يدل مسار الأحداث التي وقعت على الساحة الفلسطينية خلال العام الأخير على أن العامل الذي أصبح يتحكم في تحديد اتجاه السياسة الإسرائيلية هو مسألة إعلان قيام الدولة الفلسطينية. فمن الواضح أن إقامة هذه الدولة يمثل في نظر إسرائيل، حكومة وشعباً، خطراً داهماً يهدد كيانهم ذاته. ولما كانت السلطة الفلسطينية التزمت بإعلان دولتها المستقلة بعد أن وجدت تأييداً كلياً لهذا الإعلان لدى القوى والتكتلات العالمية الكبرى، فإن الهاجس الذي أصبح يحدد مسار السياسة الإسرائيلية هو تأجيل هذا الإعلان بقدر المستطاع، أو خلق أوضاع معينة في المنطقة تؤدي في نهاية المطاف الى تنازل الفلسطينيين عن إعلان دولتهم. ففي الوقت الذي اتخذ فيه الحديث عن اقامة دولة فلسطينية مستقلة طابعاً جدياً، تطوع آرييل شارون بزيارة القدسالشرقية، آخذاً معه شراذم من المستوطنين اليهود الجدد، في حركة استفزازية واضحة، وكانت هذه الزيارة هي نقطة انطلاق "انتفاضة الاقصى" التي لا تزال محتفظة بعنفوانها حتى اليوم. كان هدف شارون إذاً من زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة إشعال الموقف إلى الحد الذي تصبح فيه مسألة إعلان الدولة مسألة ثانوية في نظر السلطة الفلسطينية التي ستنشغل عندئد بالتصعيد الإسرائيلي للعنف، إذ قتلت من الشهداء المئات، وشددت حصارها على الفلسطينيين حتى تحرمهم من أرزاقهم. ويبدو لي أن مماطلات باراك في المفاوضات التي جرت بتوسط الرئيس الاميركي السابق كلينتون كانت تستهدف كسب الوقت لمنع الفلسطينيين من إعلان قيام دولتهم، وعندما وجد باراك أنه أصبح في زاوية حرجة لأن تعاطف الحكومات الأوروبية والاميركية مع فكرة إقامة دولة فلسطينية كان واضحاً، لم يجد أمامه سبيلاً إلا التضحية بمنصبه، واللجوء إلى لعبة تغيير السلطة الحاكمة في إسرائيل من طريق الدعوة إلى انتخابات تجرى قبل موعدها، وهي اللعبة نفسها التي لجأ إليها سلفه نتانياهو قبل ذلك بأشهر عدة. ولما كانت الانتخابات الاخيرة أجريت في ظل هاجس إقامة دولة فلسطينية، وهو الهاجس الذي لا يزعج ساسة إسرائيل، بل يزعج الإنسان الإسرائيلي العادي بالمقدار نفسه، فقد كان من الطبيعي أن يفوز فيها ذلك الزعيم الذي تدل تصرفاته كلها على أنه يحمل للعرب أكبر قدر من الكراهية والاحتقار، وعلى أنه جعل من منع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة هدفاً رئيسياً من أهداف حياته السياسية. كان فوز شارون في الانتخابات الاخيرة أمراً طبيعياً لأن في أعماق نفس كل صهيوني مخلص لمبادئه يوجد شارون صغير قابع يتحكم في توجيه أفكار ذلك الصهيوني وتصرفاته. المهم في الأمر أن السياسة الإسرائيلية ستلجأ إلى كل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، من أجل الحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية، وربما لجأت، لو اشتد ضغط القوى العالمية عليها، إلى جعل هذه الدولة محرومة من مظاهر السيادة التي تتمتع بها دول العالم أجمع. في ضوء هذه المقدمات، اعتقد من الممكن للعرب أن يهزموا شارون لو أنهم ساروا في الخط السياسي الذي سأحاول في هذا المقال أن تحديد معالمه العامة. إن الخط الذي ينبغي على السياسة العربية أن تسير عليه بعد أن تكشفت ميول إسرائيل العدوانية بانتخاب شارون رئيساً للوزراء في هذا المنعطف التاريخي الخطير، يحتاج من العرب إلى فكر غير تقليدي يتيح لهم أن يكسبوا الرأي العام العالمي إلى جانبهم، كما يتيح لهم أن يتجنبوا اسلوب التفاوض مع الرؤساء الإسرائيليين الذين أثبتت التجربة أنهم ليسوا على استعداد للقيام بأي تنازلات تلتقي مع الأهداف العربية في منتصف الطريق، بل أثبتت التجربة أنهم على استعداد لترك مواقعهم القيادية كلما وصلت المفاوضات الى نقطة يتعين فيها القيام ببعض هذه التنازلات. وأنا لا استبعد على الإطلاق أن شارون، لو دخل في مفاوضات حاسمة مع العرب، سيضحي بموقعه هو الآخر حتى يعود بالموقف كله إلى نقطة الصفر. أما الطريقة التي نستطيع بها أن نتخلص من كل هذه المناورات والمماحكات فهي أن نعود إلى المصدر الأول للشرعية الدولية في القضية الفلسطينية، أي إلى قرار التقسيم الرقم 181 الذي أصدرته الأممالمتحدة وصدّق عليه مجلس الأمن الدولي في العام 1947. هذا الاقتراح يتميز بأنه سيسحب البساط من تحت أقدام شارون أو أي حاكم آخر لإسرائيل، لأن قرار التقسيم المذكور ينص صراحة على إقامة دولتين: دولة فلسطينية ودولة إسرائيلية على الأرض التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى العام 1948. وصدر قرار التقسيم هذا مصحوباً بخريطة تحدد حدود كل من الدولتين، على أساس الكثافة السكانية لكل من اليهود والعرب، بحيث حصلت دولة إسرائيل الوليدة عندئذ على الأرض التي تسكنها غالبية يهودية، وتحصل دولة فلسطين التي لم تُعلن بعد على الأرض ذات الكثافة السكانية العربية العالية. كما يتميز هذا الاقتراح بأنه يعطي الدولة الفلسطينية الوليدة مشروعية دولية مرتبطة بمشروعية إسرائيل ذاتها. ولن تستطيع إسرائيل، لو أعيد قرار التقسيم هذا الى الحياة، أن تبدي أي اعتراض على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، لأن اعتراضها هذا سيكون اعتراضاً على شرعية إسرائيل التي لم تصبح دولة الا بفضل هذا القرار، وفي هذه الحال لن يتمكن شارون، أو ألف شارون، من أن يرفع اصبعاً في وجه الدولة الفلسطينية عند إعلانها. وربما كانت الميزة الكبرى لهذا الاقتراح هي أنه ينقل القضية بأسرها من المسار التقليدي الذي ظلت ملتزمة به، وبدلاً من أن يترك إسرائيل تسوّف وتماطل وتتظاهر بأنها هي التي تقدم الى العرب تنازلات، يضع إسرائيل في مواجهة الشرعية الدولية الكبرى، ممثلة في الأممالمتحدة. ومن المهم جداً أن نؤكد أن قرار التقسيم هو الأساس الاول، والمرجع النهائي لأية شرعية دولية يُعتدّ بها، واستنادنا على هذا الأساس الأول يخلصنا من الاعتماد على مصادر أخرى غير مأمونة للشرعية الدولية، مثل القرار 242 الذي صدر في وقت كان فيه العرب في أضعف أوضاعهم، بعد هزيمة 1967، والذي كان في الواقع ترجمة ديبلوماسية للشعار الذي رفعه الرئيس عبد الناصر في لحظة يأسه وهوانه بعد هزيمة 1967، أعني شعار "إزالة آثار العدوان" الذي انتقل بالقضية كلها نقلة مشؤومة، جعلت أماني العرب تنحصر في استرداد الأرض التي احتلتها إسرائيل في حرب حزيران يونيو 1967، بينما تركت الأرض العربية التي استولت عليها إسرائيل في 1948 لكي تبتلعها الدولة اليهودية هنيئاً مريئاً!! وأخيراً وليس آخراً، فإن الأخذ بهذا الاقتراح يؤدي إلى حقن دماء كثيرة، عربية وإسرائيلية، لأن شارون بكل تاريخه الدموي وعنصريته العنيفة ضد العرب، لن يترك موضوع إعلان الدولة الفلسطينية يمر إلا بعد أن يجرّب كل ما اشتهر به من أساليب الإرهاب والترويع، وربما لجأ إلى العدوان السافر على العرب إذا لزم الأمر. تبقى كلمة عن إمكان احياء قرار دولي بعد أكثر من خمسين عاماً من صدوره، وعلى رغم أن كاتب هذه السطور ليس من المتخصصين في القانون الدولي، فمن الممكن الجزم بأن قرارات الأممالمتحدة لا تسقط بالتقادم، لأن هذه القرارات لا تصدر وعليها تاريخ يحدد مدة صلاحيتها! ومن المتوقع أيضاً، عندما تدعو الديبلوماسية العربية الى إعادة إحياء هذا القرار، أن تعترض إسرائيل وأنصارها في المحافل الدولية بالقول إن رفض العرب لهذا القرار عند صدوره هو الذي أدى إلى إبطاله وإلغاء تأثيره. في هذه الحال يمكننا أن نرد على هذا الاعتراض بأن تجربة السنوات الخمسين الماضية أثبتت للعرب والإسرائيليين معاً أن أسلوب النزاع المسلح بينهما أسلوب عقيم، كما أدرك العالم كله، وبخاصة في السنتين الأخيرتين أن طريق المفاوضات المباشرة طريق مسدود يمكن أن تمتد حباله عبر سنوات طويلة من دون جدوى، ومن ثم أصبح العرب، في ضوء هذه الظروف المتغيرة هم الطرف الذي يدعو إلى السلام بينما تماطل إسرائيل في الاتفاق على سلام مشرّف بعد أن كانت هي التي تتظاهر أمام العالم بأنها هي التي تطالب بالسلام. ومعنى ذلك أن الظروف تغيرت تغيراً جذرياً منذ صدور قرار التقسيم حتى اليوم، ومن هنا فإن العرب يعترفون بشجاعة بأنهم على استعداد لتغيير تلك السياسة التي أملت عليهم رفض ذلك القرار عند صدوره، وهم الآن واثقون من أن إعادة إحياء قرار التقسيم هي أفضل السبل للخروج من مأزق المفاوضات التي لا تبدو لها نهاية حتى في الأفق البعيد، كما أنه أفضل السبل لضمان الحقوق المشروعة للشعبين العربي والإسرائيلي، شريطة أن تتعهد إسرائيل بإيقاف التوسع الاستيطاني ايقافاً نهائياً، وباحترام حقوق السيادة للدولة الفلسطينية عند إعلانها. واستكمالاً لهذا الرد يستطيع العرب أن يعلنوا للعالم أن إسرائيل بدورها رفضت ذلك القرار بصورة عملية عندما خرجت جيوشها من المساحة التي حددتها لها خريطة التقسيم، واحتلت في 1967 أراضي عربية تفوق مساحتها الأصلية مرات عدة، من بينها أراض فلسطينية كان قرار التقسيم يضعها ضمن حدود الدولة الفلسطينية. وفضلاً عن ذلك فإن التوسع في احتلال الأرض من طريق الاستيطان يمثل عدواناً سافراً، على مسمع ومرأى من العالم كله، على المناطق التي حددها قرار التقسيم بأنها تابعة للدولة الفلسطينية. ومعنى ذلك أن إسرائيل بدورها اعترضت على قرار التقسيم، وأن خرقها لهذا القرار كان عملياً يتخذ شكل تغيير للوضع السائد على الأرض ذاتها، في حين أن اعتراض العرب على هذا القرار كان اعتراضاً نظرياً فحسب، لأن العرب لم يشنوا أي عدوان على أرض الدولة الإسرائيلية، ولم يقتطعوا منها شبراً واحداً منذ صدور ذلك القرار. هذا اقتراح اعتقد أن مزاياه وفوائده واضحة إلى الحد الذي يقنع أي إنسان مهموم بهذه القضية بأن هذا هو السبيل الوحيد لإقرار سلام عادل وشامل في الظروف الراهنة، وهو الذي سيغل يدي شمشون القرن الحادي والعشرين، أعني آرييل شارون، عن هدم المعبد على رؤوس الجميع. ولولا أنني مواطن عادي لا يملك من السلطة شيئاً لقلتُ إن هذا الاقتراح جدير بأن يُعرض على مؤتمر القمة العربية المزمع عقده قريباً في عمان، حتى يتم تبنيه بوصفه نهجاً سلمياً وعقلانياً يرد به العرب على عدوانية شارون ويقدمونه بوصفه حلاً نهائياً لمشكلة الشرق الأوسط التي استعصى حلها على العالم كله طوال العقود الماضية. * مفكر مصري.