«هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في 8 أسابيع وسط ارتفاع الدولار    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    الوداد تتوج بذهبية وبرونزية في جوائز تجربة العميل السعودية لعام 2024م    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    المنتخب يخسر الفرج    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    بوبوفيتش يحذر من «الأخضر»    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الحياد" الغربي بين الفلسطينيين وإسرائيل تغطية عملية للاستيطان
نشر في الحياة يوم 25 - 04 - 2000

رداً على سؤال لماذا لم يزر القدس الشرقية ويلتقي المسؤول الفلسطيني فيصل الحسيني أجاب رئيس الوزراء الكندي، جان كريتيان، وبحيادية لا تردد فيها أنه لا يتدخل في قضايا داخلية.
وعند زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى أراضي السلطة الفلسطينية وإسرائيل طفا على سطح وسائل الإعلام الغربية، المقروءة والمرئية، وحتى في بعض الصحف العربية، تعبير "الأراضي المقدسة" وبكثافة ظاهرة وحيادية مشابهة لموقف كريتيان. فمع أن التعبير قديم ويتلاءم مع الأديان التوحيدية الثلاث في نظرتها لتلك الأراضي كما أنه يناسب صفة الزائر الكبير كرأس للكنيسة الكاثوليكية وعلاقتها الروحية بفلسطين مهد السيد المسيح وعلى رغم أهمية كل ذلك فإن الحقائق الدنيوية تجعل من هذا التعبير موقفاً سياسياً عملياً يلوح أكثر حيادية لكونه يتجاوز الواقع القائم على الأرض، المتنازع عليها كما تود تكريسه إسرائيل وترعاه واشنطن، ويشمل في الوقت ذاته الجزءين الفلسطيني والإسرائيلي.
باللجوء الى تعبير محايد يتم الابتعاد عما أحاط بالزيارة من جدل سياسي يتعلق بتطلعات الطرفين ومراقبتهما لكل حركة وكلمة صادرة عن الحبر الأعظم وانتظارهما موقفاً مسانداً في صراعهما ضمن العملية السلمية المستمرة. هذا الحياد، وهو أقصى ما يمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون والعرب في الظرف الحالي، يغطي بشكل أو بآخر منازعة إسرائيل للفلسطينيين على أراضيهم المحتلة عام 1967 ويدفع للتشاؤم من عملية السلام ونتائجها.
بالحفر قليلاً حول تعبير "الأراضي المقدسة" وتلك الحيادية الغربية في عام 2000 يمكن شرح الكثير من وقائع الماضي وما يجري اليوم من خلف السلام كما يمكن إلقاء الضوء على جذور عدم حساسية الغرب، بشكل عام، تجاه الفلسطينيين والعرب وانحيازه للصهيونية وإسرائيل منذ تصريح بلفور وحتى تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي، جوسبان، ووصفه لمقاومة الاحتلال في جنوب لبنان بالإرهاب.
تعني "الأراضي المقدسة" فلسطين بشكل عام ومناطق الجليل بوجه خاص وكما يحدد قاموس أوكسفورد للغة الإنكليزية طبعة عام 1976، ترتبط فلسطين في الوعي الغربي المسيحي بولادة السيد المسيح ودعوته وصلبه ومن ثم بخسارتها للعرب والمسلمين. أرض مقدسة أو مهد الدين تحت سيطرة آخرين، لا يهم من هم ومن أين جاؤوا أو أنهم من سكان البلد الأصليين، ينتمون في معظمهم إلى دين آخر وامبراطورية ناهضة ومهددة للكنيسة وسلطاتها الدينية والدنيوية في أوروبا المسيحية.
فجوة وفصام بين الأرض وبين سكانها ستتطور النظرة إليها وطرق تجاوزها بتطور السياسة والمجتمع والفكر الأوروبي. في عصر الأفكار الدينية المتشددة وعدم التسامح سيتحول السكان إلى غرباء من الكفرة المسلمين أو المسيحيين المنشقين عن روما أو بقايا اليهود من قتلة المسيح ويصبح بالتالي مبرَراً شن الحروب الصليبية لتحريرها "حتى يطرد الكافرون... وتصبح أرض القبر المقدس في الأيدي المسيحية من جديد" كماي يقول ه.ج.ويلز.
مع نهايات القرن التاسع عشر ستأخذ الفجوة بين الأرض وسكانها، في الوعي الأوروبي معنى ودلالات أخرى إلا أنها لا تزول ومنها سيتمكن المشروع الصهيوني من النفوذ.
انتهت الحروب الصليبية ومال دور الكنيسة في القرون الوسطى الى التراجع في الحياة العامة وشقت الحركة الإنسانية والعودة للأصول الكلاسيكية، يونانية ورومانية، طريقها وسارت أوروبا باتجاه العلمنة والإيمان بالعقل والعلم. لكن الأفكار والتصورات الدينية، على رغم تطورها بفعل حركة الإصلاح الديني والنقد التنويري، استمرت بالتواجد جنباً الى جنب مع التقدم الفكري والاقتصادي وعلى الأخص في ما يتعلق بالأراضي المقدسة والمعرفة بها وبتاريخها وجغرافيتها والذي بقي مستمداً من الرموز الدينية والكتاب المقدس الذي "حفظ وبشكل حي الوعي والاهتمام في تاريخ وجغرافية الشرق الأدنى" كما يذكر تشارلز كييث سيسيلز.
منذ انتهاء الحروب الصليبية وحتى بدايات القرن 19 كانت الأراضي المقدسة كجغرافيا وسكان بعيدة وغير معروفة في الوعي الأوروبي إلا من خلال صورتها الدينية الحية وما طرأ عليها من تعديل عبر فن وأدب عصر النهضة و ما بعد والذي حولها الى نسخة أوروبية من مشاهد الطبيعة وحتى أشخاص المسيح ومريم العذراء والحواريون.
أوربة الأراضي المقدسة، جعلها أوروبية، يقربها ويحولها لمكان أكثر ألفة ويصالحها مع الوعي أو اللاوعي الأوروبي وكأنه يقتلعها من جغرافيتها ويبعدها من سكانها المختلفين، والمعادين، ولذلك يمكن فهم دعوات كثير من الرحالة ورجال الدين والمستشرقين إلى حكم أوروبي لإنقاذها من حالتها المزرية عند بدء إعادة اكتشافها في القرن الثامن عشر. وبعد إنشاء إسرائيل ستبدو الدولة العبرية أقرب الى الغرب وأوروبا في نظامها السياسي وديموقراطيتها واقتصادها وعقليتها من الفلسطينيين والعرب. ولن تتوقف الصهيونية ودعاتها الغربيون وحتى يومنا هذا عن تصويرها كجنة غربية وسط صحراء الجهل والتخلف والاستبداد والتعصب وآخر مثل على ذلك تصريحات شمعون بيريس في منتدى دافوس.
أعاد غزو نابليون لمصر وفلسطين التذكير بوجود الأراضي المقدسة كحقيقة واقعة ومغايرة للصورة المتخيلة وكما ستبين كتابات الرحالة والمستشرقين والرومانسيين والعلماء ورجال الدين. مع الخطاب الاستشراقي، ثم الاستعمار، أضيف إلى الصورة القديمة لسكان تلك الأراضي الموقف الأوروبي المتمركز حول حضارته وتقدمه وقوته فما عادوا كفرة فقط بالنسبة للمتدينين وإنما متخلفون وجهلة وفقراء خاضعون لحكم استبدادي ويشاركهم في ذلك العلمانيون والسياسة الاستعمارية مما يسوغ فكرة السيطرة على بلادهم وادعاء تطويرهم أو هدايتهم واستعادتهم للدين المسيحي، كما رأى وحاول بعض المتدينين، وبغض النظر عما إذا كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهوداً.
تلك النظرة إلى السكان الفلسطينيين تجعلهم أقرب إلى لا شيء بجانب الأرض المقدسة، فهم لا يستحقونها وهي لا تنتمي إليهم ولذا كان ممكناً في حفل إطلاق جمعية استكشاف فلسطين، لندن 1865، لرئيس الاحتفال، أسقف يورك، أن يقول "هذا البلد فلسطين ينتمي لك ولي وبشكل أساسي إنه لنا... إنه الأرض التي يمكن النظر إليها... مثلما ننظر لعزيزتنا إنكلترا القديمة".
وجود فلسطينيون مسيحيون لم يغير في الصورة كثيراً. ومن ضمن الصدمة التي واجهت الوعي الأوروبي عند مقاربته للأراضي المقدسة ومحاولة التعرف عليها في الواقع كان اكتشافه حالها وتخلفها وأوضاع سكانها عامة وبينهم المسيحيون الفلسطينيون الذين بدوا للرحالة ورجال الدين الأوروبيين غارقون "في الخرافات والأساطير ولا يمثلون الوجه الحقيقي" للمسيحية، كما تتجسد في أوروبا، وضحايا الحكم العثماني المستبد والأغلبية المسلمة. لم يكن حال اليهود الفلسطينيين بأفضل من ذلك في نظر الأوروبيين القادمين إلى فلسطين بحثاً عن ردود للتحديات العلمية للمسيحية، اكتشاف علم الجيولوجيا وقدم الأرض لملايين من السنين، أو التحليلات الفيولوجية للغة الكتاب المقدس أو التيار العلماني الليبرالي بشكل عام.
في نهاية القرن الثامن عشر آمن تيار أوروبي بنبوءة تحولهم الى المسيحية وعودتهم الى فلسطين كخطوة سابقة لتحقق عودة المسيح الثانية الى الأرض. وبرزت أفكار ومشاريع تهدف لتحقيق هذه العودة فعلاً دون انتظار تدخل الرب وإرساله المسيح لإنقاذهم وتخليصهم كما يعتقد اليهود المتدينون.
ظهر اليهود الفلسطينيون على مثال باقي مواطنيهم، شرقيين وجهلة وفقراء ومضطهدون ويرفض معظمهم اعتناق المسيحية. أما اليهود الغربيين، الاشكناز، ممن استوطنوا البلاد فكانوا أوروبيين بلباسهم وعقولهم. بالنهاية لم تتحقق النبوءة بشكلها الديني المسيحي وإنما بشكل استعماري صهيوني أوروبي. فاليهود الأشكناز هم من عمل وخطط ونفذ وأنشأ دولة إسرائيل وقادها أما اليهود الشرقيون، ممن هجروا وهاجروا من الدول العربية فلقد انضموا كمواطنين من الدرجة الثانية وشكواهم من تعالي وتمييز اليهود الغربيين تملأ وسائل الإعلام.
بفضل عصر الأنوار والعقلانية تطور وعي علماني وليبرالي متسامح في أوروبا جعل من الممكن تَقَبل فكرة وجود المسلمين والعرب وحقهم في الأراضي المقدسة كما تعبر عن ذلك هارييت مارتينو، في 1848، لكنها لا تزال تتمنى من كل قلبها "لو تركوها لوحدها".
إذاً فصورة الفلسطينيين، من ضمن صورة الشرق ككل، كانت مشوهة في الغرب، لدى ولادة الحركة الصهيونية نهايات القرن 19، بين إرث ديني ونظرة استشراقية واستعمارية. أما يهود أوروبا وبعد قرون من الاضطهاد ونتيجة أفكار التنوير والثورة الفرنسية فلقد بدأ الاعتراف بهم كمواطنين متساويين بالحقوق والواجبات ومع نهاية القرن ذاته كان تم إلغاء معظم قوانين التمييز ضدهم في أوروبا وأميركا وبدا وكأن الطريق ممهداً أمام اندماجهم.
عندما قللت الحركة الصهيونية من أهمية السكان الفلسطينيين، أو نفت وجودهم، كانت تحرث في أرض خصبة. وزعيم صهيوني كاحاد هاحام فوجئ لدى زيارته للأراضي المقدسة 1891، بأنها ليست خالية من السكان فكتب "نحن في الخارج نعتقد أن فلسطين في هذه الأيام مهجورة".
في الكتابات والدعاية الصهيونية والإسرائيلية، ما عدا بعض الأفراد، وللتقليل من وقع الكارثة الواقعة ضد الفلسطينيين سنجد قبائل بدوية مترحلة وقليل من الفلاحين التعساء والباشاوات والأتراك وستقدم البلاد كصحراء حوّلها المستوطنون الى جنة أوروبية وسيقال فلسطين لم تكن كياناً سياسياً أبداً ولم يكن لسكانها هوية وطنية أو طموح بالاستقلال. فالاستيطان الصهيوني تم في شبه فراغ.
داخل الحركة الصهيونية كانت التسمية المفضلة للأرض الموعودة هي، "ارتز إسرائيل"، أي أرض إسرائيل، أو صهيون. تسمية تتجاوز فلسطين والأراضي المقدسة وتقفز فوق التاريخ والسكان العرب وتصل الحاضر بالماضي الأسطوري وتبرر بالتالي "عودة أبنائها المنفيين"، والمعذبين والمضطهدين في كل مكان. اليهود الغرباء في أنحاء العالم عادوا إلى وطنهم، شبه المسكون من غرباء ومتخلفون لا يستحقون الأرض، وتنفيذاً لوعد يهوه لإبراهام وموسى.
لم ينظر الفاتيكان بعين الرضا إلى نشاط الحركة الصهيونية وما تعنيه من إمكانية تهويد الأراضي المقدسة وفي المقابلة بين هرتزل والبابا بيوس العاشر عام 1903، كان جواب الأخير في عدم دعم المشروع الصهيوني وتأكيد الموقف الديني، كما كان في حينها، والمنتظر استجابة اليهود لدعوة المسيح فقال "أنتم اليهود إذا استطعتم الاستيطان في فلسطين فكل ما نقدر على مساعدتكم به هو الكنائس والقسس لتعميدكم".
بين الصورة الدينية والاستعمارية لسكان فلسطين، وبين غيابهم والعرب عن أوروبا والتأثير عليها والتفاعل معها ومع جريمة المحرقة أو الهولوكوست، والهزة التي أحدثتها في الضمير الأوروبي، أصبح ممكناً ولادة إسرائيل وعلى حساب حقوق الفلسطينيين ومطالبهم المشروعة، الحساسية الغربية العالية تجاه إسرائيل واليهود سيقابلها على الدوام موقف غير متحسس للطرف الآخر. ستُدعم إسرائيل بالمال والسلاح والتعاطف الغربي أما الفلسطينيون فيستحولوا إلى مشكلة اللاجئين الإنسانية لا أكثر ولا أقل. وستصدر الدعاية الصهيونية، داخل وخارج إسرائيل، على أنهم لم يطردوا ولم ترتكب مجازر بحقهم وإنما غادروا بإرادتهم وبناء على دعوة الزعماء العرب واستمرار مشكلتهم سببها السياسة العربية المعادية لإسرائيل.
قبل عدة سنوات سألت صحافية فرنسية عن سبب عدم الحساسية الأوروبية لمشكلة الفلسطينيين وحقهم الواضح وحسب قرارات الأمم المتحدة فأجابت لم نكن نعرف شيئاً عن الفلسطينيين بالمقابل كان اليهود يعيشون بيننا وشاهدنا مأساتهم وما تعرضوا له على أيدي النازية وعرفنا عن معسكرات التصفية فكيف لا يمكن ألا نتعاطف معهم.
بالإعلان عن دولة إسرائيل 1948، أطل واقع جديد برأسه مناف لمفهوم الأراضي المقدسة وفلسطين كتاريخ وجغرافيا ويحتل 80 في المئة ويسعى للاستحواذ على الباقي، حصل عام 1967، ويود لو يلغيها يدمجها يحولها بتراثها وماضيها إلى جزء من إسرائيل التي كانت واستعيدت.
لذا سيعمد الصهاينة وأنصارهم حيث أمكن إلى التخفيف قدر الإمكان من استعمال كلمة فلسطين، والموحية بسكانها وبواقع تاريخي كبير، وسيعمدون إلى تعبير الأراضي المقدسة أو السكان العرب أو الشرق الأوسط. على سبيل المثال عند إعادة نشر كتاب باللغة الإنكليزية مطبوع عام 1887 وتحت عنوان "حيفا أو الحياة في فلسطين الحديثة" للورينس اوليفانت ستلجأ دار كنعان للنشر، الإسرائيلية، إلى جعل العنوان "حيفا، أو الحياة في الأراضي المقدسة" مع الإشارة بخط صغير، الى جانب عنوان الدار وحقوق الطبع والنشر، للعنوان الأصلي. ففي الواقع وكما يقول عنوان كتاب إيلان هاليفي، المنشور بالفرنسية، "تحت إسرائيل فلسطين".
خلال رحلة طويلة سيظهر الشعب الفلسطيني، ابتداء من حرب 1967 كصاحب حق لا يمكن تجاهله وسينقل الموقف الغربي، بشكل مبدئي ونظري، للتعامل مع القضية وعلى أساس حقين متصارعين لا بد من تسوية سلمية بينهما أصبحت تعرف بالأرض في مقابل السلام. وتلك كانت سياسة بريطانية، وبموافقة غربية، منذ تصريح بلفور عام 1917. حيادية بين أقلية يهودية لا تذكر في فلسطين وبين شعب قائم في أرضه منذ قرون طويلة. سينمو المشروع الاستيطاني ويصبح دولة، في ظل هذا "الحياد"، وستحتل باقي "الأراضي المقدسة" وسيناء والجولان لتتكرس كقوة أولى في المنطقة وسيستمر احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة ومعه الاستيطان الإسرائيلي مع تغاض عملي سياسي غربي يحول دون دعم أي موقف دولي ضاغط على الدولة العبرية لإنهاء احتلالها غير المشروع.
يمكن اعتبار الانتفاضة الفلسطينية نقطة تحول بارزة فلأول مرة في تاريخ الصراع الطويل تم كسر الصورة التي رسمتها الدعاية الصهيونية لتبرير وجود إسرائيل ولأول مرة اقترب الفلسطينيون من الغرب، وباقي العالم، ليتعرف عليهم، بشكل يومي ومن خلال كاميرات التلفزيون والحرب الدائرة بين أطفال الحجارة وجنود الاحتلال، وعلى المأساة الفلسطينية على حقيقتها. وفي داخل إسرائيل نفسها بدأت النخبة الحاكمة بالتفكير الجدي بضرورة الانسحاب من الأراضي المحتلة. فالأرض المقدسة ليست خالية من السكان ولا يمكن ضمهم وضمها فذلك يُهدد طبيعة الدولة اليهودية كما لا يمكن طردهم تحت سمع وبصر العالم. الحل بالابتعاد عنهم ومحاولة الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الأرض. لقد توقف المشروع الصهيوني بسبب حاجز السكان الذين قُلل من شأنهم في الماضي أو اعتبروا غير موجودين كما صرحت غولدا مائير عام 1967.
بعد اتفاق "أوسلو" ستصبح الحيادية الغربية أكثر تبريراً. فالفلسطينيون غير منسيين وتم إدخالهم بالصورة. والزعماء الغربيون يزورون إسرائيل ويعرجون على المناطق الفلسطينية. لكن بالجوهر تفاصيل التسوية والسلام متروكة لطرفي الصراع. وسيتواصل صراخ وتصريحات عرفات المطالبة بموقف دولي فاعل، أميركي وأوروبي وياباني وروسي وصيني وكندي محاولاً تذكر الجميع وذكرهم، وكما فعل أخيراً أثناء زيارة جان كريتيان ولكن من دون فائدة. فالتدخل والضغط على أي طرف لا أخلاقي وغير مقبول كما تقول واشنطن.
سمع وسيسمع الفلسطينيون مواقف على شاكلة تصريح الاشتراكية الدولية، في ختام اجتماعاتها الأخيرة بالمغرب، مطالبة بوقف "الاستيطان في الأراضي الفلسطينية..." ودعوة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي "إلى تجنب اللجوء الى أي إجراء آحادي الجانب يسيء إلى نتائج المفاوضات النهائية". أكثر من هذا يجب ألا ينتظر العرب والفلسطينيون. فمثلاً أن تعمد الاشتراكية الدولية إلى تعليق عضوية حزب العمل الإسرائيلي، الحاكم حالياً، لأن الاستيطان لم يتوقف، أمر لا تطيقه الحساسية الغربية تجاه إسرائيل والهولوكوست وضحايا النازية ولا داع له عملياً طالما الفلسطينيون ضعفاء والعرب ممزقون. صحيح أصبح الفلسطينيون موجودين كشعب في الوعي الغربي لكن باقي التفاصيل هي مشكلتهم وحدهم. الغرب بالنهاية عقلاني وبراغماتي فهل هناك من سبب، سوى الأخلاق، الإنسانية تدعو الى موقف مختلف؟!
ضمن السياسة الغربية هناك خط أحمر هو وجود وأمن إسرائيل كمن لا يوجد خط مماثل لحقوق الفلسطينيين وحدود أرضهم فالأمر متروك للتفاوض بينهم وبين أقوى دولة في الشرق الأوسط.
خاطب البابا الفلسطينيين، أثناء زيارته، قائلاً: "لقد طال عذابكم تحت سمع وبصر العالم. لماذا وكيف سؤال يخاطب الغرب والإسرائيليين واليهود في العالم ومحبي السلام. فهل يكفي الإقرار بوجود الفلسطينيين وحقهم وتركهم لإملاءات سياسة القوة الإسرائيلية؟". بين الحياد الغربي في عام 2000 والعجز العربي والضعف الفلسطيني تخطط إسرائيل للاحتفاظ ب30- 40 في المئة من أراضي الضفة وغزة وليعلن عرفات دولته على باقي الأراضي وعلى السكان الفلسطينيين.
* كاتب فلسطيني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.