كلمة "خطاب" العربية هي ترجمة لكلمة "ديسكورس discoursea" الإنكليزية. وكلمة "خطاب" كلمة مركبة وخلافية ولها معان عدة إذ تطور حقلها الدلالي بشكل ملحوظ منذ الخمسينات مع ظهور البنيوية وما بعدها. وقد عُرف الخطاب بالمعنى المعجمي المباشر بأنه "كل كلام تجاوز الجملة الواحدة سواء كان مكتوباً أو ملحوظاً". ولكن للكلام دلالات غير ملفوظة يدركها المتحدث والسامع من دون علامة معلنة واضحة. ولذا عُرف الخطاب بأنه نظام من القول له قواعده وخواصه التي تحدد شكل الجمل وتتابعها والصور المجازية والخواص اللفظية ونوع الأسئلة التي تُسأل والمواضيع الأساسية الكامنة، وما يُقال وما يُسكت عنه، أي تحدد الاستدلالات والتوقعات الدلالية. ويتم إنتاج المعرفة الإنسانية من خلال الخطاب، وكثيراً ما تستمد هذه المعرفة صدقيتها من القواعد التي تحكمها وليس من مطابقة تلك المعرفة لما هو حاصل أو واقع. ولذا فإنتاج الخطاب ليس حراً أو بريئاً، كما قد يبدو من ظاهره. ولكل مجتمع خطابه إذ تتألف الجمل لتشكل نصاً مفرداً، وتتآلف النصوص لتُشكل نصاً شاملاً، أي نسقاً فكرياً متكاملاً ورؤية الى الكون. ومن ثم فالخطاب من منظور فوكوه هو مجموعة من المنظومات التي تنتمي إلى تشكيل واحد يتكرر على نحو دال في التاريخ، بل على نحو يغدو معه الخطاب جزءاً من التاريخ، هو جزء بمنزلة وحدة وانقطاع في التاريخ نفسه. والمحرك الأساسي وراء شكل الخطاب عند فوكوه وغيره هو الرغبة في الاستئثار بالقوة من قبل فئات اجتماعية وهو تفسير دارويني نيتشوي للإنسان ولسلوكه ودوافعه. والخطاب الصهيوني له سمات محددة أهمها المراوغة النابعة من تعدد الجهات التي يتوجه اليها هذا الخطاب وهي الدول الاستعمارية الراعية للصهيونية كحركة تابعة يدعمها ويمولها الاستعمار الغربي. ولا تتوجه الصهيونية الى هذه الدول فحسب أو الى نخبها فحسب وإنما الى الرأي العام غير اليهودي فيها الذي قد لا يدرك الأبعاد الإستراتيجية للتحالف بين إسرائيل والحضارة الغربية، وللجماعات اليهودية في العالم التي تنتمي إلى تشكيلات ثقافية وحضارية وإجتماعية مختلفة. مع ملاحظة أن الصهيونية تعود إلى أصول ثقافية ودينية واجتماعية وطبقية متباينة، وهو ما يجعل لكل فريق صهيوني رؤية وأولويات مختلفة. ومما يجدر ذكره أن التيارات الصهيونية تركت بعض القضايا الأساسية من دون اتفاق، فلم يتم الاتفاق على هوية اليهودي، بل لم يتم الاتفاق على هوية الصهيوني. كما لم يتحدد التوجه الاجتماعي أو الاقتصادي للعقيدة الصهيونية. والمشكلة التي واجهها الخطاب الصهيوني هي كيف يمكن التوجه الى كل هذه القطاعات في وقت واحد، إذ كان على الدولة الصهيونية أن تُقدم نفسها باعتبارها: دولة ديموقراطية تنبع من أيديولوجية ليبرالية وتنتمي إلى الحضارة الغربية العقلانية، وتقوم في الوقت نفسه بطرد الفلسطينيين وهدم قراهم وديارهم وخوض حروب توسعية تُذكّر الإنسان بدولة مثل إسبرطة أو بروسيا لا بأثينا. وكان على الدولة الصهيونية أن تُقدم نفسها باعتبارها دولة علمانية متطرفة في علمانيتها، ولكنها في الوقت نفسه دينية متطرفة في تدينها، ورأسمالية مغالية في رأسماليتها، واشتراكية مغالية في اشتراكيتها. والحركة الصهيونية تقبل اندماج اليهود في غرب أوروبا حتى لا تثير حفيظة يهود هذه البلاد أو حكوماتها ولكنها في الوقت نفسه تطالب بتهجير يهود شرقها. ولإنجاز هذا، ولتحقيق هدفها في اغتصاب فلسطين وطرد أهلها وتجنيد يهود العالم لدعم مشروعها ومده بالمادة البشرية المطلوبة، طورت الصهيونية خطاباً هلامياً مبهماً غير متجانس بشكل متعمد يتسم بدرجة عالية من عدم الاتساق ويحتوي على فجوات كثيرة بهدف تغييب الضحية وتشويه صورتها. كتب هرتزل قائلاً إنه "حقق شيئاً يكاد يكون مستحيلاً: الاتحاد الوطيد بين عناصر اليهودية الحديثة المتطرفة أي اليهود المندمجين في غرب أوروبا واليهود غير اليهود، والعناصر اليهودية المحافظة أي يهود شرق أوروبا واليهود المتدينين وقد حدث ذلك بموافقة الطرفين دون أي تنازل من الجانبين ودون أية تضحية فكرية". كما تباهى هرتزل بمصالحة أخرى أجراها بين الحضارة الغربية ويهود العالم. وهرتزل كان محقاً تماماً في ما يقول، فالخطاب الصهيوني المراوغ الذي وضع هو أساسه نجح في إخفاء كل التناقضات وفي التوجه إلى كل القطاعات المعنية، إلى كل قطاع بصوت يرضيه، كما أنه تجاهل العرب تماماً، فلم يذكرهم بخير أو شر. واحتفظ هذا الخطاب بتوجهه الأساسي من خلال التمسك بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة والمهودة وإخفائها إلى حد كبير في آن واحد، على أن تُعبّر عن نفسها، من خلال تنويعات عليها تخبئها سحابة كثيفة من الإستراتيجيات والحيل البلاغية المتنوعة التي سندرسها حتى يمكننا أن نفك شفرة الخطاب الصهيوني. 1- محاولة تجاهل الأصول التاريخية أو تزييفها: من الحيل الأساسية في الخطاب الصهيوني محاولة عزل الظواهر والدوال عن أصولها التاريخية والاجتماعية والثقافية بحيث يبدو الواقع كما لو كان مجرد عمليات وإجراءات ليس لها تاريخ واضح ولا سياق تاريخي محدد، ومن ثم فليس لها سبب معروف أو اتجاه محدد. فالصراع العربي - الإسرائيلي، على سبيل المثال، ليس ثمرة العقد الصهيوني الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، والذي قامت الدول الإمبريالية بمقتضاه بغرس كتلة بشرية غريبة في وسط العالم العربي والإسلامي، وتحولت هذه الكتلة إلى دولة وظيفية تحتفظ بعزلتها وتقوم بضرب السكان الأصليين وجيرانها لصالح الراعي الإمبريالي. إذ يتم تناسي كل هذا، ويُقدم الصراع العربي - الإسرائيلي باعتباره نتيجة رفض العرب قرار التقسيم وهجومهم "الغاشم" على "اليهود" المسالمين، دون سبب واضح ومفهوم. وتُقدم الصهيونية لا باعتبارها حركة استعمارية استيطانية إحلالية وإنما باعتبارها تعبيراً عن الحلم اليهودي المشيحاني الخاص بالعودة إلى صهيون أو أرض الميعاد، أو باعتبارها حركة إنقاذ يهود العالم من هجوم الأغيار. داخل هذا الإطار، تصبح المقاومة شكلاً من أشكال الإرهاب غير العقلاني وغير المفهوم. ومن ثم، فإن الجيش الإسرائيلي هو "جيش الدفاع الإسرائيلي". وقد سُميت هذه الحيلة "الأكاذيب الصادقة" بالإنكليزية: ترو لايز true lies، فهي صادقة بمعنى أن هجوم العرب على إسرائيل ورفضهم قرار التقسيم ليسا نتيجة عناد لا عقلاني وإنما هو دفاع مشروع عن الحقوق الثابتة التي أقرتها المواثيق الدولية والقيم الأخلاقية. وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم بعض الحيل الصهيونية البلاغية الأخرى. فالإصرار على "المفاوضات وجهاً لوجه" باعتبارها الحل الوحيد والناجع للصراع العربي - الإسرائيلي هو إصرار على إجراءات من دون أية مرجعية أخلاقية أو تاريخية، وكأن الصراع أمر غير مفهوم ليس له أصل، وكأنه ليس هناك حالة من التفاوت والظلم ناتجة عن الغزو. وقل الشيء نفسه عن دعوة الأميركيين لكل من العرب والصهاينة إلى أن يظهروا ضبط النفس والاستعداد لتقديم التنازلات، ويضرب المثل بقرار التقسيم. فقد أظهر الصهاينة الاعتدال بقبول أكثر من نصف فلسطين، أما الفلسطينيون فقد أظهروا تطرفهم برفضهم ما قدم إلىهم. فالاعتدال والتطرف في هذا السياق عُرفا في إطار تجاهل الأصول التاريخية وهو أن المستوطنين الصهاينة مغتصبون جاءوا إلى أرض فلسطين يحملون السلاح واحتلوا أجزاء منها، وما فعله قرار التقسيم هو قبول حادثة الاغتصاب بل منحهم المزيد من الأرض ليؤسسوا دولتهم فيها. ومنذ إنشاء دولة إسرائيل، استمر استخدام هذه الحيلة إلى أن وصلنا إلى شعار "الأرض مقابل السلام" الذي يمكن ترجمته ببساطة إلى "بعض القرى والمدن التي كان تم الاستيلاء عليها بقوة السلاح الغربي تُعاد مقابل السلام الذي يعني وقف المقاومة ويعني الاستسلام". وهذا يعني ببساطة "أرض بلا شعب حي قادر على المقاومة وبلا ذاكرة تاريخية"، أي أنها تعني "نسيان الظلم الذي وقع في الماضي وفرض السلام حسب الشروط الصهيونية". 2- استخدام مصطلحات محايدة هي في جوهرها عمليات تغييب للعرب وللواقع وللتاريخ العربي: من الحيل الصهيونية البلاغية استخدام مصطلحات تبدو كما لو كانت بريئة محايدة تحل محل المصطلحات ذات المضمون التاريخي والإنساني العربي. ولعل أهم هذه المحاولات، بطبيعة الحال، الإشارة إلى فلسطين باعتبارها "أرضاً بلا شعب" فهذه عبارة محايدة للغاية، ففلسطين ليست "فلسطين" أساساً وإنما هي مجرد "أرض" والسلام. وتتبدى الظاهرة نفسها في الخلاف بشأن قرار مجلس الأمن رقم 242 فينص في مقدمته على مبدأ عدم "جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة" ويتعامل مع الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة العام 1967 ويدعو إلى الانسحاب منها. وهنا طرح الإسرائيليون إشكالية الأراضي المعنية وهي "أراض" كما في النص بالإنكليزية، أو "الأراضي" كما في النص بالفرنسية. وكانوا يفضلون بطبيعة الحال النص الإنكليزي لأنه يحّيد الأرض ويفقدها حدودها فتصبح كلها قابلة للتفاوض بشأنها. وقد تدهور تطور الأمر حين قرر الإسرائيليون أن الأراضي الفلسطينيةالمحتلة العام 1967 في الضفة والقطاع "أراض متنازع عليها" بالانكليزية: دسبيوتيد disputed وليست "محتلة" بالانكليزية: أوكيوبايد occupied ووافقهم الأميركيون على ذلك. حاولت الدعاية الإسرائيلية أن تشير إلى "الانتفاضة" باعتبارها "أحداث الشغب" أو مجرد "عصيان مدني" ولكن الانتفاضة نجحت في اختراق المعجم الصهيوني واستقرت كالنجم الساطع داخل الكلمات العبرية والانكليزية. 3- استخدام مصطلحات دينية يهودية في سياقات تاريخية زمنية: هذه الحيلة البلاغية متضمنة في كل الحيل السابقة، ولكنها من الأهمية بمكان بحيث قد يكون من المفيد معالجتها بشكل مستقل. والخطاب اليهودي الحلولي الكموني لا يُفرق بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدس ولا بين المطلق والنسبي، وهذا ما يفعله الخطاب الصهيوني حين يشير إلى فلسطين باعتبارها "الأرض المقدسة" أو "أرض الميعاد" أو "إسرائيل" وهو اسم يعقوب بعد أن صارع الرب. واستخدام المصطلحات الدينية في سياق زمني يخلق استمرارية لا زمنية، فالعبرانيون الذين خرجوا من أرض المنفى في مصر وصعدوا إلى أرض كنعان لا يختلفون كثيراً عن اليهود السوفيات أو يهود الفلاشاه الذين خرجوا من بلادهم المنفى وصعدوا إلى أرض كنعان دولة إسرائيل. ومن هنا تُسمى الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين "عالياه"، من العلو والصعود، بينما الهجرة منها هي "يريداه" بمعنى "الارتداد والكفر". ويؤدي استخدام المصطلحات الدينية إلى خلع القداسة اليهودية على الأرض الفلسطينية، الأمر الذي يعني تحويل اليهود إلى عنصر مرتبط بها عضوياً. أما العرب فيتم تهميشهم، فهم يقعون خارج نطاق دائرة القداسة. 4-إخفاء دال معين تماماً أو محوه من المعجم السياسي والحضاري أو استخدام دوال تؤدي إلى تغييب العرب: يلجأ الصهاينة لمحو بعض الدوال تماماً من المعجم السياسي والحضاري حتى يمكن محو المدلول وإخفاؤه من الخريطة الإدراكية. وهذه الاستراتيجية تضرب بجذورها في الخطاب الاستعماري الاستيطاني الغربي الذي يستخدم ديباجات توراتية. فالمستعمرون الاستيطانيون هم "عبرانيون" أو "الشعب المختار" والبلاد التي يفتحونها سواء في أميركا الشمالية أو جنوب أفريقيا أو فلسطين هي "صهيون" أو "إسرائيل" ويُشار إلى سكان هذه البلاد ب "الكنعانيين"، ولذا فمصيرهم الإبادة. ثم تمت علمنة هذا الاتجاه وأصبح المستعمرون الاستيطانيون "حملة مشعل الحضارة الغربية والاستنارة" وسكان البلاد المغزوة هم "السكان الأصليون" أو "البدائيون" أو "الهمجيون" أو "المتخلفون" أو "الهنود الحمر". وفقدت بلادهم أسماءهم فزيمبابوي أصبحت، على سبيل المثال، "روديسيا". ولم تَعُد بلاد الأباشي والتشيروكي تُسمى بأسمائها وإنما أصبحت "أميركا" نسبة إلى "مكتشف" هذه البلاد أميريجو فيسبوتشي. وقد حدث شيء مماثل في الخطاب الصهيوني، فالمستوطنون الصهاينة هم "العبرانيون" و"الحالوتسيم" في المعجم العلماني، أي الرواد الذين وصلوا إلى الأرض فاكتشفوها، أما سكان البلاد الأصليون فقد أصبحوا إما "كنعانيين" أو "إشماعيليين" وفي الصياغة البلفورية العلمانية "الجماعات غير اليهودية". وتمت إعادة تسمية فلسطين فأصبحت "إسرائيل" وأصبحت عملية الاستيلاء على فلسطين هي مجرد "إعلان استقلال إسرائيل".