يبدو أن الجرح الفلسطيني الغائر في صميم الوجدان العربي ينزف من الشعر بقدر ما يريق من الدم، وأن كثافة المحنة وامتدادها الى سؤال الوجود ذاته، في أقسى تحدياته، تفجر من الطاقات الروحية والإبداعية ما لا تقوى عليه المواهب المبددة في الشواغل الصغيرة. وأن ما كان يخشاه الشعراء الفلسطينيون من أن تكون حفاوة الجمهور العربي بهم، وتعاطفه معهم، جزءاً من عذاب الضمير القومي قد انقلب دَيْناً لهم في عنق الثقافة العربية، فهم اليوم أبرز من تتوهج في حروفهم قناديل الشعر، وتحيا في دواوينهم تجاربه الساخنة. ومحمد القيسي واحد من ألمع وأخصب الأصوات الشعرية الفلسطينية، نضجت خبرته الجمالية في القصيدة، وتعمقت إنجازاته في بوتقة المحنة، وإن كان الإكثار دائماً مظنة الهذر، وديوانه الجديد "الأيقونات والكونشيرتو" يقدم آخر تجليات هذه التجربة في صناعة الرموز والأشكال الشعرية، وقد كتبه - كما يذكر في المقدمة - خلال شهور قليلة من الاعوام الثلاثة الماضية، في الجزء المتاح من الأرض المحتلة. فهو يجمل في ذبذباته إيقاع الحياة المحاصرة في الداخل، ولون المشاعر المحتدمة على ترابه، لا يكثف مذاق اللحظة الراهنة، وندوب الماضي العميقة في لمحة واحدة فحسب، بل ينطلق من توق محموم ومزمن لدى الشاعر، لصناعة شكل فني جديد للقصيدة العربية، تتجسد فيه الخطوط البصرية على نمط الأيقونة، باعتبارها: "الصورة التي تشبه معناها بينما ترمز اليه، كصورة الصليب والهلال في الدلالة على المسيحية والإسلام، وربما كان تأمل بعض النماذج الشعرية أقرب السبل لاستشعار أبعاد هذه التقنية. يقول القيس في "أيقونة غزة" مثلاً: "تغرق غزة في البحر/ ولا بَرَّ لها/ لا ساحل للأحلام،/ وغزة عشاق منسيّون،/ مرايا منكسرة./ أي حوار يتظافر بين البحر وغزة/ إذ يشتبكان مع العتمة/ ويصيران إلى قفص ليلي/ وشواهد منتشرة". فهو يرسم بالكلمات صورة لاستراتيجية مدينة غارقة، لا يطوقها البحر - مثل الجزيرة المنسيّة - فيحاصرها وتذوب عشقاً في مياهه، لكنه يردعها عن الامتداد والتنفس، بينما بقية الأرض تدير ظهرها لها، فهي مبتورة عما يكملها. وإذا كان البر دائماً هو الذي يصنع مع البحر منظومة الفضاء الطبيعي، فإنها بلا برّ، ساحلها مجدب من الأحلام، مع شدة الحاجة إليها، فأهلها عشاق مهجورون، يتشظون في فتات المرايا المنكسرة. ومع أن الموانئ عادة ثغور ومنافذ لكن غزة تستحيل الى قفص ليلي عندما تحاور البحر في العتمة، ولا ينجم عن حوارهما سوى الموت، لقد أصبحت غزة، هكذا، نموذجاً فادحاً للحصار الطبيعي، وتجسيداً موجعاً لجغرافيته: "ما بين الرمل وبين الماء تجول،/ بريداً لا يصل إلى يوم،/ وتويجاً يذبل، أو شجرة./ تركتها الريح الى العزلة/ فارتجفت/ منتحرة". لا يتدخل صوت القصيدة في تجاويف الصورة، يتركها ماثلة أمامنا، ناطقة بمعناها، حيث نشهد شكلاً مأسوياً لقفص ليلي ضيق، وشجرة تذبل، وشاهداً ينتصب" أيقونة مجسدة لرجفة الانتحار، رمزاً لنفسها وللوطن السليب كله. بين الحب والشعر كغيره من العائدين الذين يرون مرة أخرى الأرض التي ما زالت محتلة، يطوف بنا محمد القيسي بين مرابع صباه ونوادر ذكرياته مع الزعران والصبايا والأماكن، يشهد سينما "دنيا" وهي تتهدم، ويمضي الى شارع المكتبة، ويقتفي أثر "حمدة" ويشم ريحها في كل الأرجاء، فقد تضخمت في شعره واحتلت أكثر من ديوان، وانتقلت من الأم الى الأسطورة المجسدة، كما يمر على "عين مصباح" التي يذكر أنه قال عنها في صباه وهو ما زال يلهو بنظم اشعاره الساذجة العام 1962: قف بنا لحظة يا صاحي قد مررنا على عين مصباح عندئذ يتذكر خليلته، وكيف صار أمره معها في ما بعد خلال رحلة الحياة: "كنت آخذها البرّ، ونأتي غابة الزيتون/ أحياناً الى القدس، ونمشي تحت ظل السوبر/ نحو المسجد الأقصى،/ و"حلويات جعفر". ندخل الأسواق من حيّ الى حيِّ/ ونبكي فرحاً بالحب، طيْرين طليقين/ ولا نسأل أكثر. أقف اليوم على العين وقد/ أعطتني الطفلة في ما بعد أبناء كثيرين/ وطافت ست بلدان معي/ قبل أن أفلت في التجوال وحدي/ أتهجى الريح والريحان/ مسكوناً بحمى ولعي". وهنا نلاحظ ان الشاعر هبط الى مستوى السرد النثري الموزون، حيث وقع في شرك تصور القيمة الشعرية للذكريات والأماكن، من دون أن يبث فيها وهجاً خاصاً يجبر القارئ على مشاركته التحنان والتبصر، وهذا من مزالق الكتابة المكثرة المتدفقة، حيث لا تتوقف للمراجعة والتدقيق، وحيث يتوهم الشاعر عادة أن "الموقف" الذي ينطلق منه كفيل بضمان غطاء جيد لرصيد الشعرية، من دون أن يبذل جهداً واعياً لتحويل القيمة الحيوية الى بنية جمالية متألقة ومكتفية بذاتها. لكنه عندما يلتفت الى دقائق وعيه اللغوي بالحياة، ومعاناته في تشكيل صيغها، ويقتنص من تجاربه مع مبارزة الكلمة ما يتأبى عليه، ويجعل ذلك موضوعاً لنوع من كلام الشعر عن نفسه، يبدع حينئذ أيقونة مرهفة ومكتنزة بالدلالة، تتجلى فيها بعض آليات التكوين وأسرار النظم حيث يقول: "هذه الجملة حامت منذ أعوام على روحي/ وحطت فوق أوراقي من الشباكِ كالعصفور،/ ما آلت إلى شكل ولا جادت/ بأزهار البساتين، ولا البرق اليماني". أحاولها مراراً./ لم تزد حرفاً، وتستعصي عليّ/ أصدّ عنها إذ تصدّ ورغبتي فيها/ تظل الريح مأواها، كما الصفحات،/ لم أمسك بأطراف الجديلة،/ ذات يوم، أو أفز منها بمعلومِ/ فظلت هكذا:/ "}لأكن شهيدك... أو نشيدك{". فيتراءى أمامنا ملمحان بارزان من الشعرية المعاصرة: أحدهما: يتصل بطبيعة اللحظة الشعرية، باعتبارها إنماءً لبذرة لغوية تحمل في جيناتها، وخواص تركيبها، روح الإيقاع، ومفتاح الانهمار التالي لها. وثانيهما يفسر عقم الجملة الشعرية الموجزة المباشرة، التي تحدد خيار الشاعر بين الشهادة والإنشاد، فترسم الخطين الكبيرين اللذين تصطبغ بهما الأرض الفلسطينية اليوم من الدم والشعر، لكن الفراغ الواقع بينهما هو الذي يمنح المبدع فضاءً حيوياً يتحرك فيه حتى يمسك بطرف الخيط أو مجمع الجديلة، ويعرف كيف يبني عالماً شعرياً غنياً بالألوان والتفاصيل، لا يختزل في طرفيه الحادين المسوّرين بالقافية، فهذا الاختزال ذاته ترجمة للحصار عندما ينقلب الى حصر وعيّ وعجز عن متابعة القول، ومعنى ذلك ان حركة القصيدة وهي تشرح ما يحدث مع الجملة المنكفئة على داخلها تقدم أيقونة رمزية دالة على معناها ومجسدة له بشكل بصري ومعنوي متضافر. أيقونة أندلسية أما النموذج الأخير الذي نريد أن نتأمله فهو أيقونة أبي عبدالله الصغير، آخر ملوك بني الأحمر في غرناطة، والشاعر يهديها الى الكاتب الاسباني المعاصر "انطونيو جالا" أبلغ من كتب في الأدب الإسباني الحديث مطارحات بديعة عاشقة للأندلس العربية، من آخرها "المخطوط القرمزي" الذي يشير اليه الشاعر وهو يتماهى مع أبي عبدالله نفسه، ويكرر مشاهد الوداع المحفورة في ذمة التاريخ من ناحية والمطلة من نذر الواقع المعاش من ناحية أخرى، لكن ما يشغلنا في قراءة هذه الأيقونة هو الأصداء التي تتردد فيها من مخزون الشعرية العربية، بما يضعها في موقف تنافسي حاد. حيث يقول القيسي: "أقول لنفسي وداعا/ أقول لها/ نحن نذهب منا/ ونفقدنا كل آن تباعَا/ وكل مساء،/ أحدق في ما خططت،/ أراني:/ جوهرتي فيّ تزداد نأياً/ ويزداد ليلي نزاعا/ أقول لنفسي وداعَا". نجد الأبيات تومئ الى أفق أندلسيّ، بينما تختزن في ذاكرتها الايقاعية والتعبيرية، أبياتاً أخرى تتناصّ معها لشاعر مشرقي، لعله قطري بن الفجاءة، حيث يقول في ما يشبه رثاء الذات: "أقول لها وقد طارت شعاعا/ من الأبطال ويحك لن تراعي/ فإنك لو سألت بقاء يوم/ على الأجل الذي لك لن تطاعي". لكنها تجترح انحرافاً لغوياً تكرره وتصر عليه، عندما ترغم ضمير المتكلمين، في اتصال يأتي مكان الانفصال، في "نذهب منا" و"نفقدنا" ثم يسجل صوت القصيدة انفصاله عما يخط من أبيات، حين يرى أن "جوهرته" فيه تزداد نأياً، وليست تلك الجوهرية في ما يبدو سوى ذاته الشاعرة، حيث يعتبرها حقيقة وجوده، مما يجعل ثلاثية الوداع من فقد وضياع ورثاء للذات هي التي تستبد به عند وقوفه على الطلل الغرناطي المتجدد: "لأزهار صدري أقول/ لقلبي يرنّ على العتبات، مريضاً/ يرن على السور، والشرفات،/ على جنبات "العريف"،/ يرنّ على ما تبقّى التياعا/ أقول وداعا". واذا كان الزائر العربي العابر، لا يتمالك نفسه من الشعور بأن قلبه يسقط على الأرض، يرن على الأسوار والعتبات عندما يرى جنبات العريف وقصر الحمراء، فإن الشاعر الفلسطيني الذي يشهد أمثولة التاريخ ويستحضر فردوسه المفقود لا بد من أن يكون شعوره أنكى وأمرّ، فهو عندما يدمج ضمير المتكلم في وعي الملك الغرناطي يتبنى صوته، ويبوء بوزره، يتقنع بلثامه ويرتكب آثامه، حتى ليكاد مثله "يبكي كالنساء على ملك لم يحافظ عليه كالرجال". لكنه لا يستجيب لما نتوقع منه عندما يقول: "أقول وجنباي لا يستريحان في فاس:/ إلاكِ لا غالبي/ لا رياحين منك/ ولا ظل حولي/ أتممت عمري غريباً/ كما بدأته يداي هناك صُداعاً". فهو قد نجح من قبل في محاورة نصوص شعرية من التراث المشرقي والأندلسي، حوّرها واستقطر ايقاعاتها الموسيقية وايحاءاتها الدلالية، لكنه يرتبك هنا في توظيف الشعار الأندلسي الشهير المنقوش على جدران الحمراء "لا غالب إلا الله" فهو يقدم المستثنى على مرجعيته من دون ضرورة دلالية أو وزنية، ويضع ضمير المخاطبة مكان اسم الجلالة، ويجعل ذاته هي المغلوبة في قوله "إلاكِ لا غالبي" فتنقبض الجملة الشعرية، وتفقد وضاءتها وتحديها للزمن، من دون ان تكتسب مثلاً هذا الحسّ المأسوي الذي نجح أمل دنقل من قبل في إثارته عبر قصيدته "رسوم في بهو عربي" إذ يقول: "اللوحة الأخرى بلا إطار/ للمسجد الأقصى...". "وكان قبل أن يحترق الرواق وقبة الصخرة والبراق/ وآية تآكلت حروفها الصغار:/ نقش: مولاي لا غالب... إلا النار". ومهما كان الضمير الأنثوي عند محمد القيسي موجهاً الى عروس المدائن غرناطة، فإنها عندما تنتهي بكلمة الصراع تكون قد آذنت بتصريح الجملة التراثية ثم يعود صوت القصيدة ليكمل في المقطع الأخير: "وأتممتني مزقاً من غيوم،/ ومدّ بساتين لا تنتهي في تفاصيل مخطوطي القرمزي،/ وطيرّت روحي رقاعا/ أقول لنفسي/ أقول وداعا". فيسترد قدراً كبيراً من شجاه وعرامته، وتسلس في أصابعه الجملة الشعرية وهي تتشكل لتطير مع الروح في رقاع مبددة، ويتكفل إيقاع الوداع بحفر صورة الملك الغرناطي وهو يتماهى مع الشاعر الفلسطيني ليقدم رؤية مرهفة للأحزان المضاعفة، وهي تصطبغ بلون قرمزي يجمع بين جوهر الدم والشعر في خيط واحد موصل بين أرض الأندلس والجزء المتاح من فلسطينالمحتلة.