"يا كافر... أنت مسيحي والا يهودي؟ قول... أنت مسيحي والا يهودي؟" السائل ليس مفتشاً يقتل على الهوية، بل رجل دين يداوي من حالات التقمص الشيطاني. إنه طارد الأرواح على طريقة ويليام فرايدكن في فيلمه المرعب الشهير. مع فارق أن رجل الدين هذا ليس ممثلاً ولو أنه قد يبدو ذلك وموجود في فيلم فلسطيني بعنوان "الظل" هو أحد 28 فيلماً تسجيلياً وروائياً قصيراً في مسابقة الدورة الثانية لمهرجان الفيلم التسجيلي التي أقيمت في الدوحة بين 17 آذار مارس الجاري و23 منه. يطرح "الشيخ" سؤاله على الروح التي تسكن رجلاً ملقى على الأرض يهذي ويتحرك بعنف. يميل الشيخ فوقه. يضرب المريض على صدره بقوة آمراً تلك الروح الشيطانية التي تبين انها يهودية في نهاية الأمر! بالخروج من جسد الرجل: "غادر هذا الجسد من أطرافه" يضيف الشيخ ذاكراً تلاوات وصارخاً في وجه الشيطان الذي لا يراه سواه. عدا الاهانة الموجهة الى اتباع ديانتين مرسلتين أيضاً من السماء، هناك وجه بشع للطريقة التي يدلف بها الفيلم الى موضوعه. المخرج عبدالسلام شحادة يقترب جداً من شخصيات فيلمه فيبدو كما لو كان يوافق عليها، اذا كان فعلاً يوافق عليها - وهذا رأيه - فإنه يبدو كما لو كان جزءاً من آلية دعائية. الفيلم يبدو كأن حوله ثلاثة شيوخ يتحدثون عن قدراتهم على شفاء كل من يسكنه الشيطان. يؤكد هذا المنحى في نهاية الفيلم. جلوس أحدهم امام جهاز كومبيوتر وقريباً من علبة كوكا كولا ليكشف ان النية متجهة الى ممارسة هذا الاستشفاء من طريق "الانترنت" وباللغتين العربية والانكليزية. بل ان العلاج بدأ، وها هو زوج سيدة يكتب اليه أن الشيخ استطاع شفاء زوجته من شيطانها من طريق الكومبيوتر. طبعاً اذا كان المخرج ضد هذه الشعوذة، فقد اقترب كثيراً من شخوصه، فما عاد في الامكان معرفة كيف يكون ضدها وهو لا يحصد موقفاً يحدد ذلك. ليس المطلوب تحقيق فيلم آخر عن الانتفاضة، وقد شاهدنا افلاماً كثيرة داخل المسابقة وخارجها عن الموضوع، أو إلغاء حق مخرج فلسطيني في تقديم عمل يقع بعيداً منها، لكن المطلوب كان فيلماً أفضل في طرحه يناقش ويبدي وجهة نظر معارضة، عوض الاكتفاء بما يعرض عليه من حالات تبدو احتفاء بما لا يتصل مع هموم المرء أو شواغله. الشيء الآخر الذي يكشفه، وأفلام أخرى، هو حال التخبط الاجتماعي والسياسي الناتج عن ذوبان الهم القومي وتحول مسارات النضال حالات متشرذمة. فيلم كهذا ما كان سيجد قبولاً لدى قطاع عريض من المشاهدين الذين صفقوا في نهاية العرض لولا ارتفاع مد التطرف الديني. الفيلم من الركاكة فيطوَّع ليكون جزءاً من المشكلة جزءاً من الحل. سينما تتكاتف السينما التسجيلية والروائية القصيرة التي ينتجها العالم العربي وجدت في قطر مرآة لها. وهناك الكثير جداً من الانتاجات التي عرضها المهرجان والكثير من المواهب التي قدمها. بعض هذه المواهب اكتشافات حقيقية. بعضها الآخر ليس سوى استمرار النهج نفسه الذي خطته السينمات التسجيلية السابقة اذ لا تصميم فنياً حقيقياً ولا موهبة فاعلة، بل فتح الكاميرا على الموضوع بأسلوب جاف ومباشر وتشكيله أحياناً ببعض "الغرافيكس" ودقات من الطبول التي تقرع على رؤوس المشاهدين. بالنسبة الى هذه الأفلام، لا يخلو الأمر من طيب نية، لكنها النية الطيبة التي تصنع في النهاية فيلماً رديئاً، بينما تستطيع ان تلتقط نسيم الفيلم الجيد من اللقطة الأولى. وليس هناك من حاجة لدى صاحبها كي يشير الى طيب نيته بل تراه يمارسها عملاً مبدعاً جيداً. ملامح الفيلم الجيد في الفيلم القصير ليست بكم يوجز المخرج أو يطيل، بل كيف يبلور ما يريد قوله في أسلوب عرض فني جيد من اللقطة الأولى ويمضي به حتى النهاية. في هذا النطاق يمكن تناول تجربة المخرجة اللبنانية سابين سرسق الواردة في فيلم روائي قصير من 17 دقيقة بعنوان "لمن يهمه الأمر". سيدتان كارمن لبُّس وجانيت فخري تجلسان على شرفة بيت قروي في يوم هادئ ترتشفان القهوة. رجل بطيء الخطوات متعب الجسد يتقدم من آخر القرية حاملاً رسالة. ما بين متابعة السيدتين له ومتابعتنا نحن لخطواته، تزداد سخونة الموقف اذ تدرك كل منهما ان هذا الرجل لا يمكن ان يكون فأل خير. رسالته نعي، وجل اهتمامهما مراقبة أي بيت في طريقة سيدلف اليه لتسليم ما يحمله. واذ يمر الرجل امام كل البيوت وتقترب خطواته من السيدتين يرتفع خوفهما من ان يكون ولد أي منهما هو القتيل الذي جاء الرجل يعلنه. الفكرة والتوقيت والأبيض والأسود معالم حية في هذا الفيلم المتوتر. أيضاً بالأبيض والأسود كاختيار ناجح وبديل من الألوان، فيلمان جيدان أحدهما من اخراج كتيبة الجنابي بعنوان "القطار" مقدم باسم العراق ولو انه انتاج بريطاني وفيلم للقطري خليفة المريخي عنوانه "الأرض". كلاهما يعمل بعيداً من النصوص الغربية. في فيلم كتيبة مجموعة من المسافرين في قطار ينزلون في محطة ويفوتهم القطار اللاحق. هذه الومضة من موضوع معبر عنها بالمناخات نفسها التي صنعت منها سينمات أوروبا الشرقية بعض أفضل نتائجها الفنية. شخصياته صامتة، لكنك تخالها مأخوذة من عالم دستويفسكي وأجوائه، نسبة الى التصوير البارع، كافكاوية بلا تردد. المخرج الذي سبق أن حقق أفلاماً مماثلة في أجوائها متمكن من تلك المفردات التي تشكل لغته الفنية، فإذا بها معروضة من دون افتعال. موهبة تنتظر فرصة دخولها الفيلم الطويل الذي سيحمل في طياته قبسات من سينما الكسندر زوخوروف. "الأرض" لخليفة المريخي له الأجواء نفسها تقريباً. يخونه التقطيع في أكثر من مكان واختيار اللقطة التي ستلي اللقطة في بعض الأحيان، ولكن لا مناص من اعتبار صاحبه اكتشافاً. يدور على قصة بسيطة عن جد يموت وحفيده الى جانبه في مزرعة كان الجد منحها كل عطائه واهتمامه، لكنه عجز عن المواصلة. انه الآن مريض ولا يجد الى جانبه سوى طبيب مستسلم وحفيد يفتح عينيه على موت مبكر في حياته. بعد موت الجد يقرر الحفيد اعادة الحياة الى تلك الأرض. تنفيذ الفكرة، التي تقع، قصة وتمثيلاً وحواراً في بريطانيا، ليس ببساطة هذا التخليص، والأبيض والأسود فاعلان في منح الفيلم أجواء داكنة ذات منحى شعري جميل. باسم اليمن، ولكن من صنع بريطانيا أيضاً، قدم "الشيخ الانكليزي والجنتلمان اليمني" لبدر بن حرصي. وفيه يتحدث المخرج عن حياته. والده من الذين تركوا اليمن الى لندن قبل 40 سنة، وهو ولد في لندن محباً لمعرفة تراثه وفضولاً في محاولة فهم جذوره، وهو يقرر شاباً ان يقوم برحلة اكتشاف. الفيلم اذاً رحلة طويلة متنوعة في أرض اليمن تعكس شعور المخرج حيال ما يرى، وتعكس ثقافة وتقاليد تبدو له غريبة، بينما تقبلها منذ سنوات بعيدة رجل انكليزي طلق حياة الغرب واستقر في اليمن كما لو كان واحداً منهم منخرطاً حتى الذوبان اللغوي والثقافي. لمسات لبنانية مجموعة كبيرة من الأفلام اللبنانية في هذه الدورة بعضها اندرج في المسابقة، وبعضها الآخر في قسم "بانوراما عربية"، والأخرى في اطار استقبال ما كان مهرجان "شمس" للأفلام اللبنانية عرضه من قبل، ولم يكن متاحاً مشاهدته الا لمن استطاع الوصول الى ذلك الحيز الصغير. هبا محمود تطرح موضوعاً عن واقع الاحتلال الإسرائيلي السابق لقرية جنوبية في "قلنا واخواتها". جان سلامة يقدم "قوم ع شغلك" عن شاب يعمل ويعيش في بيته بروتينية كاملة تاركاً حياته ملكاً لجهازي تلفزيون يسيرانه. ويتحدث يوسف مكي عن الفقر ومشاغل أخرى في حياة شاب آخر يحاول شراء حذاء جديد في "نصف نعل". وفي "أحمد الياباني" أول فيلم عن السجين السياسي كوزو أوكاموتو، العضو الياباني في مجموعة "الجيش الأحمر" الذي انتهى معتقلاً في سجن لبناني. و"العرض الأخير" لإيليان الراهب الذي سبق عرضه في أكثر من مهرجان أقصوصة جميلة وحانية عن فتاة تعود الى قريتها وتغازل التاريخ من خلال صالة سينما يملكها جدها. خارج اطار مهرجان شمس، هناك "ليلة زرقاء" للبناني فؤاد عليوان بمشاركة محدودة من رئيف كرم: دراما صغيرة عن عائلة من ثلاثة أفراد أب وأم وفتاة صغيرة وكيف يعيشون حياتهم داخل بيتهم الواقع على خط التماس. يحاول المخرج تسجيل حياة تسعى الى ان تستمر تحت عبء الظروف في ليلة واحدة. فكرة موجزة في اطار تلقائي جيد. البال فلسطيني في شتات من الطروحات التي يعكسها أكثر من مئة وعشرين عملاً مشاركاً، تبقى المحاور الأساسية المطروحة محدودة ومحددة. السينما اللبنانية تعمل على خطى الحرب وما بعدها. والسينما الفلسطينية، باستثناء "الظل" لها ما يشغلها. لديها الكثير مما تريد ان تقوله في موضوع الاحتلال الاسرائيلي والانتفاضة الفلسطينية، لكن القليل من هذا الكثير يخرج من نطاق المحاولة الى نطاق النجاح. فيلما الافتتاح يصبان في هذا المنحى. الأول "بيان بصري" هو صياغة لفكرة كان اقترحها مدير المهرجان محمد مخلوف على عدد من المخرجين العرب: هشام زعوقي سورية نسيم عباسي المغرب، فؤاد عليوان لبنان، سعد هنداوي مصر، سمير زيدان العراق نزار حسن فلسطين ليتشاركوا في طرح موضوع الانتفاضة كل بفيلم صغير منفصل وملتق في الوقت نفسه. الثاني هو "ليلى شجرة البرتقال". فيلم مرحب به على نحو خاص لأنه تسجيل عن حياة ليلى خالد ونضالها. اخرجته رولا منصور من انتاج بريطاني وسعت فيه الى صورة عرض عالمية يمكنها ان تطرح على شاشات غير عربية أيضاً. أختير فلم محمد ملص الأول جداً "الكل في مكانه... وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط"، شريط في نصف ساعة حققه المخرج السوري المعروف عام 1974. انه واحدة من أفكاره الحذقة لمعالجة الموضوع السياسي: في معتقل سياسي مجموعة من المثقفين الذين يعيشون في منعزل عما يحدث في العالم الخارجي. أحدهم يجد بقايا صحيفة يقرأ فيها عناوين عن الحرب ضد اسرائيل، يحاولون اقناع قيادة السجن باطلاقهم ونقلهم الى الجبهة ليشاركوا في تلك الحرب، لكنهم يكتشفون ان الصحيفة قديمة. الحرب وقعت وانتهى أمرها والهزيمة العربية تمت! بين الافتتاح والختام، عرض خاص آخر للممثل والمخرج محمد بكري. فقبل عامين حاول عرض فيلمه الأول، مخرجاً، وهو "1948" في اطار مهرجان القاهرة السينمائي، لكن عطلاً أصاب آلات العرض في كلا المرتين اللتين عمد اليهما المخرج للغاية. الآن يعيد عرضه هنا بلا مشكلات. "1948" فيلم مهم مصنوع بصياغة الباحث عن الحقيقة. في طيات التطورات السياسية والميدانية في الساحة الفلسطينية وبموافقة ركب الساعين الى السلام والاسلام، لا يزال هناك جيل كامل من مواطني النكبة الذين يعيشون داخل اسرائيل. هؤلاء لا يستطيعون أن ينسوا انهم الضحايا الأول وأصابعهم توزع الاتهامات على الجميع كما الحال اليوم؟ وعلى الضفتين العربية والاسرائيلية. شهاداتهم مؤلمة كونها تذكر ان أصل البلاء ليس في احداث العهد القريب، وأن المساعي لإحلال سلام قائم على فك نزاع حالي يمكنه أن يفرض وضعاً. لكنه لا يمكن له ان يلغي الذاكرة التي تلهب حياة أبناء الجيل الأول، أو الألم الذي يعصر فيه وهو يشاهد أرضه من بعيد ولا يستطيع أن يزورها. أو بيته وقد سكنه يهودي مهاجر من أوروبا أو العراق. الشخصيات التي يقابلها لا تصرخ ولا تبكي ولا تنفعل بل تفتح بعض مكنوناتها بصدق والأثر أقوى من كل افعال. بينها ينتقل المخرج لتقديم جزء من "المتشائل" لإميل حبيبي ويترك صوت ابنته حيفا لتغني بعض تلك الأناشيد الحانية التي قيلت في فلسطيت بين كل ما شاهدناه من أفلام عن القضية الفلسطينية، فيلم محمد بكري أنضجها.