الوضع الفلسطيني الجديد الذي فرض نفسه بقوة الشرعية الدولية خارج إطار المفاوضات العبثية ورغمًا عن الاعتراضات والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية بميلاد دولة فلسطين يوم الخميس الماضي كدولة مراقب غير عضو في الأممالمتحدة بعد التصويت على القرار 128/67 الذي حاز على أغلبية مريحة بقبول 138 دولة من أصل 193 ومعارضة 9 دول وامتناع 41 دولة عن التصويت، هذا الوضع الجديد لفلسطين في الأممالمتحدة يضع القضية والقيادة والشعب الفلسطيني أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات التي لا تقتصر فقط على عدم تبلور صيغة نهائية للمصالحة الفلسطينية على أرض الواقع حتى الآن وعدم إعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية، وإنما أيضًا العراقيل التي ستضعها إسرائيل في طريق هذه الدولة للإجهاز عليها في مهدها، وهو ما تمثل بعد بضع ساعات من صدور قرار العضوية عندما أعلنت حكومة نتنياهو عن المصادقة على مشروع استيطاني استراتيجي كبير ببناء 3000 وحدة استيطانية سكنية في الضفة الغربيةوالقدس العربية بما من شأنه تقسيم الضفة الغربية إلى قسمين منفصلين، إلى جانب إصدار تل أبيب قرارها بحجب أموال الضرائب الفلسطينية. ولعل ما لفت النظر أن هذا التحدي الإسرائيلي للمجتمع الدولي قوبل بانتقاد شديد من قبل السكرتير العام للأمم المتحدةوواشنطن والعديد من الدول الأوروبية الأخرى في مقدمتها بريطانيا وفرنسا اللتين سارعتا في خطوة غير مسبوقة باستدعاء السفير الإسرائيلي لديهما، بما يضع النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي أمام مرحلة جديدة يعتبر هذا النوع من ردود الأفعال الغربية على الانتهاكات الإسرائيلية أحد ملامحها البارزة. الوضع الجديد بشكله الراهن يحمل العديد من التساؤلات لا سيما في ظل التباطؤ الذي ظلت تبديه السلطة الفلسطينية خلال المرحلة السابقة، والتردد في اتخاذ القرارات الحاسمة ردًا على استمرار إسرائيل في انتهاكاتها للقرارات الدولية والقانون الدولي واتفاقياتها المبرمة معها، لكن قبل طرح هذه التساؤلات، يفترض أن يكتسب موضوع إتمام المصالحة بين فتح وحماس في أقرب وقت ممكن الأرضية المناسبة لانطلاقة فلسطين نحو تحقيق أهدافها في الحرية والاستقلال بعد أن أصبحت الآن في نظر الشرعية الدولية دولة محتلة. في هذا الملف الشامل سنحاول الإجابة على أسئلة تدور كلها حول تلك المرحلة الجديدة من عمر القضية الفلسطينية: هل استعدت القيادة الفلسطينية لاستحقاقات ما بعد الفوز بالعضوية من خلال خطة شاملة جاهزة للتطبيق.. أم أن الخطة تتضمن الاحتفال بالنصر الدبلوماسي الذي تم إحرازه ثم الاسترخاء والترقب لما ستفعله إسرائيل للانتقام من تلك الخطوة ؟.. وهل سيقتصر الرد -كما في المرحلة السابقة- على الشجب والإدانة أم أن هنالك آلية جديدة للرد على الانتهاكات الإسرائيلية ؟.. ولماذا لم تطرق الرئاسة الفلسطينية الحديد قبل أن يبرد بالشروع فورًا في تقديم طلبات الانضمام إلى الهيئات المنبثقة عن الأممالمتحدة بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية ؟.. وهل نتوقع إعلانًا وشيكًا من الرئاسة الفلسطينية بإلغاء أوسلو ومن ثم السلطة ؟.. وأسئلة أخرى كثيرة تدور كلها حول الوضع الفلسطيني الجديد.. والتي سنحاول الإجابة عليها مع تسليط الضوء على المرحلة الفلسطينيةالجديدة بتحدياتها واستحقاقاتها وشروط وعوامل نجاحها.. منعطفات مهمة 65 عامًا مرت منذ أول قرار صادر عن الأممالمتحدة بشأن القضية الفلسطينية (قرار تقسيم فلسطين 194 في 29 نوفمبر 1947) حتى قرار إعلان فلسطين دولة بصفة مراقب غير عضو يوم الخميس الماضي، مرت خلالها القضية الفلسطينية بسلسلة من الأحداث والتطورات الدراماتيكية بدءًا من النكبة 1948 مرورًا بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في 1964 ثم انطلاق ثورة فتح في بداية العام 1965، ثم نكسة 67 التي أدت إلى ابتلاع إسرائيل لما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، إلى معركة الكرامة في 31 مارس 1968 التي أعادت للعرب كرامتهم التي فقدت على إثر هزيمة يونيو/ حزيران 1967، إلى استعادة المكانة السياسية والهوية الوطنية للشعب الفلسطيني في المحافل العربية والإقليمية والدولية، إلى الخطاب التاريخي للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الأممالمتحدة عام 1974 الذي اعتبر البداية الحقيقية للتضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقه في تقرير المصير متمثلا في الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني ثم عضوا مراقبا في الأممالمتحدة، وما أعقب ذلك من تغير في الفكر السياسي الفلسطيني الذي تمثل بالقبول بفكرة الدولتين للشعبين على حدود الرابع من حزيران 1967 الذي تكرس بإعلان وثيقة الاستقلال في 1988، إلى إقامة الكيان السياسي الفلسطيني في أعقاب التوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ «أوسلو» 1993- 1994 فيما عرف بالسلطة الوطنية الفلسطينية. خلال هذه المسيرة النضالية الطويلة صدرت عشرات، بل مئات القرارات عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بشأن هذه القضية الشائكة لم ينفذ منها إلا النزر اليسير بسبب التعنت الإسرائيلي والفيتو الأمريكي الذي ظل يوفر الحماية والحصانة لتلك الانتهاكات. وفي غضون ذلك شهدت القضية الفلسطينية أحداثًا مأساوية وحروبًا ضارية استخدمت فيها إسرائيل ترسانة أسلحتها الفتاكة ضد الفلسطينيين شبه العزل بما في ذلك الأسلحة الممنوعة دوليًا مخلفة القتل والإعاقة والدمار والتشرد والمآسي لمئات الآلاف من الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني، اقترفت خلالها إسرائيل عشرات المذابح والمجازر في دير ياسين والدوايمة وقبية وكفر قاسم ونحالين وخانيونس والسموع وصبرا وشاتيلا والخليل وجنين وغزة وغيرها. عبقرية التوقيت كان الحظ حليفًا للفلسطينيين في توجههم للأمم المتحدة هذه المرة، فقبل عام تقريبًا وجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) من على منبر الأممالمتحدة خطابًا بليغًا قوطع مرات عديدة من قبل الأعضاء بالتصفيق الحاد، لكن الطلب الفلسطيني للحصول على العضوية الكاملة مع ذلك لم يحصل على القبول، ليس بسبب الفيتو الأمريكي الذي لم تضطر واشنطن إلى استخدامه، وإنما لأن مشروع قرار العضوية لم يحصل على الأصوات التسعة (من أصل 15 هم مجموع دول مجلس الأمن الدولي) اللازمة للقبول بالعضوية. وقتها كان البعض من المراقبين يتساءل: عن أي دولة يتحدث أبو مازن وبأي صفة ؟ في إشارة واضحة إلى الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني ووجود حكومتين فلسطينيتين واحدة في رام الله والأخرى في غزة. بيد أن الذهاب إلى الأممالمتحدة هذه المرة كان مختلفًا، فقد سبقه حادثان على جانب كبير من الأهمية لم يفصل بينهما إلا بضعة أيام. أهمية هذين الحدثين أنهما نقلا القضية الفلسطينية من حالة الركود إلى حالة التوهج فأنعشا القضية وأعادا الحياة إلى روح المقاومة الفلسطينية وإلى الاهتمام الدولي بالأوضاع الفلسطينية عندما حقق الطرفان المتخاصمان نصرين كبيرين فاجآ العالم كله بما في ذلك الولاياتالمتحدة وإسرائيل، فقد صمدت حماس ومعها فصائل المقاومة في قطاع غزة الشهر الماضي أمام العدوان الوحشي الذي شنته إسرائيل على القطاع، وحماس لم تمتص فقط شراسة العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي شنته إسرائيل على مدن القطاع وقراه ومخيماته موجهة طائراتها وبوارجها وأسلحتها الثقيلة نحو المدنيين الأبرياء العزل إلى جانب استهدافها المباني السكنية والمنشآت العامة والبنى التحتية، وإنما وجهت مئات الصواريخ -التي لم تعد تنكية- إلى ما وراء الخط الأخضر وصولًا إلى تل أبيب ويافا والقدسالغربية وهرتسليا وبئر سبع، وطالت بعض تلك الصواريخ قواعد عسكرية، وشاهد العالم كله نتنياهو وهو يسارع بالفرار نحو أحد المخابئ هربًا من تلك الصواريخ. أما الحدث البارز الآخر فتمثل في مباركة خالد مشعل رئيس مكتب حماس لقرار الرئيس أبو مازن التوجه إلى الأممالمتحدة ردًا على التهنئة التي وجهها أبو مازن له بالنصر الذي تحقق لغزة عندما لجأت تل أبيب لوساطة مصر لوقف صواريخ حماس. ثم اكتمال هذا النصر (الدبلوماسي) بقبول فلسطين بصفة دولة مراقب غير عضو في الأممالمتحدة. وكانت الرسالة التي وصلت إلى العالم كله: أبو مازن يذهب إلى الأممالمتحدة هذه المرة وهو متوافق مع حماس التي لقنت إسرائيل درسًا لن تنساه مفاده أن المقاومة الفلسطينية لم تمت، وأن الرئيس عباس ما يزال يحمل السلاحين اللذين سبق للزعيم الراحل أبو عمار أن لوح بهما من على منبر الأممالمتحدة قبل 38 عامًا: البندقية وغصن الزيتون. والحقيقة فإن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 من نوفمبر الماضي لصالح طلب منظمة التحرير الفلسطينية بالاعتراف بفلسطين دولة مراقب غير عضو، لم يشكل فقط نصرًا دبلوماسيًا للقضية الفلسطينية لا مثيل له منذ العام 1974، وإنما شكل أيضًا نكسة كبيرة لإسرائيل حيث اعتبر البعض أن قرار العضوية أدى إلى عزلة إسرائيل لاسيما بعد أن نظر العالم كله إلى أبو مازن باعتباره رئيسًا لكل الفلسطينيين وليس لرام الله فقط، وبعد أن كشف عدوان غزة والقرار الاستيطاني الإسرائيلي الجديد عن الوجه القبيح لإسرائيل. ماذا يعني ميلاد دولة فلسطين؟ يعني حصول الفلسطينيين على شهادة ميلاد لدولتهم ضمن ما يعنيه أن الأممالمتحدة ستنظر إلى الوضع الفلسطيني الراهن على ان المناطق التي احتلت بعد الرابع من يونيو 1967 هي أراض محتلة، وليست مناطق متنازع عليها كما تزعم اسرائيل. وهو ما سيوجد آلية جديدة في التعامل بين الدول الأعضاء وإسرائيل من جهة، وبين فلسطين وإسرائيل من الجهة الأخرى، إلى جانب ما هو متوقع من رفع التمثيل الدبلوماسي والسياسي الفلسطيني في العديد من دول العالم، والوضع الفلسطيني الجديد يعطي الحق لدولة فلسطين الدفاع عن سياستها ومياهها وحدودها ومقدساتها وتراثها كذلك ما يعنيه من إلزام إسرائيل بتحمل مسؤولياتها وواجباتها كقوة احتلال في ضوء القانون الدولي واتفاقيات جنيف الأربع إلى جانب الرسالة الواضحة التي سارع الفلسطينيون إلى الإعلان عنها بأنه في حالة أي اعتداء إسرائيلي جديد فإن دولة فلسطين لن تتردد في التوجه للمحكمة الجنائية الدولية بما يعني أن قصف المدنيين والإبادة الجماعية لعائلات فلسطينية بكاملها تحت أي مبرر لم يعد متاحًا لإسرائيل بعد اليوم. كما تعني العضوية عودة فلسطين إلى الخريطة الدولية، وارتفاع أسهم منظمة التحرير الفلسطينية، ويعني أيضًا أن الحصول على هذا النوع من العضوية في المنظمة الدولية سيمكن فلسطين من اكتساب العضوية في ال 25 هيئة دولية منبثقة عن الأممالمتحدة بما في ذلك المحكمة الدولية الجنائية، وإمكانية الحصول على العضوية الكاملة فيما بعد كما حدث في العديد من الأمثلة مثل فيتنام. ويعني كذلك عدم التخلي عن حق العودة للاجئين بموجب القرار 194، وغير ذلك من القرارات السابقة الصادرة عن الأممالمتحدة بشأن القضية الفلسطينية إلى جانب الحفاظ على كل المنجزات التي تحققت للفلسطينيين خلال مسيرة نضالهم الطويلة. كما يعني -وعلى المستوى الداخلي- الحق في إصدار عملة فلسطينية وجواز سفر فلسطيني موحد لكل أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ووضع دستور جديد واستبدال المجلس التشريعي ببرلمان فلسطيني وإلغاء مسمى رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية واستبداله بمسمى رئيس دولة فلسطين. الحصاد الفلسطيني لما بعد الوضع الفلسطيني الجديد يمكن أن يكون وفيرًا ومثمرًا فقط إذا ما عبأت جميع الفصائل والقوى الوطنية جهودها في تلك المرحلة الحاسمة من مسيرة النضال الفلسطيني من خلال التوافق والالتفاف حول برنامج سياسي ومطلب موحد قادر على تجسيد معنى الدولة على أرض الواقع فهل في إمكان تلك الفصائل والقوى الوطنية النجاح الوفاء بهذا الاستحقاق الوطني الذي يعتبر الجسر الحقيقي للعبور نحو إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة على الأراضي المحتلة عام 1967 بعاصمتها القدس الشريف.