منذ قمة كامب ديفيد في تموز يوليو الماضي وتفجر انتفاضة الاقصى التي اعقبتها، واجه الفلسطينيون نزفاً كبيراً للتعاطف من مؤيدين سابقين في ارجاء العالم، لكن بشكل اكثر حدة من معسكر السلام في اسرائيل ومن اوساط رسمية وشعبية كثيرة في الولاياتالمتحدة. وكان السبب وراء هذا التحول رفض ياسر عرفات اقتراحات الوضع النهائي التي قدمها ايهود باراك في كامب ديفيد، التي اُعتبرت على نطاق واسع اقتراحات سخية بشكل استثنائي، وتفجشر اعمال العنف غير المسبوقة من جانب الفلسطينيين بعد ذلك بوقت قصير. اصاب الذهول والتشوش مؤيدي الكفاح الوطني للفلسطينيين. فقد بدا لهم ان تنكر الفلسطينيين للتنازلات السخية لباراك يعزز صدقية اصرار معسكر الصقور في اسرائيل منذ وقت بعيد على ان هدف عرفات لم يكن ابداً دولة فلسطينية بجوار اسرائيل بل دولة فلسطينية بدلاً من اسرائيل. وادى هذا التشوش لدى اليسار السياسي في اسرائيل الى انتخاب شارون رئيساً للوزراء بفارق كبير على نحو غير عادي، والى قرار حمائم حزب العمل السابقين - في مقدمهم شمعون بيريز - الانضمام الى حكومة شارون. وتكشف ردود الفعل الاسرائيلية والعالمية هذه قراءة خاطئة فاضحة لأساسيات النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني. فهذا النزاع هو صدام بين حركتين قوميتين. ولم تحقق سوى احداهما، الحركة الصهيونية، هدفها عندما تبنت الاممالمتحدة في 1947 قراراً يدعو الى اقامة دولتين منفصلتين، واحدة عبرية والاخرى عربية، باعتبار ذلك الحل العادل الوحيد للمطالب المتعارضة. لم تكن الورطة بالنسبة الى المجتمع الدولي كيف يمكن تبرير المطلب العربي. فعرب فلسطين كانوا يعيشون هناك منذ ما يزيد على ألف عام، ولم يكن مطلبهم بالأحقية في الارض موضع شك. بل ان ما كان موضع شك هو مطلب اليهود، خصوصاً انه استند على الهجرة الحديثة العهد لليهود من بلدان غربية الى فلسطين. وبتبني قرار التقسيم انتزع المجتمع الدولي نصف فلسطين تقريباً من سكانها العرب. وقد فعل ذلك انطلاقاً من اعتقاده بأنه في منظور تاريخي اكبر، يشمل تاريخ اسرائيل القديمة واضطهاد اليهود الذي توّج في المحرقة، يعتبر التقسيم مبرراً. لكن التقسيم لم يشكك بحقوق السكان العرب في النصف المتبقي من فلسطين. اعتبر العرب في فلسطين، الذين عاشوا في هذه الارض لمدة تزيد على ألف سنة، ان الارض ليست ملكاً للامم المتحدة كي تهبها. ورفضوا التقسيم، وتوجهوا الى الحرب ضد الدولة العبرية الجديدة. نجم عن هذا الرفض، رغم ان في الامكان تفهمه من منظور انساني، الحاق الأذى بالفلسطينيين انفسهم: خمسة عقود من التشريد والاحتلال العسكري وخسائر كبيرة في الاراضي. وعندما وقّع الفلسطينيون اتفاقات اوسلو في 1993، تخلوا عن كل مطالبهم الشرعية ليس في الاراضي التي خصصتها الاممالمتحدة لليهود فحسب بل في اكثر من نصف الاراضي التي كانت الاممالمتحدة خصصتها للفلسطينيين، وقبلوا بدولة مؤمل بها لا تضم اكثر من 22 في المئة من فلسطين الاصلية تحت الانتداب، لتبقى 78 في المئة تحت سيطرة اسرائيل. قد يستنتج المرء من الاشارات المتكررة الى تنازلات باراك "السخية" للفلسطينيين في قمة كامب ديفيد في تموز يوليو الماضي، ان باراك عرض إعادة جزء من حصة ال 78 في المئة التي تسيطر عليها اسرائيل. في الواقع، اقترح باراك ان يسلّم الفلسطينيون لاسرائيل 5-10 في المئة اضافية من الحصة المتبقية للفلسطينيين، ليزيد بذلك حصة اسرائيل الى 80 في المئة. لذا يمكن ان نغفر للفلسطينيين عدم تهالكهم للاستجابة ل"سخاء" باراك. ربما كان رفض عرفات لاقتراحات باراك خطأً فاضحاً ذا ابعاد تاريخية على المستوى السياسي. لكن كما تلمح هذه الرؤية التاريخية المختصرة يمكن قطعاً تفهم رفض الفلسطينيين، من منظور قانوني واخلاقي، اقتطاع المزيد من الحصة المتبقية لهم من الارض. ويقتضي التفسير الفلسطيني لقراري الاممالمتحدة 224 و338، اللذين يمثلان الاساس القانوني لاتفاق اوسلو - وهو تفسير تؤيده الغالبية الساحقة من المجتمع الدولي - ان تنسحب اسرائيل اساساً الى خطوط 1967، لكن مع تعديلات ضئيلة. لذا فإن اقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة لا تمثل، وفق منظور الفلسطينيين، هدية تمنحها اسرائيل. وحسب ما يرى الفلسطينيون فإن اسرائيل تدعي أحقيتها في أن تقرر لوحدها ما يمكن ان تضمه من حصة ال22 في المئة المتبقية للفلسطينيين كي تعزز أمن ال78 في المئة من الارض التي تسيطر عليها بالفعل. كما تصادر اسرائيل اراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية لا ليتوفر الامن لاسرائيل ما قبل 1967، بل للاراضي الفلسطينية التي تريد ضمها، لتضيف بذلك مهانة الى الأذى. فاسرائيل لا تطالب، على سبيل المثال، بضم ثلاثة مجمعات استيطانية كبيرة، تشكل 2 في المئة من الاراضي الفلسطينية فحسب، بل تطالب ايضاً بضم 3 الى 4 في المئة اضافية من اراضي الفلسطينيين المجاورة لهذه المستوطنات كي توفر الامن للمستوطنات التي يتم الاستيلاء عليها. هذه المطالب الاسرائيلية لا تجيز التوقعات السائدة بأنه كان ينبغي للفلسطينيين ان يُغمى عليهم من فرط الامتنان عندما سمعوا اقتراحات باراك. في نهاية المطاف، لم يكن السبب وراء انهيار علاقة معسكر السلام الاسرائيلي مع الفلسطينيين هو رفض اقتراحات باراك بل تفجر انتفاضة الاقصى. لا أحد في اسرائيل مستعداً للتسامح مع لجوء الفلسطينيين الى العنف او لغفرانه. فالنقطة الاساسية في اتفاقات اوسلو هي ان كلا الطرفين يتخلى عن استخدام العنف ويلزم نفسه حل الخلافات بينهما حول طاولة المفاوضات. لكن الفكرة الاسرائيلية القائلة بأن الفلسطينيين هم الذين يلجأون مراراً الى العنف بينما لا تفعل اسرائيل ذلك ابداً، مهما كانت عيوبها، هي محض خرافة. فمشروع الاستيطان بأكمله في الضفة الغربية وغزة نُفّذ بعنف اسرائيلي. وفي مواجهة المقاومة الفلسطينية، لم تنشئ اسرائيل المستوطنات اليهودية الاّ بوسائل عنفية: القوة النارية للجيش الاسرائيلي. وترد اسرائيل عادةً على هذا الاتهام بالمجادلة بأن اتفاقات اوسلو لا تحظر بشكل صريح انشاء المستوطنات اليهودية على اراضي الفلسطينيين. وهي حجة جائرة، لانها يمكن ان تستخدم لتبرير الاستيطان اليهودي حتى آخر شبر من الضفة الغربية. لكن اسرائيل تلجأ الى الانكار التام بشأن جانب اكثر اهمية بكثير في لجوئها الى العنف، وأعني بذلك وضع اسرائيل كقوة محتلة، ووضع الفلسطينيين كشعب تحت الاحتلال. ان "اعلان الاستقلال" الاميركي ليس اول وثيقة تؤكد الحق الطبيعي لأي شعب في ان يثور ضد قوة محتلة اجنبية. هذا الحق لا يجيز، بالطبع، الارهاب: العنف العشوائي ضد مدنيين أبرياء. لقد اساء العنف الفلسطيني الى القضية الوطنية الفلسطينية، حتى لو كان الاحتلال الاسرائيلي لا يكاد يخلو من عنف عشوائي ضد فلسطينيين أبرياء. بعد قتل طفلة اسرائيلية، اسمها شالهافت باس، على يد فلسطيني في 26 آذار مارس الماضي، وصف رعنان غيسين الناطق باسم شارون فظاعة ان يُطلق قناص فلسطيني النار بعدما وضع وجه الطفلة في تلسكوب بندقيته. وفي اليوم ذاته، نشر كاتب العمود الاسرائيلي اميرا هاس في صحيفة "هآرتس" سلسلة مقالات عن عمليات قتل مماثلة نفذها قناصة اسرائيليون وراح ضحيتها اربعة اطفال فلسطينيين. وباستثناء عمود هاس، قوبلت اعمال القتل هذه في اسرائىل بعدم اكتراث كلي. صحيح انه لا يمكن لكل اقلية ان تطالب بحقها في تقرير مصيرها، خصوصاً اذا مُنحت الحقوق التي يتمتع بها كل المواطنين الآخرين. لكن اسرائيل رفضت منذ وقت طويل خيار منح الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة مواطنة كاملة في الدولة العبرية. ولو انها فعلت ذلك، ربما كانت ستلغي أساس كفاح الفلسطينيين من اجل دولة منفصلة خاصة بهم، لكن ذلك ايضاً كان سيغيّر اسرائيل من دولة عبرية الى دولة علمانية متعددة القوميات. اختارت اسرائيل، بعدما رفضت هذا الخيار، ان تكون قوة محتلة. ولا يحق لاسرائيل والحال هذه ان تطالب بأن يتخلى الشعب الذي يخضع لاحتلالها عن اللجوء الى العنف لينال حريته. والمجادلة بأن الفلسطينيين ليسوا بحاجة الى الكفاح من اجل حريتهم، لان باستطاعتهم ان يحصلوا عليها عبر العملية السياسية التي نشأت عبر اوسلو، لن تكون سوى تناقض صارخ مع الواقع. فالسنوات السبع التي انقضت منذ اوسلو برهنت على ان التفاوت الهائل في القوة بين الفلسطينيين واسرائيل لا يمكّن العملية السياسية من ان تحقق الاهداف التي كان يتطلع اليها اتفاق اوسلو. في عهد باراك، كان في امكان الاسرائيليين ان يجادلوا على الاقل بأن الفلسطينيين منحوا في الواقع فرصة لانهاء الاحتلال - 95 في المئة منه - وبالتالي لم يعد هناك أي مبرر آخر للعنف الفلسطيني. لا يتفق الفلسطينيون، بالطبع، على ان باراك عرض عليهم نهاية للاحتلال، اذ اعتبروا القيود المتبقية التي سعى باراك الى فرضها على حق الفلسطينيين في اقامة دولتهم مسعى للاحتفاظ بسيطرة اسرائيلية فعلية على الدولة الفلسطينية الجديدة. وتشمل هذه القيود شبكة من الطرق الرئيسية في أرجاء الضفة الغربية، ومن المقرر ان تحتفظ اسرائيل بالسيادة الكاملة عليها. وستقسّم هذه الطرق الدولة الفلسطينية الى عدد من المناطق المعزولة التي يمكن السيطرة عليها بسهولة. كما أعطت اقتراحات باراك اسرائيل الحق في تحريك جيشها الى داخل الدولة الفلسطينية متى قررت اسرائيل انها تواجه حال طوارئ عامة. لكن هذه المجادلة تقر على الاقل بلبّ القضية: حق الفلسطينيين في ان يحرروا انفسهم من الاحتلال الاسرائيلي. اكد شارون بوضوح انه لا ينوي اطلاقاً انهاء الاحتلال الاسرائيلي خلال وقت قريب. ويلغي هذا اي تساؤل محتمل بشأن حق الفلسطينيين في أن يواصلوا كفاحهم لانهاء الاحتلال. ان يكون لكل البشر، بمن فيهم الفلسطينيون، "حقوق ثابتة محددة وهبهم إياها خالقهم" ويمكن بالتالي ان يقاوموا اولئك الذين يسعون الى حرمانهم من هذه الحقوق، ليس مبدأً اخترعه ياسر عرفات بل انه مبدأ يؤكده، بالاضافة الى آخرين، الآباء المؤسسون للولايات المتحدة في "اعلان الاستقلال" الاميركي. ان الفكرة التي تقول بأنه يمكن لاسرائيل ان تطالب الفلسطينيين بأن يتصرفوا بطريقة تجعل الاحتلال الاسرائيلي المستمر لا يكلف شيئاً ويكون مريحاً الى اقصى حد بالنسبة الى الاسرائيليين - وهو ما يعنيه اساساً شارون بتصريحه بان همه الاول والطاغي هو امن الاسرائيليين والاستقرار على الارض - مؤشر الى عمق الانكار الذي تمارسه دولة اسرائيل لدورها كمحتل. لا يعني أي شيء من هذا انه يجب على اسرائيل ان تقبل مطالب الفلسطينيين بالسيادة التامة على القدسالشرقية، او بالعودة المطلقة للاجئين الفلسطينيين الى اسرائيل. فقد يتعيّن تأجيل حل هذه وغيرها من القضايا بسبب الخلافات القائمة. انها تعني بالفعل ان على اسرائيل ان تنهي احتلالها للضفة الغربية وغزة، كما يقضي بذلك القراران 242 و338، وان تفعل ذلك من طرف واحد اذا اقتضى الأمر. ان إنهاء قمع شعب يعيش اصلاً تحت الاحتلال منذ اكثر من ثلاثة عقود لا يمكن ان يُرجأ حتى التوصل الى اتفاق نهائي بشأن قضايا اخرى لا يمكن للطرفين ان يحسماها في الوقت الحاضر. لم يُنعم على الفلسطينيين بزعماء من وزن نلسون مانديلا. فبالاجابة على باراك ب"لا" بدلاً من القول "نعم، ولكن" الحق عرفات ضرراً كبيراً ومعاناةً لا ضرورة لها بالقضية الفلسطينية. يسهل تماماً، بالفعل، سرد مجموعة من الاعمال المدانة التي قام بها عرفاتوالفلسطينيون. فقد انجزت اسرائيل واصدقاؤها هذه المهمة بالضبط. لكن عيوب الفلسطينيين، مهما كانت فظيعة ولا يمكن التسامح معها، لا تغير الحقيقة الجوهرية بشأن احتلال عسكري اُجبر الفلسطينيون على ان يعيشوا في ظله. لن يُحل النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني بمجادلات حول أي الخصمين ارتكب انتهاكات اسوأ. فاراقة الدماء والمعاناة لن تنتهيان الاّ عندما يقر شعب اسرائيل وحكومته بالحقيقة القاسية المتمثلة بأن إخضاع شعب آخر ليس شرطاً مقبولاً لوجود دولة ديموقراطية في مطلع القرن الحادي والعشرين. * زميل متقدم في مجلس العلاقات الخارجية. والمقال يعبر عن رأيه.