؟ البحر الذي كان يخافه درويش، لم يزل هائجا مضطربا، كعادته دائما ؛ لكنه لم يبتلع درويش كما كان يظن وصرّح بذلك في أكثر من قصيدة. والجدارية التي وصف فيها لحظة لقائه بالموت بقيت كما يبقى الشعر الحقيقي دائما، لكنّ شاعرها ذهب ونال منه الموت كما كان يتوقع الشاعر في جداريته. غير أنّ درويش لم يفته أنء يعبّر عن هزيمة الموت كما كان يظن حين صرخ في جداريته تلك: هزمتك يا موت الفنون ! وإذا كانت مسلة المصري، وحدائق بابل، والنقوش الهندية، قد هزمت الموت ببقائها كون الفن عصيا على الموت ؛ فجدارية درويش، بل شعره كله قد هزم الموت ببقائه الأبدي. شيء ما جعل الشعر الفلسطيني يفقد بريقه، منذ أن قال طبيبه في "العربية" معلنا عن وفاته : مات درويش قبل ثوان فقط ! درويش هو الشعر الفلسطيني والشعر الفلسطيني هو درويش، مع كل الاحترام والتقدير لرفاق درويش، من أمثال سميح القاسم. ومحمد القيسي، والبقية... فهو الذي عبّر عن شعر المقاومة الفلسطيني أيما تعبير، وعبّر شعره ايضا عن تجربة البقاء الإنساني في مثل ظرف كظرف الفلسطيني الذي يرزح تحت احتلال غاشم، جاء هكذا فوق أرض ما كان يجب أن تبقى محتلة. كيف سنقرأ الشعر الفلسطيني دون نكهة محمود درويش بعد الان ؟ كيف سنتعود على شعر فقد صوته القوي، وربانه الماهر، كيف سنتعود على الشعر العربي عموما بدون أن يكون محمود درويش حاضرا به في الأمسيات الشعرية طوال عقود وهو يصدح بالشعر، وينسى الناس كل شيء في حضرة شعره الذي يتفق عليه الجميع على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم. لشعر درويش مذاقه الخاص، ولغته الخاصة، له لغته التي كانت قوية وفوق كل شيء، لم يصمد أمامها جبروت المحتل، ولا آلته العسكرية، ولا حتى إعلامه القوي، ولا ذلك اللوبي الصهيوني المطبق على الأرض كلها . كانوا يخشون قصيدة من قصائده، لأنهم يعرفون تماما وقع كلمات درويش القوي. شيء ما كان يجمع الفلسطينيين حول شعر درويش، شعر الأرض والمقاومة، سيفتقده الفلسطينيون كثيرا، هذا الصوت الذي كان يجمعهم رغم طوائفهم التي أغلط في عدّها، وانقساماتهم التي باتت تتصدّر نشرات الأخبار يوميا، فحين تقام أمسية لدرويش، كان المحاربون يقفون ساعة بعيدا عن فوهات البنادق، ليجتمعوا حول الكلمة الرصاصة.فكأنهم يشحذون من شعره طاقة جديدة تعينهم على المقاومة من جديد، والآن بعد أنء رحل درويش، من سيجمعهم في ساعة الهدنة، ساعة يصدح صوت محمود درويش، الصوت الذي يتفقون عليه تماما على اختلاف طوائفهم ومليشياتهم، وآرائهم المتعددة. أية أرض هذه التي ستجمع ذرات درويش، وستختزن صوته الأبدي، وصدى كلماته ! هذه الأرض التي عاد إليها دون أن تحرر، هاهو يدفن فيها دون أن تتحرر ايضا، ولكن سيبقى صدى كلماته يرن، وسيتعلمها الصبية الفلسطينيون كما يتعلمون المقاومة، والانتماء للأرض، فأيّ شرف ناله هذا الشاعر الأسطورة، بعد أن غرس شعره في الأرض، قبل أن يدفن بها. وداعا درويش... سأكتفي هذا المساء بسماع صوتك على نغمات مارسيل خليفة،وسأرتب كل شيء هنا ابتداء من سيجارة (مارت) التي تحبها، وسأطل على الشرفة من بعيد، صوت الجدارية يجادل الموت في تحدٍ غريب، والأرض الفلسطينية هنا معلقة على جدار في هذه القرية النائية، حيث اخترت منفاي. لكنك تطل على كل شيء، وستظل تطل طالما بقي صوتك بيننا.