشون ان يغادر مع بعض اقربائه واهل قريته الى فلسطين. والوثائق التي تحكي عن ذلك الزمن تقول ان تلك المجموعات لم تغادر السويد والدول الاسكندينافية سعياً وراء المال بل الهدف الاساسي كان دينياً بحتاً. تعرف لارشون الفتى على شخص يهودي يدعى اليجه ماير هاجر الى فلسطين من بومباي وأسس مركزاً للتصوير الفوتوغرافي في المستعمرة الاميركية، عرف في ما بعد ب"اميركان فوتوغرافرز كولوني". شجع ماير لارشون على تعلم مهنة التصوير وبدأ بعد ذلك يجول معه في الاراضي العربية ليصور مناطق مختلفة ويرسل تلك الصور الى اوروبا والعالم الجديد لتستخدم في الأبحاث الجامعية ولتعطى للاعلام المحلي فيأخذ صورة عن الواقع الذي كان قائماً في فلسطين. وبعد دراسة نوعية الصور التي ارسلها ذلك المركز الى اوروبا يتبين ان الصور تحاول القاء الضوء على ثلاث ظواهر في فلسطين: تطور المستوطنات اقتصادياً واجتماعياً، إذ تبين صور المستوطنات وكذلك الرسائل بأن ارض فلسطين كانت بحاجة الى من يعتني بها وكأنّها لا يوجد عليها بشر يهتمون بها. فمن يسكنونها هم مجموعات من البدو لا جذور اجتماعية لهم. وتلك المجموعات تقع في نطاق الظاهرة الثانية التي كانت تدعم الظاهرة الاولى. فهي صور تحكي عن اشخاص لا علاقة لهم بتلك المنطقة إذ يلقى الضوء على بعض فلاحي المنطقة. ولا يقول لارشون عن الفلاح بأنه فلاح بل إن كل شخص فلسطيني في صورة يصفه لارشون بأنه بدوي، او محمدي او درزي، كما انه يتجنب اظهار أي نوع من التمدن في فلسطين، ويغيب تماماً الانتماء القائم بين المنطقة واهلها العرب. فالتمدن غير موجود في صور لارشون ولا يوجد أي شرح عن مدن حيفا ويافا والقدس والتجارة في تلك المدن ولا عن المواصلات ولا عن الانتقال الى دول مجاورة عبر البحر. كل ذلك غير موجود في مجموعة الصور. ومن الواضح ان لارشون يستخدم تعابير مسيسة، فالجميع يعرف ما تعني كلمة بدو في اوروبا. إنها كلمة مرادفة لمعنى شعب بلا جذور يتنقل من منطقة الى منطقة. ولكن عندما يصل الدور الى رجل الدين اليهودي فيصفه لارشون بأنه صاحب رسالة دينية وتربوية ويظهره يعلم الاطفال اللغة العبرية وبأنه حضاري يحاول احياء لغة قديمة تتعلق بتلك الارض. اما الظاهرة الثالثة فهي سياسية إذ يتابع لارشون تطور الاحداث السياسية على الارض ويعطي صورة سياسية عن المنطقة مفادها أنها كانت منطقة للاتراك وقد خسروها امام الانكليز وان الجيش الانكليزي حرر المنطقة من الغزو التركي ثم تمكن اليهود من بناء دولتهم عليها. مسألة اظهار ان فلسطين ارض بلا شعب واضحة من خلال الرسائل التي يكتبها بعض زملاء لارشون في المستعمرة الاميركية. فعندما تمكن مؤسسو المستعمرة من الحصول بطريقة غير واضحة على منزل فخم في القدس يكتب ذلك المستعمر تحت صورة المنزل "هذا هو المركز الرئيسي لمستعمرتنا، انه منزل كان يسكنه محمدي له ثلاث زوجات وجميعهن متن وهو ايضاً مات ولم يبق من يسكن المنزل الذي وجدناه مهجوراً واخذناه مركزاً لنا". لا يضع كاتب الرسالة النقاط على الحروف فهو لا يقول ان مالك المنزل فلسطيني او عربي بل يسبغ عليهم طابعاً دينياً تعصبياً كان شائعاً في اوروبا ايام الحروب الصليبية. ويصف صاحب المنزل بأنه محمدي أي لا وطن له وبأنه متزوج من ثلاث نسوة وهذا الأمر كان ولا يزال من المحرمات في اوروبا. وهذا يؤكد ظاهرة الدعاية السياسية في صور لارشون وفي استخدامها لمصلحة الصهيونية العالمية. فعندما يتعلق الأمر بأهل المنطقة يصفهم لارشون بأنهم بدو ويتجنب لارشون تصوير اماكن تجارية متمدنة في فلسطين. حتى الصورة الشهيرة للمصور لارشون عن الراعي وماشيته في عين فرح هي مركبة. ويشرح احد مساعدي لارشون، اريك ماتسون في مذكراته 1922: "ذهبنا اليوم الى منطقة عين فرح لنصوّر مشهد الغنم. قبل يوم من موعد التصوير اتفقت مع الراعي ان يجلب ماشيته في الصباح الباكر ويكون في الخدمة كل النهار. دفعت للراعي 50 قرشاً والمبلغ نفسه لعدنان صاحب الماشية". هذا الشرح الواضح يؤكد بأن الرعاة غير موجودين في كل مكان في فلسطين، ومن اجل تصوير منظر كهذا اتفق المصور لارشون مع احد الرعاة على موعد محدد ليكون موضع تصرفه خلال فترة النهار كله. وعلى رغم ان لارشون يكتب الى اهله في السويد انه صور خلال فترة فصل الشتاء خمسة عشر الف صورة من الارض المقدسة فإنه لا توجد ولا صورة تظهر مواطنية اهل المنطقة العرب وتبادلهم الثقافي والاجتماعي والتاريخي والديني مع تلك الارض. وأنه لا توجد صورة واحدة للاحياء العربية المتمدنة، او أي صور عن التجار العرب وأسواقهم في القدس. ولا توجد أي صورة عن البواخر المحملة بضائع من فلسطين تبحر من ميناء حيفاء ولا صور عن التواصل العربي مع فلسطين. فصور لارشون مضمونها سياسي بحت وكذلك شرحه مضمون تلك الصور إذ يستخدم تعابير مثل "رجل دين درزي" و"محمدي" و"بدوي" وما شابه ذلك. وبعيداً من الدعاية السياسية التي ساهم بها لارشون لمصلحة الصهيونية العالمية من خلال صوره المرسلة الى اوروبا فهو يلتقط صوراً عن احداث مهمة مرت بها المنطقة. ففي الاول من شهر اذار مارس 1915 اجتاحت المنطقة موجة جراد قضت على الأخضر واليابس كما يقال. وهذه تشهد لها الاجيال القديمة وأصبحت ذكرى تاريخية يعرفها الكثيرون، وتمكن لارشون من تصوير اجتياح الجراد المنطقة. ويصف تلك المرحلة من الزمن بإحدى رسائله قائلاً: "كنت مع بعض الشبان من المستعمرة الاميركية بالقرب من عين فرح عندما سمعنا صوتاً يشبه هدير مياه الشلال. عندما نظرنا الى الاعلى شاهدنا غيمة ضخمة سوداء تهبط على الارض. تمكنت تلك الحشرات خلال فترة زمنية قصيرة جداً من القضاء على كل شيء اخضر. فاجتياحها كان شبيهاً بسعير النيران الذي يقضي على اشجار الغابات. خرج كل سكان المستعمرة من اجل مكافحة تلك الحشرات وتمكنّا من قتل اكثر من 10 ملايين حشرة بالقرب من المستعمرة، ولكن ما نفع ذلك؟ عندما كنا نخرج الى الحقل كنا نربط كعب السروال خشية من ان تنفذ تلك الحشرات الى داخل ملابسنا". وثمة صور من تلك الفترة فريدة من نوعها تظهر بشاعة منظر اجتياح الجراد فلسطين والمنطقة وكأنها صور من الخيال. معرض استوكهولم الحالي يفتح مجالاً لدراسة الصور التي كانت ترسل من فلسطين الى عواصم القرار السياسي في اوروبا، ويفضح جزءاً مهماً من لعبة الحلقة السياسية الصهيونية ويمنح تفسيراً للموقف الشعبي العام في اوروبا الذي يأخذ بمقولة "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض"، فالصور "البريئة" للراعي وماشيته في عين فرح لم تكن الا حلقة تضاف الى الحلقات السياسية التي تدعي عدم وجود أي اثر للتمدن في فلسطين، وان الموجودين في المنطقة ليسوا الا مجموعات من البدو والرعاة والأرض تنتظر "شعبها المختار" ليبنيها.