عرض مهرجان قرطاج السينمائي السابع عشر الذي انتهت أعماله مع نهاية الشهر الماضي، 13 فيلماً عربياً روائياً طويلاً في المسابقة و13 فيلماً عربياً روائياً طويلاً خارج المسابقة. والبقية، بالطبع، كانت أفلاماً أفريقية عددها أحد عشر فيلماً. مخرجو الأفلام الناطقة بالعربية 26 فيلماً كلهم عرب - لا جدال في ذلك، لكن أقل من نصف هذه الأفلام من انتاج عربي صرف وتحديداً هناك 10 أفلام "عربية" في المسابقة هي من انتاج مشترك تسعة منها مع فرنسا. أي أن ثلاثة فقط من الأفلام المتسابقة هي عربية صرفة. خارج المسابقة ومن الأفلام ال13 هناك 7 أفلام عربية صرفة و6 أفلام مشتركة. أي أن عدد الأفلام المنتجة عربياً على نحو كامل لم يزد عن عشرة أفلام من ال26 فيلم روائي طويل... أهذه نهاية السينما العربية أم ليس بعد؟ في سعي المخرجين العرب لتحقيق طموحاتهم، على تنوع تلك الطموحات واختلافها، يتطلعون اليوم، أكثر من أي وقت مضى الى فرنسا الحنون للبحث عن التمويل المناسب. الفيلمان اللبنانيان المتسابقان "بيروت الغربية" لزياد الدويري و"أشباح بيروت" لغسان سلهب لم يكنا لينجزا لولا الإسهام الفرنسي. نفس الأمر للفيلمين التونسيين المشتركين "كسوة، الخيط الضائع" لكلثوم برناز و"بنت فاميليا" لنوري بوزيد، والحال نفسه مع الفيلمين الموريتانيين "العيش على الأرض" لعبدالرحمن سيساكو و"وطني عالم بلا شر" لمحمد هوندو. فيلم "بيضاوة" لعبدالقادر لقطع هو نتاج فرنسي/ كندي/ مغربي مشترك و"العيش في الجنة" يحمل اسم الجزائر لأن المنتج، رشيد بوشارب وهو منتج "بيروت الغربية" جزائري لكن التمويل فرنسي تم تصويره في تونس. كذلك فإن "ليلة القدر" يحمل هوية مخرجه الجزائري عبدالكريم بهلول، لكن تمويل هذا الفيلم جاء من فرنسا كما تم تصويره بالكامل فيها. أما الفيلم الذي قدم بإسم فلسطين، وهو "درب التبانات" لعلي نصّار، فحالته أقسى. أنه من تمويل اسرائيلي بالكامل. بذا ليس في المسابقة سوى ثلاثة أفلام هربت من حلقة الإنتاجات المشتركة هي المصري "عرق البلح" لرضوان الكاشف إنتاج شركة يوسف شاهين و"وداعاً أيها المهرجون" لداوود ولاد سياد إنتاج مغربي و"الترحال" لريمون بطرس سورية. "زينب والنهر"، الفيلم الواعد لكريستين دبغي هو الفيلم اللبناني الوحيد الذي لم تمتد اليه يد انتاج غير محلية بين الثلاثة التي عرضت في هذا المهرجان. كذلك الفيلمين المصريين الذين عرضا خارج المسابقة "صعيدي في الجامعة الأميركية" لسعيد حامد و"أرض أرض" لإسماعيل مراد. ومن السخرية بمكان أن الفيلم المعنون "عربي مئة في المئة" للجزائري محمد الزموري هو فرنسي مئة بالمئة. يقود كل ذلك الى أنه لولا فرنسا الحنون لما تجاوز تعداد الأفلام المنتجة بلسان عربي، أو بمخرجين عرب، الخمسة عشر فيلماً... في عامين! ماذا سيحدث، والحال هذه، عندما تحشر أميركا فرنسا بخانة "اليك" لتنفيذ سلسلة الاتفاقات الاقتصادية والمصرفية المعقودة بين الولاياتالمتحدة ودول أوروبا الغربية والتي تتيح لأميركا عرقلة أي استثمار مجد مع الدول غير القادرة على المساهمة في تمويل المشاريع العالمية؟ المنتج التونسي أحمد عطية واحد من أولئك الذين يتوقعون أن هذا سيكون بداية نهاية المرحلة الذهبية للتعاون العربي/الفرنسي في حقل السينما. ستعود السينما إلى أصحابها؟ نعم وأكثرهم مفلسون. الفيلم الذي نال جائزة مهرجان قرطاج السينمائي الأولى التانيت الذهبية هو من هذا النتاج الحالي: تمويل فرنسي لموضوع ينطق بالعربية ويتحدث عن شخصيات عربية وتم تصويره، بداعي التوفير، في تونس. "العيش في الجنة" **** من خمسة هو فيلم أول للمخرج بورلام قرجو. دراما اجتماعية ذات خط واقعي ولمسات انسانية رقيقة ومعالجة فنية ممتعة، تدور في دنيا المهاجرين ليس في أيامنا هذه. كما تحدثت كل الأفلام التي تناولت المهاجرين العرب الى فرنسا، بل في زمن حرب الاستقلال الجزائرية. عنصر زمني يمنح الفيلم على الفور أهمية استثنائية كونه ينأى لمعالجة وضع لا بد أنه كان قاسياً على نحو مضاعف. "العيش في الجنة" قصة صغيرة تدور حول مهاجر جزائري اسمه لخضر رشدي زم الذي شاهدناه يقود سيارة تحمل تابوتاً في الفيلم الفرنسي "من يحبني يركب القطار" يقطن حي على بعد 3 كيلو مترات من باريس. يعيش في كوخ ضيق من التنك، واحد من عشرات البيوت أو الأكواخ المماثلة، هو وزوجته، التي يفرض عليها سلطته الشرقية، وولديه. لا يستطيع ترك هذا الكوخ والانتقال الى بيت حقيقي، لكن هذا لا يمنعه من الحلم، بل ومن التوجه ذات مرة، مع زوجته وولديهما، الى شقة قاده اليها السمسار. انها الجنة بالنسبة اليه وهو يود جمع ما يكفي من مال للانتقال اليها. لكنه كلما جمع قدراً منه ذهب في طريق آخر ما يجعله ينتهج منهجاً استغلالياً مع جيرانه، فهو لا يريد دفع الإيجار وحين يبيع أحد أصدقائه كوخ تنك تهدمه الشرطة لأنه غير مرخص به يمتنع عن إعادة المال الذي تقاضاه. زوجته، رغماً عنه، هي بقية الوعي أو الضمير لرجل يحاول تجاوز وضعه اليائس ولو بالحيلة. لكن زوجته قد تستطيع تحمل الفقر والعيش تحت سقف من الصفيح تطيره العاصفة في أحد الليالي الباردة، لكنها لا تستطيع أن تتحمل زوجاً منافقاً. في النهاية، يخسر لخضر زوجته وكل ما تبقى من المال في لعبة قمار توخى منها مضاعفة ما معه. يمشي وحيداً محسوراً على حافة المخيم، بينما جيرانه يرقصون احتفالاً بنجاح الثورة الجزائرية، لكن اللقطة الأخيرة فيها بصيص من أمل: لقطة للعائلة وقد التأم شملها من جديد جالسة في غرفة صغيرة وستارة بيضاء يتلاعب بها الهواء تغطي المشهد الخلفي تارة وتكشف عنه تارة، كما لو كانت تريد محو الماضي والتلويح بمستقبل آخر ولو لم يكن أفضل بكثير. كل ذلك خلال حقبة بلوغ الثورة الجزائرية ذروتها وقيام الجزائريين في فرنسا بمظاهرتهم الضخمة في السابع عشر من أكتوبر التي تصدى لها البوليس بالقوة. لَخْضَرْ يشارك بتلك المظاهرة ويُضرب ما يجعله لاحقاً منعكف عن المشاركة، في الوجدان أو في البال، مع تطور الثورة الجزائرية. بذكاء وإقناع يبقي المخرج قرجو الموضوع الوطني، المتمثل بحرب الاستقلال، بعيداً في الخلفية. كذلك لا يحاول الحديث عن عنصرية الفرنسيين أو يستمد من الفيلم أي ملامح سياسية مباشرة. على ذلك، لا يمكن إلا أن يستوحي المرء الكثير مما لا يُحكى وفي المقدمة إلقاء نور على التضحية الكبيرة التي خاضها الشعب الجزائري في الداخل والخارج وصولاً الى الاستقلال الفرنسي. رسالة تصيب عصب الوضع الحالي حيث البلاد في آلام الحرب الداخلية التي تنزف منذ سنوات. هناك سخرية في كل هذا الاستعراض، لكنها سخرية مبيتة، دفينة ومثقلة بجروح الوضع ومعاناته. ويبدو لي أن المخرج استمع الى قصة روتها أمه من أجل استخلاص حكاية فيلمه الأول، من دون أن يؤدي ذلك الى وضعها في البطولة الأولى في الفيلم. فالقصة تتمحور حول الأب الذي لا تستطيع إلا أن تغفر له زلاته وتتعاطف معه في صراعه ضد الوضع الذي يعيشه. إنه إنسان بسيط يحاول اسعاد عائلته بنقلها الى وضع اجتماعي أفضل. وسائله في تحقيق ذلك هي التي تجلب اليه المزيد من المتاعب عوض أن تحقق له مآربه. لكنها حيل ووسائل الرجل المدقع فقراً ما يجعل تعاطفنا معه في محله تماماً لمعظم الوقت. ولا يستطيع الفيلم، وهذا ما تحاشاه المخرج، تغييب حسنات لخضر تماماً عن الوجود وعدم الرجوع الى نيته الطيبة أصلاً لئلا ينحسر التعاطف معه ويتحول الفيلم الى نقد شامل أو تجريح ما يفقده مسبباته في هذه الحالة. حس المخرج قرجو بالمكان والزمان التصوير الليلي وبالشخصيات كلها رفيع. معالجته ذات اللقطات الطويلة والمشاهد غير المستعجلة واستبعاده أي مصدر للضحك المجاني أو حتى غير المجاني ومعايشته الواقعية الداكنة للمحيط الذي تدور فيه الأحداث، كلها تجعل الفيلم صادقاً وتمنحنا فيلماً قد يكون فرنسي التمويل، لكن ذلك لا يهم على صعيد مستواه أو طرحه. لم لا يكون فرنسياً أو منغولياً إذا شاء طالما أن المؤسسات الاقتصادية والرسمية العربية معدومة أو قريبة جداً من العدم. رجل العنوان بلا دور في إثر النجاح الجيد الذي حققه فيلم ايدي مورفي الأخير "دكتور دوليتل"، تم إطلاق فيلم جديد له هو "الرجل المقدس" مع نية تحقيق ذات النجاح أو أعلى منه إذا أمكن. لكن الجمهور لم يكن حاضراً لمورفي آخر في فترة قصيرة. أما هذا وأما أنه اكتشف الفيلم على حقيقته: مخادع ومهين. "الرجل المقدس" * من خمسة من كتابة توم شولمان وإخراج ستيفن هيريك، يقدم لنا منتج برامج تلفزيونية على قناة متخصصة ببيع البضائع مباشرة على الهواء إسمه ريكي هايمان، أنه، يقرر، الفيلم لنا، إنسان طيب ينقصه الحنان الذي قد يمنحه الثقة. عينه تلعب على المنتجة المنفذة كايت كيفي برستون وفي يوم تتعطل فيه سيارته وهما فيها، يشاهدان رجلاً أسود يرتدي الثياب البيضاء يقطع الطريق السريع المليء بالسيارات العابرة فقط من أجل أن يعرض خدماته لا يهم أنه لا يعرف كيف يقود سيارة. يثيرهما ثقته وهدوءه، لكن في حين يحاول ريكي صرفه سريعاً تعجب به كايت وتصادقه على الفور. ويضطر ريكي لذلك تجنباً لشرخ يقع بينه وبينها وهو لا يزال في مطلع علاقته بها. سريعاً ما تدرك ما سيحدث والفيلم لا يزال يتعثر في التمهيد والتعريف بشخصياته. يكتشف ريكي أن هذا الإنسان الغريب الذي يبدو عليه متنزهاً عن المطامع المادية، وعلى قدر كبير جداً من الروحانية والتعفف، قد يكون بائعاً مثالياً بسبب صدقه وطريقة تواصله مع الجمهور فيبدأ بتشغيله مجاناً في المحطة التي يعمل بها. وتنجح التجربة ويبيع هذا الرجل الطاهر ما أريد له بيعه من أدوات بمنطقه المسالم وبغيرته على البيئة وتوليه قول الحقيقة معظم الوقت. ويستمر هذا النجاح الى أن يتلقى ريكي صفعة من الفتاة التي يحب والتي أدركت أن هذا الرجل البريء الى حد السذاجة قد بدأ يتغير تبعاً للحالة المادية التي وقع فيها وللإستغلال الجشع الذي عمد اليه ريكي. بهذه الصفعة يفيق ريكي هايمان وينطلق لإصلاح ما كاد أن يخربه: روح الطهارة المثلى التي يتمتع بها ذلك الرجل المقدس. والحل المثالي؟ الرجل المقدس يواصل مشيه في الطرق السريعة كما لو كان يقطع المسافة من البيت الى المقهى، ويفوز ريكي بحب الفتاة التي تمنعت سابقاً عنه. تصور أنك تدخل فيلماً من بطولة ايدي مورفي، كما تفيد الإعلانات والملصقات، لتجد أن بطلك المفضل يؤدي بالنتيجة دوراً مسانداً. البطولة هي لرجل آخر اسمه جف غولدبلوم لا يطاق ولا هناك دواعي كافية لأن تطيقه. كل ما في الأمر هنا هو أن الكاتب توم شولمان الذي وضع سابقاً مادة دسمة وممتعة بعنوان "مجتمع الشعراء الموتى" بيتر وير - 1989 توخى التمحور حول شخصية أخرى اعتبرها رئيسية، هي شخصية هايمان. بعض اهتمامه بها أنها شخصية يهودية عبرها يستطيع أن يؤكد كم هي شخصية طيبة تستحق الإعجاب حتى ولو كانت جشعة ومادية. طبعاً كان يستطيع أن يقول ذلك وريكي هايمان في دور مساند، أو حتى ثانوي، خصوصاً وإن العنوان يدور حول الشخص الاخر، إلا أن شولمان لم يكتب السيناريو على هذا الأساس ولا قام المخرج هيريك بتحقيق الفيلم إلا تبعاً لما كُتب. الى ذلك، يفلت الفيلم من بين يديه فرصة جيدة للحديث عن مجتمع الاستهلاك ليس كما غمز ولمز، بل على نحو أكثر جدية. لكنه يضيع هذه الفرصة وما كان سيتخللها من طروحات جادة، ولو بقالب الفيلم الكوميدي، مفضلاً تقديم "رجل مقدس" لا تأثير حقيقي له. في الواقع نفس القصة كان يمكن سردها من دونه. كأن يكتشف ريكي في ذاته القدرة على بيع المنتجات فيكاد يفقد القليل من طهارته. أو كأن لا ينتج هذا الفيلم أصلاً حتى لا يصاب بهذا الإخفاق الفني كما التجاري الذي تعرض اليه. ليس أنه خسارة. بل هو لم يصل حتى الى ذلك المستوى