احتفل مهرجان الاسكندرية هذا العام بدورته السادسة عشرة، وهي السن التي حددها القانون المصري لبلوغ الفرد وتمكنه من استخراج بطاقة شخصية، لكنه على رغم ذلك، ما زال يعاني أعراض الطفولة المتأخرة. فهناك أخطاء كثيرة لا يمكن اعتبارها تنظيمية عادية، بل هي استمرار لأخطاء تكررت في الدورات السابقة، وبحت أصوات النقاد والسينمائيين كشفاً لها وسعياً إلى تفاديها، ولكن من دون جدوى، نظراً إلى انشغال منظمي المهرجان في صراعات في ما بينهم، مع أنهم جميعاً أعضاء في "الجمعية المصرية لكتاب السينما ونقادها" الجهة المنظمة. منذ اللحظات الأولى لانطلاق المهرجان، أمكن المتابع أن يدرك أن رحلة التخبط بدأت. فعرض الافتتاح أسند إلى مخرج مسرحي شاب محمد شفيق اختاره وزير الثقافة المصري لهذه المهمة. صحيح أن العرض ينتمي إلى فن الرقص الحديث، ولكن لا صلة له بالسينما، إلى درجة أن محاولة توظيف بعض العناصر السينمائية، مثل استخدام كاميرا الفيديو وشاشة العرض الخلفي، لم يكتب لها النجاح. كلمة رئيس المهرجان محمد صالح التي ألقاها في ليلة الافتتاح، وتكررت في كل مطبوعات المناسبة، تداخلت، في سيمفونية محكمة، مع بكاء طفل رضيع اصطحبه أحد المدعوين ...، بينما راحت مذيعة الحفلة تلوك كلمات شديدة الركاكة بلغة انكليزية غامضة. بعد ذلك، وحين نودي على عضوين من أعضاء لجنة التحكيم الدولية اللبناني غسان أبو شقرا والفرنسي تيري لونفيل، انتظر الجميع، نحو دقيقة، صعودهما إلى خشبة المسرح، على رغم علم إدارة المهرجان أنهما لم يصلا بعد، وفاتها إبلاغ مذيعة الحفلة هذه المعلومة! الرئيس... آخر من يعلم ظروف عدة أدت إلى تولي محمد صالح رئاسة الجمعية ورئاسة المهرجان منذ العام الماضي، فأصبح الجميع يعلم أنه الشخص الوحيد الذي لا يعلم شيئاً عن مجريات الأمور في المهرجان، ولو حتى من باب الإشراف على ما يحدث، أو من أجل حل أي مشكلة تنظيمية طارئة. والغريب في الأمر انشغاله ليلة الافتتاح بتصوير حلقة من برنامج "في المسألة الفنية" الذي يقدمه وتنتجه قناة النيل للمنوعات، ما جعله ينسى مهمته الأساسية وعبء المسؤولية الكبير الملقى على عاتقه. والمرة الوحيدة التي حاول فيها محمد صالح إصدار قرار، "أثمرت" قراراً سلبياً: إلغاء جائزة الوكالة الدولية الفرنكفونية وقيمتها 20 ألف فرنك فرنسي لأحسن فيلم ناطق بالفرنسية أو مترجم إليها، ومن إخراج مواطني احدى الدول الأعضاء في الوكالة. أما حجة إلغاء الجائزة فهي عدم وصول شيك بقيمتها قبل إعلان النتيجة. ظلال الذكريات... المريرة إذاً، منذ اليوم الأول للعرض، بدا الارتباك واضحاً. فالمواعيد غير منضبطة، والجداول تتغير وفق رغبات النجوم المصريين. أما قاعة العرض في قصر ثقافة التذوق في سيدي جابر المقر الرسمي لعروض الصحافيين والنقاد فسارت الأمور فيها على المنوال نفسه: تعطلت إحدى آلتي العرض أثناء تقديم الفيلم اليوغوسلافي "ظلال الذكريات"، فعرض بآلة واحدة" انقطع التيار الكهربائي واستمر العرض اكثر من أربع ساعات، فانصرف الجمهور، ليصاب مخرج الفيلم بردراغ فيلوفنوفيتش بالإحباط الشديد، وتروح بطلته الشابة الكسندرا تبكي من فرط ما حدث. واستمرت أخطاء العروض التقنية، على رغم تصليح الآلة. فعرضت اجزاء كثيرة من الأفلام من دون ضبط البؤرة فلو، وافتقد التزامن في النقل بين الآلتين، ما أدى إلى ضياع لقطات في بداية كل فصل ونهايته، وأفسد على المشاهدين متعة المشاهدة. الكارثة الحقيقية تعرض لها الفيلم اللبناني البديع "بيروت الغربية" لزياد دويري حين عرض من دون وضع القناع المطلوب أمام آلة العرض، إذ صُوِّر الفيلم بنسبة شاشة 1: 85،1 ما أدى إلى ظهور الميكرفون في أغلب اللقطات. وعلى رغم إعجاب الجمهور بالفيلم وانبهاره بموضوعه وتقنياته، اعتقد أن ظهور الميكرفون ليس إلا خطأ متكرراً وقع فيه المخرج، ما حدا بكاتب هذه السطور إلى الوقوف بعد العرض مباشرة، ليشرح لجمهور الحاضرين حقيقة ما حدث، قائلاً إن ليس للمخرج أي دخل في هذا الخطأ، لأنه ناتج من غياب الفريم القناع المخصص وعدم توافره في هذه القاعة. قاعة أم حافلة نقل عام؟ عانى الصحافيون والمهتمون كثيراً بسبب ضيق هذه القاعة التي تتألف من 96 مقعداً وتتسع مع المقاعد الإضافية ل120، بينما يبلغ عدد المتابعين ضعفي هذا العدد ما أدى إلى اصطدام الصحافيين وضيوف المهرجان بمسؤولي القاعة ورجال الأمن، خصوصاً في الأيام الأخيرة للمناسبة، اذ لم يكن هناك موضع لقدم داخلها، ما جعل المسؤولين يمنعون الدخول بعد اكتظاظها بالجالسين والواقفين، وازدادت المشاحنات وتعالت صرخات الاحتجاج على باب القاعة. كان المنطق يقضي بتوفير قاعة مناسبة ومجهزة من أجل عروض مهرجان سينمائي يحمل لقب "دولي"، خصوصاً أن حجمها لا يتناسب وعدد المدعوين، فضلاً عن جمهور المهتمين في مدينة الاسكندرية التي تعشق السينما وتعتبر مهرجانها السينمائي بمثابة نافذة تطل منها على أفق أرحب نحو أفلام السينما العالمية التي لا تعرض إلا في ما ندر. المسابقة الدولية... عزوف عن المشاركة من ناحية مبدئية كان يُفترض بأفلام المسابقة الدولية أن تنتمي الى دول البحر المتوسط، لكن مهرجان الاسكندرية لم يستطع الحصول إلا على خمسة أفلام، بمعدل واحد لكل من تركيا وسورية والمغرب واليونان وإيطاليا، بينما شاركت مصر بفيلمين، أي أن مجموع الأفلام في المسابقة الدولية لم يتجاوز السبعة وليس ثمانية، كما أعلن رئيس المهرجان ليلة الختام. إذ أن لجنة التحكيم لم تشاهد الفيلم المصري الثالث "الرحلة اللذيذة"، والافلام المشاركة اتت من ست دول بينها مصر، بينما عزفت دول كثيرة عن المشاركة، ومنها فرنسا وإسبانيا والجزائر وتونس ولبنان بعد استيلاء مهرجان القاهرة على فيلم "طيف المدينة" لجان شمعون. اتسمت بعض أفلام المسابقة بالطابع التجريبي مثل الفيلم الإيطالي "من يخاف الذئب" لكليمانس كلوبفنستين. وتميزت أفلام أخرى، مثل التركي "غيوم مايو" لنوري سيلان بالشاعرية والعمق وساده الإيقاع المتأمل. والشريط يحكي قصة مخرج يعود الى قريته ليصور فيلماً من بطولة أبيه وأمه، لكنه يجد الأب مشغولاً بمتابعة قرار حكومي يقضي بقطع أشجاره القديمة المزروعة في أرضه. يذكر أن الممثل أمين سيلان الذي ادى دور الأب هو أبو مخرج الفيلم نوري سيلان، وكذلك الأم هي أمه الحقيقية. حصل سيلان على جائزة أحسن ممثل، ونال الفيلم جائزة أحسن مونتاج، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة. أما الفيلم المصري "الأبواب المغلقة" لعاطف حتاتة، فحصل على ثلاث جوائز رئيسية في المسابقة الدولية أحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن سيناريو، ويعد تجربة من أنضج التجارب السينمائية المصرية في السنوات الأخيرة، ويتناول بالرصد والتحليل المتعمق عدداً من الظواهر الاجتماعية التي حلّت بالمجتمع المصري في مطلع التسعينات، وعلى خلفية سياسية رسمتها حرب الخليج من خلال نظرة مراهق يتمزق بين ضغوط مرحلته السنية، وعقدته الأوديبية التي خلفها غياب الأب والعنف المجتمعي ومحاولات التيارات الدينية استقطاب الشبيبة الغاضبة. ينتج من هذا التمزق في النهاية تحول الصبي الصغير قاتلاً تلوثت يداه بالدم. يطرح حتاتة، بين تفاصيل هذا الشريط، الكثير من الأسئلة المؤرقة، ويعكس رؤية واضحة المعالم محملة بهم اجتماعي وسياسي، مبتعداً كثيراً عن هفوات العمل الأول. أما الفيلم المغربي "علي... ربيعة والآخرون" لأحمد بولان فهو عمل روائي اول لصاحبه أيضاً. إطاره هو شريط الذكريات التي يمر بها علي منذ خروجه من السجن بعد حياة متصعلكة، وبحثه عن أصدقائه القدامى الذين تحول أحدهم مجنوناً، والآخر إسلامياً ملتزماً والثالث الشيوعي السابق رجل أعمال ينتمي بفكره إلى أميركا. لا يطرح بولان في هذا الفيلم الذاكرة، كحل درامي يفرضه نوع الفيلم، بل يوازن بين الماضي وذكريات الطفولة والشباب، والحاضر الذي فرق بين الأصدقاء وولد اتجاهات مغايرة. فيلم "علي..." هو أيضاً عن الحنين، وعن ألاعيب الزمن وعن سنوات السجن الفاصلة التي غيرت وجه الارض. وفيه يستخدم بولان الترميز أحياناً للتعبير عن أفكاره. فجميلة ابنة ربيعة التي تفتقد أباها، هي في شكل من الأشكال، تعبير عن أزمة الهوية الضائعة. والجسر الفاصل بين سلا والرباط موجود للدلالة الى انفصال بين عالمين. والرمز واضح ايضاً في محاولة الانتحار الفاشلة التي يخرج منها علي سابحاً، كأنما ولد من جديد في ماء النهر، وفي الخلفية الموسيقىة التي ألفها بطل الفيلم يونس ميكري، وهي شديدة التميز والحساسية، على ما نلمس ايضاً في أداء ميكري، وكذلك في أداء هيام عباس دور ربيعة. "علي..." واحد من أفلام المهرجان الجميلة التي لم تلتفت اليها لجنة التحكيم بالشكل الكافي، إذ لم يحصل الا على جائزة أحسن ممثل مساعد لحسن الفد عن دوره عبدالله. بينما اتت الصورة التي صنعها جيوفاني بريشتني لتتميز بالإبداع والتفرد وتفوق الصورة في أفلام أخرى متعددة بما فيها تلك التي صنعها سعيد شيمي الذي نال جائزة التصوير عن فيلم "عمر 2000". الفيلم العربي الآخر الذي عرض في المسابقة الدولية هو السوري "المرابي" لمحمد شاهين الذي يعد ممثلاً جيداً للسينما التجارية في سورية، لكن ذلك لم يمنع اختيار فيلمه للعرض في المهرجان. أين الهوية إذاً؟ لأننا اعتدنا من إدارة مهرجان الاسكندرية كيل الأمور بمكيالين، لم يكن من الغريب أن تخصص المسابقة الدولية، لأفلام دول البحر المتوسط وهي اللافتة التي يقام تحت لوائها المهرجان منذ بداياته، بينما تفتح مسابقة العمل الأول الباب أمام الأفلام من مختلف الدول من دون التقيد بمفهوم البحر المتوسط، ما يطرح التساؤل عن هوية المهرجان وخصوصيته! فإن لم تكن له خصوصية فما مبرر وجوده اذاً؟ هل لمجرد زيادة عدد المهرجانات في مصر مهرجاناً؟ أين إذاً مهرجان الأفلام القصيرة والتسجيلية الذي توقف منذ خمس سنوات؟ ومع ذلك حفلت مسابقة العمل الأول بالكثير من الأفلام المهمة ومنها الألماني "توفالو" لفيت هيلمر والذي كان مفاجأة المهرجان الحقيقية، لكنه لم يحصل على جائزة باستثناء شهادة تقدير متواضعة .... يقدم "توفالو" رؤية سينمائية إنسانية في فيلم يخلو من الحوار، معتمداً التعبير البصري والموسيقي، وعازفاً على أوتار السينما الصامتة وتراثها العريق من شابلن إلى تاركوفسكي. ومستنداً الى ممثلين بارعين من مختلف الجنسيات البطل فرنسي والبطلة روسية وأماكن تصوير مجردة تمزج بين عالم الأسطورة ودنيا الواقع. ومن تشاد يأتي فيلم "باي باي أفريقيا" لمحمد صالح هارون وهو أول فيلم طويل في تاريخ هذه الدولة الافريقية، عبّر فيه المخرج من خلال خط ذاتي عن علاقة بلاده الصغيرة بالسينما، وقد تسببت الحرب في تقطيع أواصره بها، بعدما تهدمت قاعاتها، معتمداً حساسية بصرية يمزج فيها الألوان بالأبيض والأسود، وسيناريو يمتاز ببناء دقيق وتفاصيل موحية. وحصل الفيلم على جائزة العمل الأول من المهرجان. أما الأفلام العربية التي عرضت في إطار المسابقة نفسها فبقي منها اثنان هما السوري "الرسالة الأخيرة" لباسل الخطيب الذي سبق أن قدم السيناريو نفسه بالبطل نفسه أيمن زيدان في مسلسل تلفزيوني، لاقى إقبالاً حين عرضه في سورية. لذلك تأثر الفيلم ايقاعياً وفي شكل سلبي، وعلى مستوى بناء السيناريو الذي غاص في الحبكات الفرعية وكذلك بمستوى أداء زيدان. والثاني في مسابقة العمل الأول كان المغربي "قصة وردة" لعبدالمجيد أرشيش، وهو تجربة شديدة التواضع على كل الصعد. السينما اللبنانية وفي إطار "بانوراما السينما اللبنانية" التي تعتبر من الايجابيات القليلة للمهرجان، عرضت خمسة أفلام هي "إلى أين" لجورج نصر و"بيروت... بيروت" لمارون بغدادي و"الملجأ" لرفيق حجار و"بيروت الغربية" لزياد دويري و"البيت الزهري" لجوانا توما وخليل جريج. وعلى رغم إقبال محبي السينما على أفلام البانوراما بغرض التعرف الى السينما اللبنانية، إلا أنها عانت ظلماً بسبب قلة عدد الأفلام المختارة من جهة، وسوء مواعيد العرض من جهة أخرى. إذ كانت تعرض بعد انتهاء البرنامج الرسمي يومياً الى درجة أن فيلم "بيروت... بيروت" بدأ عرضه منتصف الليل بعدما شاهد الحضور خمسة أفلام بندواتها. ولم تفكر إدارة المهرجان في نقل هذه العروض إلى قاعة أخرى لتقدم في مواعيد مناسبة كي يشاهدها من يريد. وهو ما يحدث في كل مهرجانات العالم، إذ يختار الناقد الفيلم الذي يرغب في مشاهدته بين أكثر من برنامج، في أكثر من قاعة، من دون أن يُفرض عليه برنامج وحيد في قاعة مفردة. الغريب في الأمر ما حدث يوم افتتاح بانوراما السينما اللبنانية حين توقف عرض فيلم "البيت الزهري" بعد بداية عرضه بسبب حضور غسان أبو شقرا مسؤول السينما اللبنانية ومعه يسرا رئيسة لجنة التحكيم الدولية لإقامة مراسم الافتتاح، وبعد تلك المراسم استؤنف عرض الفيلم مرة أخرى .... بانوراما الأفلام المصرية... لماذا؟ عرض المهرجان تحت عنوان "بانوراما السينما المصرية" عشرة أفلام اتسم أغلبها بافتقاد القيمة الفنية، وتفاوتت مستوياتها بين المتواضع والضعيف، ومعظمها من انتاج التلفزيون المصري. وكان هذا العرض بمثابة الأول لها وربما الاخير ايضاً ومع هذا نجدها تنال جوائز من جهات عدة اتحاد الاذاعة والتلفزيون في شكل إعلانات مجانية ووزارة الثقافة وفنانين ورجال أعمال، وهنا يثار التساؤل عن جدوى هذه البانوراما التي تقبل هذه الأفلام المصرية الحديثة من دون تمييز؟ هل هو تقليد حرص عليه المهرجان على رغم تدميره كل تقاليده السابقة وكذلك هويته؟ وهل من أجل جذب الجمهور لمتابعة المهرجان، من طريق عرض الأفلام المصرية في حضور أبطالها؟ مما لا شك فيه ان مستوى الأفلام المصرية انعكس على الندوات التي اقيمت بعد عرض كل فيلم، إذ غاب كثر من النقاد المتخصصين، بينما ظلت الساحة خالية لصحافيي الجرائد الإقليمية وغير المتخصصين، الا في مجاملة النجوم الحاضرين و"الإشادة بأدائهم" أو الإدلاء بآراء سطحية وهم في صدد تحليل هذه الأفلام. وانعكس مستوى الأفلام أيضاً على قرارات لجنة التحكيم التي ترأستها الفنانة سميحة أيوب، وغلبت على جوائزها المجاملات، ومن أبرزها منح نور الشريف جائزة أحسن مخرج ...، وأيضاً جائزة أحسن ممثل، وبوسي جائزة أحسن ممثلة عن فيلم "العاشقان"، وكذلك مجاملة المنتج الليبي أبو القاسم عمر راجح بمنح فيلمه ثماني جوائز لأنه دعم المهرجان بتقديم دار العرض التي يملكها في الاسكندرية، وكذلك بفضل تبرعه بإقامة الحفلات لضيوف المهرجان.