من الواضح أن العلاقات المصرية - الأميركية تأتي في قمة اهتمامات المسؤولين في الإدارة المصرية. ولا يقتصر هذا الاهتمام البالغ على مؤسسات الرئاسة ووزارة الخارجية المصرية والمخابرات العامة - وهي الجهات المسؤولة عن علاقات مصر الدولية - ولكنه يمتد الى قطاعات أخرى، من القوات المسلحة والشرطة والوزارات المسؤولة عن الشأن الاقتصادي الى وزارات التعليم والصحة... ولا يعود هذا الاهتمام الى كون الولاياتالمتحدة الدولة "الأعظم" في العالم وحسب، واللاعب الاساسي في الساحة السياسية الدولية والاقليمية، والصوت الحاسم في مؤسسات العولمة الاقتصادية الرأسمالية السائدة صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وإنما ايضاً الى حيوية الدور الذي تلعبه الولاياتالمتحدة في اقتصاد مصر وأمنها وسياستها الخارجية والداخلية، وهو دور غير مسبوق بدأه الرئيس السادات في السبعينات، حتى يمكن القول إن العلاقات المصرية - الأميركية أصبحت قضية داخلية في مصر! وعلى رغم وصول هذه العلاقات الى مستوى بالغ العمق، والحرص البالغ من الإدارة المصرية الحالية عليها، إلى حد التأكيد على وجود علاقة خاصة وتوافق استراتيجي أو شراكة استراتيجية، ورهان واضح من إدارة الرئيس مبارك على مساهمة واسعة للولايات المتحدة في تنمية الاقتصاد المصري ودعم دور مصر الاقليمي، فهناك خلافات بين الإدارتين المصرية والأميركية تبرز الى السطح بقوة من حين إلى آخر، وتعكس تناقضاً حقيقياً في المصالح. ومع تولي جورج بوش الأبن رئاسة الولاياتالمتحدة وإعلان اسماء معاونيه، طرح بإلحاح تساؤل حول مستقبل هذه العلاقات في ظل الإدارة الجديدة، وموقفها من القضايا الساخنة المثارة بين البلدين خلال السنوات الأخيرة تحديداً؟ الأهداف الأميركية قد ينسى البعض أن هذه العلاقات التي ينظر اليها تيار واسع باعتبارها علاقات استراتيجية، والتي تشكلت أبعادها الحقيقية في منتصف السبعينات بين الرئيس السادات والرئيس الأميركي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر ثم بين السادات وكارتر، تحققت نتيجة تغيير جوهري في السياسة المصرية لتتوافق مع المصالح الأميركية في المنطقة. حددت الولاياتالمتحدة سياستها في الشرق الأوسط والمنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية وفي ظل الحرب الباردة على أربعة أسس هي: - جر المنطقة إلى الحرب الباردة بين الغرب والشرق وإشراكها في حصار الاتحاد السوفياتي والدول المتحالفة معه من طريق دفع الحكومات العربية الى الدخول في الأحلاف العسكرية، وإقامة قواعد عسكرية على الأرض العربية تستخدم ضد الاتحاد السوفياتي في حالة الحرب الساخنة وتكون بمثابة صمام امان ضد قيام حركة وطنية أو نظم حكم لا ترضى عنها أميركا في المنطقة، وللتحكم في مجاري وممرات المياه الرئيسية قناة السويس - باب المندب - مضيق هرمز.... - إقامة إسرائيل وتثبيتها في قلب الوطن العربي كقاعدة عسكرية واقتصادية متقدمة. - ضمان السيطرة على مناطق البترول، إذ طرح رجال السياسة والمال في أميركا ما أسموه "سياسة خارجية بترولية في الشرق الأوسط" وأعلن هارولد إبكس مستشار الرئيس الأميركي روزفلت لشؤون البترول "أن عاصمة البترول في العالم تنتقل الى الشرق الأوسط". - احتكار الولاياتالمتحدة السوق العربية اقتصادياً وتجارياً. وكان من الطبيعي وقوع الصدام بين السياسة الأميركية والحركة الوطنية في مصر والعالم العربي. ويسجل التاريخ سلسلة طويلة من المواجهات قبل الثورة في ظل حكومة حزب "الوفد" التي رفضت النقطة الرابعة والقيادة الرباعية للشرق الأوسط، وبعد ثورة 23 تموز يوليو 1952 ضد حلف بغداد ومعركة سحب تمويل السد العالي وعدوان 1956 والحصار الاقتصادي ومبدأ ايزنهاور "لملء الفراغ في الشرق الأوسط" وعدوان 1967 ومعارك الاستنزاف وحرب 1973. ولكن هذه المواجهات تحولت عقب انتصار تشرين الأول اكتوبر 1973 الى سعي حثيث للتحالف مع السياسة الأميركية في المنطقة والصلح المنفرد مع إسرائيل، بدأت بزيارة السادات المفاجئة لإسرائيل في 19 تشرين الثاني نوفمبر 1977، وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد في 6 ايلول سبتمبر 1978 بين السادات وبيغن وتحت رعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر، ومعاهدة الصلح بين السادات وبيغن في 26 آذار مارس 1979. التجاوب المصري بهذا التحول الدرامي في السياسة المصرية، ثم انتهاء الحرب الباردة باختفاء الاتحاد السوفياتي 1991 وقبل ذلك حرب الخليج الثانية 1990 تحددت الاهداف الأميركية في المنطقة في خمسة اهداف، في مقدمها تنفيذ مبدأ كارتر 1980 والذي يقوم على "تحقيق وجود عسكري أميركي فاعل ومستديم في المنطقة". ويعتمد على "دعم القوات المحلية الصديقة التي تمثل رأس الحربة للتحرك العاجل الى حين وصول القوات الأميركية. وضرورة اجراء تدريبات دورية للقوات الأميركية في المنطقة بهدف خلق تعاون فاعل مع القوات الحليفة لمعرفة المواقع جغرافياً والتدريب في المناخ نفسه والظروف نفسها"، وسيطرة الولاياتالمتحدة على مناطق النفط وتحكمها في طرق الملاحة من هذه المناطق إلى أوروبا والولاياتالمتحدة، وإقامة بنية أمنية اقليمية في المنطقة "وقيام ترتيبات تضمن توازناً في المنطقة يؤدي إلى قيام مناخ سلمي"، من أجل انهاء النزاع الصراع العربي الإسرائيلي وفرض إسرائيل قوة اقليمية كبرى مسيطرة في المنطقة وتحويل اقتصادات الدول العربية الى اقتصاد السوق وانسحاب الدولة واطلاق حرية القطاع الخاص والتجارة وخصخصة الشركات والمؤسسات المملوكة للدولة. وتجاوبت ادارة الرئيس مبارك مع السياسة الأميركية بوضوح فلعبت مصر دوراً رئيسياً في عملية التسوية السياسية بين العرب وإسرائيل بخاصة على الجانب الفلسطيني منذ توقيع اتفاق "اوسلو" وتحويل ما سميّ بالسلام البارد بين مصر وإسرائيل الى "سلام ساخن". وعقدت قمة القاهرة الرباعية التي ضمت الرئيس مبارك والملك حسين والرئيس ياسر عرفات واسحق رابين، وهي أول قمة عربية تشارك فيها إسرائيل على هذا المستوى. ما حدا بوزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت وارن كريستوفر الى القول بأن هذا اللقاء "ليس فقط حدثاً تاريخياً لا سابق له، بل هو عملية التزام دراماتيكية للمجتمعين من أجل التعاون وبناء السلام". ثم عقدت قمة شرم الشيخ لمكافحة الارهاب 1996 والتي وصفتها الولاياتالمتحدة ب"اكبر تجمع في التاريخ للزعماء العرب في مؤتمر مع إسرائيل"، ودور مصر في مؤتمرات الشرق الاوسط وشمال افريقيا الاقتصادية والتي استهدفت دمج إسرائيل بالمنطقة اقتصادياً على اساس قيادي، وصولاً الى الدور الذي تلعبه الإدارة المصرية حالياً في التسوية السياسية بين الفلسطينيين وإسرائيل. وكما قالت الاهرام "فلولا تدخل الرئيس مبارك لدى الاخوة الفلسطينيين لما تمت هذه القمة اصلاً" قمة كامب ديفيد. وبالطبع لم يقف الدور المصري عند حدود إنجاح التسوية السياسية على الأسس التي حددتها الولاياتالمتحدة وإسرائيل منذ 6 آذار مارس 1991، بل لعبت دوراً غير عادي في تسهيل الوجود العسكري الأميركي في الخليج عقب الغزو العراقي للكويت. فقدمت المظلة الضرورية لهذا الوجود ولقيام التحالف الدولي لتحرير الكويت وضرب العراق "فلولا اضطرار مصر والسعودية وسورية ودول الخليج والمغرب للمشاركة ضمن قوات التحالف، لما كان في استطاعة الولاياتالمتحدة وحلفائها انزال جندي واحد من جنودها فوق الارض العربية". ومثلت مناورات "النجم الساطع" استجابة أخرى ومهمة للسياسة الأميركية، وكما قال الجنرال ميجن جاون الذي ناب عن الفريق انتوني زين في حضور المؤتمر الصحافي المشترك حول هذه المناورات العام 1999 فإن "المناورات تهدف الى تعزيز التحالف العسكري المتميز بين مصر والولاياتالمتحدة". وأضاف وليام كوهين وزير الدفاع في إدارة كلينتون "إن هذه المناورات تحذير لبغداد وتشكل جزءاً من سياسة الاحتواء للعراق، وهي احياء لسياسة الاحتواء المزدوج لإيران"، ومصر والولاياتالمتحدة هما الشريكان الاساسيان طوال 18 عاماً في هذه المناورات. والسياسة الداخلية المصرية وتنفيذ الإدارة المصرية لمطالب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تعد استجابة ايضاً للسياسة الأميركية وهو ما سجله "بيان الصداقة الأميركية لمصر"، الذي وقعه 71 عضواً في الكونغرس مشيدين ب"الأثر الايجابي لعملية تحرير الاقتصاد المصري وخصخصة مشاريع كانت مملوكة للدولة، وهو ما يعد اتجاهاً للحكومة المصرية الى السوق، ويمثل سوقاً مهمة للمنتجات الصناعية والزراعية الأميركية". لذلك لم يكن غريباً أن يقول دانيال كيرتزر السفير الأميركي في مصر أمام الكونغرس "إن مصر هي أهم حليف استراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وليس فقط في العالم العربي"، وان تحتل مصر المركز الثاني - بعد إسرائيل - في حجم المعونات الأميركية الخارجية والتي وصلت الى 3،2 بليون دولار سنوياً في السنوات الاخيرة، وان يصل اجمالها خلال 25 عاماً الى 23 بليون دولار طبقاً للمصادر المصرية، و30 بليون دولار طبقاً للمصادر الأميركية. وهذه المعونات المدنية والعسكرية بدأت بعد توقيع اتفاق الصلح بين حكومتي مصر وإسرائيل وأن تسقط اجزاء مهمة من الديون المصرية للولايات المتحدة ودول نادي باريس مكافأة لدورها في حرب الخليج الثانية. أزمة في العلاقات ولكن صورة العلاقات المصرية - الأميركية بعد ما يقرب من ربع قرن تكشف بوضوح أزمة هذه العلاقات وفشل السياسة الخارجية المصرية في تحقيق أهدافها، والتي تتمثل بوضوح في قيام الولاياتالمتحدة بدور أساسي في إنقاذ الاقتصاد المصري من أزمته، والمساعدة في تحقيق الأمن المصري وتحقيق توازن بين مصر وإسرائيل في مقابل دور الإدارة المصرية في تنفيذ السياسة الأميركية في المنطقة، وبما يتفق مع ما تعلنه واشنطن من اعتبار مصر "دولة محورية لا يمكن تجاهل دورها". وتتمثل هذه الأزمة في جوانب لا يمكن تجاهلها، أولها رفض الإدارة الأميركية الاستجابة لمطالب مصر لتحسين الاقتصاد المصري والتي تتمثل في الآتي: - الوجود على خريطة الاستثمارات الأميركية "فمصر على طرف الخريطة، إن لم تكن ليست على الخريطة أصلاً. ولذلك نحن نريد أن نكون في وسط هذه الخريطة" كما قال يوسف بطرس غالي وزير الاقتصاد المصري. فإجمالي الاستثمارات الأميركية في مصر لا يتجاوز 844 مليون دولار أي بعد الاستثمارات السعودية والكويتية وتمثل أقل من 1 في المئة من استثمارات أميركية خارجية وصلت الى 6،1534 بليون دولار حتى نهاية العام 1996. - إلغاء القيود المفروضة على الصادرات المصرية الى السوق الأميركية والتي أدت الى خلل بالغ في الميزان التجاري. فلم تتجاوز صادرات مصر الى الولاياتالمتحدة حتى العام الماضي 7،6 بليون دولار بينما بلغت الواردات 4،52 بليون دولار أي بعجز مقداره 7،45 بليون دولار. - إقامة منطقة للتجارة الحرة بين مصر والولاياتالمتحدة والتي بدأت المناقشات حولها منذ اكثر من ثلاث سنوات، وألحّ الرئيس مبارك شخصياً على توقيع الاتفاق الخاص بها خلال الزيارات الثلاث الاخيرة لواشنطن أسوة بالاتفاق الذي وقع مع إسرائيل والاردن أخيراً. وما زالت الإدارة الأميركية ترفض اقامة هذه المنطقة حتى الآن بحجج مختلفة. والغريب أن الإدارة الأميركية طلبت من الحكومة المصرية - قبل النظر في هذه المطالب - التخلي عن فترة السماح الممنوحة لمصر بمقتضى اتفاق الغات واصدار قانون جديد لبراءات الاختراع وخفض التعرفات الجمركية واعطاء ميزات اضافية لرؤوس الأموال الأميركية. ولكن الأهم من كل ذلك اشتراط وجود تعاون مصري - إسرائيلي أقوى كشرط ضروري للاستثمار الأميركي في مصر. وفي ندوة عقدت اخيراً في القاهرة نصح الديبلوماسي الأميركي روبرت بللترو في ملاحظاته امام الندوة أن تُدخل مصر تفاوضها حول اتفاق منطقة التجارة الحرة ضمن عمليات مساندتها وتعاونها لإقرار السلام التسوية السياسية بين العرب وإسرائيل. الجانب الثاني للأزمة يتمثل في قضية التوازن العسكري مع إسرائيل والتسلح النووي. فالإدارة الأميركية ترفض مطالب الإدارة المصرية بتحقيق توازن عسكري مع إسرائيل، وترد بأن "توازن القوى ضروري في حال الصراع وفي حال وجود احتمال لنشوب صراع. ولكن مصر في حال سلام مع إسرائيل الآن". كما ترفض الدعوة المصرية بخفض الاسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل في المنطقة، وترفض إلحاح الإدارة المصرية على ضرورة توقيع إسرائيل على اتفاق حظر انتشار الأسلحة النووية. وتقول الولاياتالمتحدة صراحة "ان الترسانة النووية الإسرائيلية جزء من الترسانة التابعة لحلف الأطلسي ولا يمكن التضحية بها حالياً" وان هناك "خطر تملك دول في المنطقة للسلاح النووي خصوصاً ايران وليبيا"، متجاهلة ان إسرائيل - وبفضل الدعم الأميركي المتواصل - تتمتع بتفوق مطلق على الدول العربية مجتمعة، سواء في "مجال نظم الاسلحة التقليدية، أو في مجال السلاح فوق التقليدي الكيماوي والبيولوجي أو في مجال استخدام الفضاء الخارجي لتحقيق اهداف عسكرية "إضافة إلى احتكارها للسلاح النووي" وهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تعتنق عقيدة عسكرية هجومية تقوم على إعطاء قواتها المسلحة الحق في بدء القتال خارج أراضيها وتوجيه ضربات اجهاضية طبقاً لتصوراتها وحساباتها الخاصة ضد الدول المجاورة". وهو ما يجعل الأمن القومي المصري في خطر حقيقي. الجانب الثالث هو إلحاح الولاياتالمتحدة على الإدارة المصرية أن تمارس ضغوطاً على الفلسطينيين والسوريين للقبول بالتسوية السياسية طبقاً للاقتراحات الإسرائيلية والأفكار الأميركية. والتلويح بأن عدم اتخاذ هذا الموقف سيؤدي إلى تغيير الموقف الأميركي من مصر، والتأكيد أن المساعدات الاقتصادية والعسكرية مرتبطة بممارسة الإدارة المصرية لدورها المحدد في التسوية السياسية. إن هذه الحقائق تؤكد أن علاج الخلافات والأزمات في العلاقات المصرية - الأميركية لن يأتي من إدارة بوش أو أي ادارة أميركية أخرى، وإنما برؤية جديدة وسياسة مصرية جديدة، تقوم على التمسك بالنظام الاقليمي العربي، وعلى تفكيك خيوط التبعية الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة الأميركية، وعلى إقامة علاقات متوازنة مع أوروبا واليابان وروسيا، وعلى لعب دور أساسي فاعل في تجميع دول الجنوب. من دون هذه الرؤىة تظل السياسة الخارجية المصرية في حال خلل. * كاتب مصري.