بعد مرور ثمانين سنة يتكرر المشهد السياسي في ساحة الحرم القدسي بواسطة تلميذ فلاديمير جابوتنسكي، وراعي سياسية العنف ضد العرب ارييل شارون. والمشهد المُعاد حدث أول مرة يوم الجمعة الموافق 2 نيسان ابريل عام 1920 خلال موسم الاعياد الدينية. والمعروف ان زعماء "الحركة الوطنية الفلسطينية" كانوا يستغلون هذا الموسم للتعبير عن غضب الشعب ورفضه للاحتلال البريطاني والاستيطان اليهودي. المواجهة حدثت بعد صلاة الجمعة في ساحة الحرم الشريف حيث وصل عدد المشاركين في "زفة الأعلام" الى اكثر من 25 الف شخص، اضافة الى عدد المتفرجين الذين قُدّر عددهم في حينه بأكثر من 75 ألف نسمة. ثم انضمت مواكب القادمين من نابلس والخليل والقرى المجاورة الى التظاهرة الضخمة التي قوبلت بهتاف الجماهير وقرع الطبول. وفجأة، تسلل من الجهة الغربية الزعيم اليهودي فلاديمير جابوتنسكي، مؤسس مدرسة العنف والارهاب، يقود تظاهرة مسلحة لم يلبث أفرادها ان بادروا بإطلاق النار. وتصدّى لهم المحتفلون بالعصي وكراسي المقاهي، وأرغموهم على التراجع، الى ان تدخّل الجنود البريطانيون وفرّقوا المحتشدين من العرب بقوة السلاح. وحدثت صدامات عنيفة سقط خلالها قتلى من الفريقين، انتهت بعد يومين بإعلان حالة منع التجول داخل الأحياء العربية والمدينة القديمة، أعقبتها عمليات اعتقال واسعة للزعماء الفلسطينيين الذين اتهمتهم سلطات الانتداب بالتحريض على العصيان والثورة. منذ ربيع 1920 ومنطقة الحرم القدسي تتعرض للتجاذب السياسي والصدام الدموي كلما حاول الاسرائيليون إخضاع القدس العربية لسيطرتهم ونفوذهم. ولقد كشفت صحيفة "هآرتس" بعد وفاة الحاخام الأكبر شلومو غورين تشرين الاول/ اكتوبر 1994 عن بعض الأسرار المتعلقة بدوره في حرب 1967. وذكرت الصحيفة انها استقت معلوماتها من الجنرال عوزي ناركيس، قائد الفيلق الاسرائيلي الذي احتل القدس، ولكنه طلب عدم نشرها قبل وفاته. ويقول ناركيس ان الحاخام غورين وصل الى ساحة الحرم مع طليعة قوة الاحتلال، وانه اقترح عليه نسف مسجد قبة الصخرة بمئة كيلوغرام من الديناميت لكي يتم تدميره نهائياً. ولما هدده ناركيس بالاعتقال اذا استمر في تحريض الجنود على تنفيذ أوامره بنسف المسجد، ادّعى ان الروايات اليهودية تحدّد بشكل دقيق موقع هيكل سليمان الذي دمّره الرومان عام سبعين بعد الميلاد… وانه يقع تحت اساسات الحرم القدسي. ويبدو ان جميع اليهود يؤمنون بفكرة وجود هيكل سليمان في هذا الموقع بدليل ان نتانياهو أمر بحفر نفق تحت المسجد، وان باراك وافق على سيادة فلسطينية أفقية على مبنى قبة الصخرة شرط حصر السيادة العمودية بإسرائيل. وبرّر اقتراحه أمام ياسر عرفات بأن السلطة الفلسطينية لا يحق لها مستقبلاً منع عمليات الحفر في جوف الارض بحثاً عن آثار هيكل سليمان. والمعروف ان الجماعات الأصولية من اليهود تحرّم السير في باحة المسجد الأقصى لأن ذلك يدنّس "قدس الأقداس" في الهيكل السابق. وتشير سجلات الشرطة الاسرائيلية الى إحباط اربع محاولات قام بها متطرفون لنسف المسجد يعود أخطرها الى الثمانينات. المراقبون في العواصم الكبرى اعتبروا زيارة شارون للحرم القدسي امتداداً لكل محاولات النسف السابقة، لأنها نسفت مشروع السلام المتعلق بمستقبل المدينة المقدسة. ولقد جاء توقيت الزيارة الاستفزازية ليزيد من موجة العنف التي تفاعلت على الساحة الفلسطينية وتحولت الى ازمة كبرى لم يعد باستطاعة ياسر عرفات التحكّم بأبعادها السياسية. والسبب يعود الى سلسلة وقائع كان آخرها اجتماع أبو عمار مع باراك في كوخاف يائير. وهذه هي المرة الثانية بعد لقائهما في مطار بن غوريون، يجتمع رئيس السلطة الفلسطينية على انفراد مع رئيس وزراء اسرائيل من دون مترجم. وكان اللقاء مخصصاً لصوغ اتفاق مقبول لدى الطرفين بشأن الوضع النهائي للقدس، على ان تتم التسوية الشاملة على مراحل. وتؤكد مصادر فلسطينية مطلعة ان عرفات اعتمد في حديثه على التصريح الذي أدلى به باراك عندما أعلن ان أورشليم والقدس ستكونان عاصمتين جنباً الى جنب لاسرائيل والفلسطينيين. ومعنى هذا انه اعترف بأن اسرائيل لا تملك حق السيادة المطلقة على القدس بكاملها، كما يدّعي شارون ونتانياهو. ولدى مراجعة هذه الناحية، اعترض عرفات على مساحة اورشليم التي قامت السلطة الاسرائيلية بتوسيعها من طرف واحد، بما في ذلك الضم غير الشرعي للقدس العربية. وقال ان أراضي العاصمة الاسرائيلية المُفترضة هي أراض محتلة لكونها تتعارض مع مبدأ قرار مجلس الامن الرقم 242 الذي يمنع ضم الاراضي عن طريق القوة. كما تتعارض ايضاً مع ميثاق جنيف الذي يحظر على القوى المحتلة تغيير الوضع الديموغرافي. وفي هذا السياق، قال عرفات ان التقسيم المقترح للمدينة يعطي اسرائيل سيادة كاملة على نسبة تسعين في المئة من أراضي القدس. وعندما تطرّق الحديث الى حدود الدولة الفلسطينية اعترض ابو عمار على المساحات الضخمة التي ضمتها اسرائيل اليها 78 في المئة، اضافة الى المساحات المخصصة للمستوطنات في الضفة الغربية وغزة. وفي تقديره ان مساحة الدولة الفلسطينية لن تتعدى 22 في المئة من مساحة فلسطين، بينما المطلوب اعادة مساحات لا تقلّ عن تسعين في المئة. تقول المصادر إياها ان باراك لم ينتقد افكار عرفات، وانما طلب منه المساعدة على حل مشكلة يعتبرها الأكثر تعقيداً من كل المشاكل المطروحة مع مصر او الاردن او سورية او لبنان، اي مشكلة القدس. واكد ان الحلول مع الدول الأخرى يمكن ان تقوم بها الحكومات بمنأى عن الشعوب، بينما حلول القضية الفلسطينية يجب ان تكون مرضية ومقبولة لدى الشعبين ايضاً. وعليه طلب منه المساعدة على منع تحقيق استراتيجية المتصلبين من امثال نتانياهو وشارون وشيرانسكي وليفي. وهي استراتيجية سلبية تقوم على مبدأ كل شيء او لا شيء . وذكر باراك انه اختلف مع الوزير ليفي بسبب اعتراضه على منح الدولة الفلسطينية مساحة تتعدى ستين في المئة… وبسبب قبوله مبدأ التفاوض على مستقبل القدس. وقال انه ترك منصبه وانضم الى المعارضة غير مقتنع بأن انهيار المحادثات سيؤدي الى تدهور العلاقات ومن ثم الى المجابهة. كما سيؤدي بالتالي الى دعم الرأي العام العالمي لقيام دولة فلسطينية، ولو تقرر اعلانها من طرف واحد. وفي تصوّر باراك ان ما فعله شارون قد أفقد اسرائيل دورها التفاوضي… وأدى الى تجميد المحادثات بسبب غياب البديل لدى الجهة الفلسطينية… وأضعف موقف الحكومة اثر انقسام الشعب حول ادائها السياسي. يقول المراقبون ان شارون نسف ايضاً كل خطط الطوارئ التي وضعها باراك بالاتفاق مع عرفات، في حال فشلت محادثات كوخاف يائير. الخطة المشتركة الاولى تشدد على منع الانهيار، وتهدف الى منع الانفجار والحفاظ على العلاقات السلمية بعد وضع آلية تسمح للطرفين بتعزيز مكانتهما في مواجهة المعارضة الداخلية. بينما يدعو باراك في الخطة الثانية، خصمه السياسي شارون للانضمام الى الحكومة الائتلافية. وكان يتوقع ان يقبل زعيم ليكود عرضه، خوفاً من عودة منافسه نتانياهو الطامح الى ردّ الاعتبار الى دوره السياسي. والمؤكد ان زيارة آرييل شارون لباحة الحرم القدسي قد عطّلت كل الخطط والسيناريوهات، ودفعت رئيس الحكومة الى تغيير اتجاهه، والاستعاضة عن فكرة الاتفاق التاريخي بفكرة التخلي عن شريكه أبو عمار. ولقد تخوف الرئيس الاميركي بيل كلينتون من تأثير المواجهات اليومية على دور قيادة السلطة الفلسطينية، بحيث يفقد عرفات القدرة على ضبط الشارع، ويضطر للسير وراء زعماء "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، علماً بأنه حتى الآن لم يفقد سلطة القيادة، خصوصاً وانه عرف كيف يوظّف الاحداث لاستعادة دور الثائر في "الفاكهاني" والانسحاب تدريجاً من دور الشريك في مفاوضات السلام. أو هو على الأقل يحاول السير فوق الجبلين بعدما أدخلته المواجهات الأخيرة في صلب الحماية العربية - الاسلامية التي فقدها بعد أوسلو. وهي حماية صانت الثورة الفلسطينية مدة نصف قرن ومنعت عنها أذى الاستفراد والعزلة كما حدث لقضيتي الأكراد والأرمن. وخشية الوصول الى طريق مسدود يبدّل في مسار محادثات السلام وينهي عملية التفاوض، استنجدت الادارة الاميركية بفرنسا لعلها تنجح بالتعاون مع أولبرايت في وقف حال التدهور. وكعادتها في كل مرة وضعت أولبرايت المسؤولية على الطرف الفلسطيني كأن الخطأ الذي قام به شارون يجد أسباباً تخفيفية لدى الحزب الديموقراطي في موسم الانتخابات. وهي ترى ان حدوث المواجهة لا يحتاج الى اكثر من فريق معارض… بينما عملية السلام تتطلّب شراكة الطرفين. والملاحظ ان شارون نجح في تقويض دعائم هذه الشراكة، وألغى باستفزازه ارتباط باراك بمسألة الحل النهائي. في حين طالب عرفات بلجنة تحقيق دولية لكي يُحاكم حزب ليكود، ويلقي عليه تبعة تفجير الوضع. لكن هذا الطرح يعرّض إدارة كلينتون للإحراج، ويقوّي دور شارون القادر على منع باراك من تحطيم المحظورات الاسرائيلية. يوم الجمعة الأسبق شاهد الاسرائيليون رئيس حكومتهم يُدشّن محطة بئر السبع لخط القطار الجديد. وكتبت صحيفة "معاريف" افتتاحية تقول فيها ان باراك لم يتطلّع الى الوراء لكي يرى ان جميع العربات قد خرجت عن خطوط السكة، وان القاطرة الأولى تسير وحيدة نحو الهاوية بعد انفصال عربات السلام عنها. ومثل هذا الوضع المتردي يصعب انقاذه اذا لم تبادر الدول المعنية الى ايجاد خطة بديلة تمنع تجدد الصدام وتلغي أسباب المواجهة! * كاتب وصحافي لبناني