في أيام كثيرة، نعيش تحت وطأة بعض الصور الاستيهامية التي نحملها من حلم الليالي. وفي محاولة للفهم نشعر أننا شخصان، أو كأننا كنا في زيارة للداخل العميق. سر الحلم هذا، كيف يحاول العلم كشف الستار عنه؟ خصص ميشال جوفيه عضو أكاديمية العلوم الفرنسية، جلّ بحوثه لدراسة الأواليات العصبية البيولوجية في الحلم. وأجرى دراسات رائدة على مرحلة الحركات السريعة للعينيين REM أو Rapid Eye Movements من الحلم، في مختبر الحيوانات سنة 1959. ثم شرع في دراسة ميكانيزمات النوم بالطرق الفيزيولوجية - الكهربائية وبالطرق التشريحية. وفي أواخر الستينات ركز جهده على دور النواقل العصبية Neurotronsmitters في تنظيم النوم. وفي كتاب "النوم والحلم" باريس، دار نشر أوديل جاكوب يحاول جوفيه الافتراق على نحو جذري عن مقاربة مدرسة التحليل النفسي الفرويدية. اذ انه لا يهدف الى تفسير محتوى الحلم، بل دراسة المظاهر الفيزيولوجية التي ترافقه. ومن المعروف في الانتروبولوجيا ان الحلم هو في أصل اعتقادات البدائيين بالأرواح. ويعرفه جوفيه بأنه "حال عمل ثالثة للدماغ تختلف عن اليقظة والنوم". فخلال الليل، نمر في نوعين من النوم: ندخل أولاً في مرحلة نوم مع تموجات بطيئة نوم خفيف مدته 25 دقيقة تقريباً تنخفض حرارتنا خلالها بما يسمح للجسم أن يتزود كل طاقته، ويكون التوتر العضلي في حال لا بأس بها، ويطلق عليها "نوم انعدام الحركات السريعة للعينيين"، Non-REM Sleep. ومن ثم ندخل في مرحلة يطلق عليها "النوم التفارقي" أو "نوم الحركات السريعة للعينيين"، وتتميز بتموجات قصيرة مع نوم عميق وتدوم ست دقائق. ويسجل خلالها نشاط دماغي من خلال حركات بصرية سريعة، وزوال التوتر العضلي ووجود انتصاب دوري ويكون التنفس غير منتظم، وتمر أوقات قصيرة من التذبذب وعدم الانتظام في النبض وضغط الدم. واذا أيقظنا شخصٌ أثناء المرحلة الأولى من النوم، فهو نادراً ما يتذكر الحلم بخلاف الذي ينهض خلال "النوم التفارقي" أي خلال الحلم. أجرى جوفيه اختبارات على القطط الأليفة واستنتج أنها تحلم مرتين أكثر من البشر. وبمعاونة فريقه أجرى جراحة على قطة في عنق المخ عند مستوى الأواليات التي تُعطِل النشاط العضلي خلال النوم. حين تستيقظ القطة تكون في حال طبيعية جداً، لكنها عندما تدخل في مرحلة "النوم التفارقي" تبدأ بعيش الحلم حرفياً: تنهض القطة، تفتح عينيها، وهي في الحقيقة لا ترى ولا ترد على المثيرات البصرية والشمية. وتترصد وتطارد فرائس وهمية. وقد لوحظت هذه الظاهرة، في الحدود الدنيا، عند الانسان الذي يُعاني عطباً عصبياً مماثلاً، والذي يقوم خلال الليل فيضرب أو يهاجم من يكون بقربه وهو في عزّ "النوم التفارقي". ويظهر الحلم على هذا النحو كأنه "لعبة داخلية للدماغ". وأمكن تسجيل ظاهرة "النوم التفارقي" عند غالبية الكائنات الحية ذات الدم الدافئ في ظل درجات حرارة ثابتة ومستقرة. وشرح جوفيه ان هؤلاء، خلال أيامهم الأولى الطفولة ينامون كثيراً ولديهم مراحل "نوم تفارقي" طويلة. وخلال تلك المرحلة يلجأ الجسم الحي الى انضاج نظامه الوراثي الجيني والعصبي. وتتوقف الخلايا تالياً عن الانقسام، ما جعل البعض يعتقد أن بناءنا الوراثي ثبت نهائياً. أما بحسب جوفيه فإن البرمجة الجينية تتأكد خلال الحياة. وهنا يصوغ فرضيته المذهلة التي تقول إن هناك اعادة برمجة تحصل خلال "النوم التفارقي". فقد تقوم في الواقع صلة بين النشاط الدماغي المكثف للحلم والنظام الجيني، تسمح باقامة "المدارات العصبية" المتصلة بعناصر الوراثة ذات الاثر النفسي، وتثبيتها من خلال اعادة التوكيد الليلي للمعطيات الوراثية التي تجعل منا أفراداً مختلفين! وعلى هذا النحو تتم المحافظة على سمة التنوع المهددة من التشريط الاجتماعي. وليس الوسط الاجتماعي - الثقافي وحده في رأي جوفيه، مسؤولاً عن تشريط وجودنا. والحال أننا نميل الى الظن أن الوراثة البيولوجية لا تتماشى مع مذهب الحرية. وهذا خطأ في ظنه، لأن التاريخ المعاصر بيَّن لنا فشل كل محاولات التطويع النفسي تجربة الاتحاد السوفياتي السابق. من المحتمل ان يكون ذلك لأن الناس على رغم كل شيء استمروا في الحلم!... فهل الحرية هي مجرد معطى بيولوجي...؟ قطة "تعبر بالسلوك الصريح عن نوم الحركات السريعة للعينين عندها" لو دمرنا بعض الخلايا العصبية المحددة في ساق المخ، نجد ان النشاط العضلي أثناء نوم الحركات السريعة للعينين لا يعود يخضع للكف أو التعطيل. وعندئذ ترفع القطعة النائمة رأسها وتنهض وتتجول حول مكانها، وتبدو كأنها تهاجم أشياء لا وجود لها. * كاتب لبناني.