استقبل الرأي العام المصري بكثير من الراحة والتقدير المواقف التي أعلنها الرئيس محمد حسني مبارك في أحاديثه ولقاءاته التلفزيونية المتعددة وحدد فيها موقف الإدارة المصرية من العمليات الإرهابية التي تعرضت لها الولاياتالمتحدة في 11 أيلول سبتمبر 2001، ومن التحركات الأميركية السياسية والعسكرية التي تلت هذه العملية. ورفضت الإدارة المصرية - أو على الأقل أعلنت الامتناع عن المشاركة - في ما دعت إليه إدارة الرئيس جورج بوش من تكوين تحالف دولي لمكافحة الإرهاب، استناداً إلى إقامة مثل هذا التحالف "معناها المخاطرة بتقسيم العالم إلى فصائل عدة، ويعني ذلك أن تتحول الدول التي تنضم إلى التحالف أهدافاً للإرهابيين"، كما قال الرئيس المصري. وشكلت هذه المواقف ملامح سياسة عامة تجاوبت مع المشاعر الشعبية في مصر التي فصلت بدقة بين جريمة قتل هذا العدد الهائل من الأبرياء في تفجير مركز التجارة العالمية وجزء من البنتاغون واعتبرته جريمة إرهابية مدانة بكل المقاييس، وبين السياسة الأميركية المعادية للحقوق والمصالح العربية ولشعوب العالم الثالث عموماً والتي تضع الولاياتالمتحدة الأميركية في موقف الإدانة والعداء من الشعب المصري والشعوب النامية جميعاً. لكن هذا التوافق العام حول المواقف السياسية لإدارة الرئيس مبارك في هذه الأزمة، لا يمنع وجود مخاوف حقيقية لدى قوى كثيرة من تراجع الإدارة المصرية عنها، إذا ما تعرضت لضغوط تهدد العلاقات الخاصة والوثيقة بين البلدين، والتي تضع في يد الإدارة الأميركية أوراقاً مهمة للضغط، فمنذ توقيع اتفاقية الصلح بين الرئيس الراحل أنور السادات ومناحم بيغن عام 1979، احتلت مصر المرتبة الأولى - بعد إسرائيل - في المعونات الخارجية الأميركية، فحصلت مصر سنوياً على 3،2 بليون دولار منها حوالى 3،1 بليون دولار معونات عسكرية وحوالى بليون دولار معونات اقتصادية اعتمدت عليها الحكومة المصرية اعتماداً أساسياً في سياستها الاقتصادية وفي تسليح قواتها. وعلى رغم البدء في تخفيض المعونات الاقتصادية تدريجاً وإلغائها تماماً خلال عشر سنوات، فما زالت السياسات المصرية تعتمد على الدور الاميركي في تنمية الاقتصاد المصري. وتمثل البديل للمعونات الحالية في سعي الحكومة المصرية لإلغاء القيود المفروضة على الصادرات المصرية للسوق الاميركية والتي أدت إلى أن صادرات مصر إلى تلك السوق لم تتجاوز عام 2000 ما قيمته 7،6 بليون دولار، بينما ارتفعت الواردات إلى 4،52 بليون، أي بعجز سنوي لمصلحة الولاياتالمتحدة 7،45 بليون دولار سنوياً، وكذلك السعي إلى إقامة منطقة التجارة الحرة وهو ما ترفضه أميركا حتى الآن والجري وراء الاستثمارات الأميركية والتي وصل إجمالها في مصر حتى العام الماضي إلى 844 مليون دولار فقط، وهي أقل من الاستثمارات السعودية أو الكويتية في مصر، وأقل من 1 في المئة من الاستثمارات الخارجية الأميركية. في الناحية العسكرية ما زالت الإدارة المصرية تأمل بأن توافق أميركا على تحقيق قدر من التوازن العسكري مع إسرائيل التي مكنتها الولاياتالمتحدة من تحقيق التفوق المطلق على مصر والبلاد العربية مجتمعة، سواء في مجال نظم التسلح التقليدية، أو في المجال فوق التقليدي الكيماوي والبيولوجي، أو في مجال استخدام الفضاء الخارجي لتحقيق أهداف عسكرية، أو في مجال احتكار السلاح النووي باعتبار إسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة. وبالتالي، فالولاياتالمتحدة تملك أوراق ضغط اقتصادية وعسكرية بالغة القوة. ولا يمكن تجاهل ما أعلنه بوش من أن "من لا يقف معنا فهو يقف ضدنا ومع الإرهاب". وسبق للادارة المصرية ان تراجعت عن مواقفها التي حظيت بتأييد شعبي مماثل في أكثر من مرة، منها الموقف من حرب الخليج الثانية ومن تحديد اتفاق حظر الأسلحة النووية. فعقب الغزو العراقي للكويت المدان بكل المقاييس، لم يوافق الرئيس مبارك على الدعوة التي كان تبناها الرئيس حافظ الأسد، ثم الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد، لعقد قمة عربية، باعتبار أن القمة - إذا عقدت - لن تكون مجدية، ولن تؤدي إلا إلى مزيد من تمزيق العرب لملابس بعضهم البعض، ومزيد من تشرذم الموقف العربي، كما قال الرئيس حسني مبارك في مؤتمر صحافي. في الوقت نفسه علق مصدر رسمي على طلب الولاياتالمتحدة الأميركية إرسال قوات عربية تقدم التغطية الضرورية للوجود الأميركي العسكري في المنطقة، فقال لإذاعة "بي بي سي" البريطانية: "إن مصر لن تنضم إلى القوات المتعددة الجنسية في الخليج، وأن حلاً عربياً فقط يسمح بحل الأزمة". وأضاف أن "الرئيس حسني مبارك يؤيد نشر قوات عربية كقوة فصل بين العراقوالكويت"، ونفى مصدر مسؤول آخر أن تكون مصر سمحت بتقديم أي تسهيلات في قواعدها للقوات الأميركية المتجهة إلى الخليج. وبمجرد ممارسة الولاياتالمتحدة ضغوطها، وزيارة ديك تشيني وزير الدفاع في ذلك الحين نائب الرئيس الاميركي حالياً لمصر، تقرر السماح للطائرات الأميركية بالمرور في الأجواء المصرية والسماح للسفن الحربية الأميركية التي تتحرك بالوقود الذري بالمرور في قناة السويس، وإرسال قوة مصرية ضمن القوات المتعددة الجنسية التحالف الدولي لتحرير الكويت تنفيذاً لطلب الولاياتالمتحدة، والدعوة إلى مؤتمر قمة عربي عاجل يتولى تقديم التغطية لإرسال القوات المسلحة المصرية للخليج. وتكرر التراجع المصري بصورة أخرى في قضية التمديد اللانهائي لاتفاق حظر انتشار الأسلحة النووية، وما أعلنته الحكومة المصرية من عزمها عدم التصويت على الموافقة على تمديد المعاهدة ما لم توقع إسرائيل مسبقاً على الاتفاق وتسمح بالتفتيش على منشآتها الذرية. كانت الحكومة المصرية طرحت قضية الترسانة النووية لإسرائيل في مؤتمر القمة الاقتصادية لشمال افريقيا والشرق الأوسط في الدار البيضاء في تشرين الأول اكتوبر 1994. وفي العام 1995 أعادت الحكومة المصرية إثارة الموضوع مرة أخرى، بعد أن تحدد يوم 12 أيار مايو 1995 موعداً للتصويت على تمديد المعاهدة، ولأن "إقامة نظام اقليمي في المنطقة يتطلب أن نتحدث عن الأمن ونزع السلاح وضبط التسلح"، كما قال عمرو موسى. ولكن الإدارة الأميركية أعلنت أن التمديد اللانهائي "غير المشروط للاتفاق" أولوية استراتيجية مطلقة للولايات المتحدة، وأنه يستحيل إخضاع الأمن العالمي لظروف اقليمية متغيرة، وأن الولاياتالمتحدة لا تقبل من حكومة مصر "التي تلقت معونات اميركية بلغت حتى الآن عام 1995 40 بليون دولار، مثل هذا الموقف مع إدراك الحكومة المصرية أن التمديد اللانهائي يمثل مصلحة اميركية أساسية". واستجابت الحكومة المصرية للضغط الاميركي، وأعلنت أنها لا تطلب من إسرائيل أن تنضم إلى المعاهدة الآن ولكن تريد منها الدخول في مفاوضات للاتفاق على خطوات محددة تضمن انضمامها في المستقبل، وان مصر تتفهم ظروف إسرائيل الداخلية والتي ربما لا تمكن حكومة رابين من إعلان انضمامها إلى المعاهدة في أجل محدود وقريب، وان الحكومة المصرية لم تقم من جانبها ولن تقوم بأي جهد أو حملة لحث دول أخرى على رفض التمديد اللانهائي للاتفاق، ولن تعلن تحت أي ظرف انسحابها من هذا الاتفاق الذي وقعه عام 1968 وصدقت عليها عام 1981. وفي النهاية وافقت مصر على التمديد اللانهائي للاتفاق. وزاد من مخاوف تراجع الإدارة المصرية عن موقفها الحالي الذي يحظى بالقبول الشعبي العام، بعض إشارات لا يمكن تجاهل دلالاتها. - فالتأكيد على عدم إرسال قوات مصرية خارج المنطقة لا يعني عدم المشاركة في التحالف الدولي الذي طالبت به أميركا. فقد حددت الولاياتالمتحدة ما تطالب به الدول العربية للمشاركة في هذا التحالف، خصوصاً إغلاق قواعد ومكاتب المنظمات الإرهابية وتوقيف أشخاص متورطين مع المنظمات المتطرفة وملاحقة مصادر تمويلها، والتعاون مع الولاياتالمتحدة في مجال تبادل المعلومات الأمنية والاستعداد للانضمام إلى عمليات الرد العسكرية وتقديم المساعدات حين يتم تحديد الرد العسكري الأميركي. وباستثناء المطلب الأخير الذي أعلنت الإدارة المصرية عدم استعدادها لقبوله، فهناك قبول للمطالب الأخرى. وأعلن الرئيس مبارك بوضوح أن هناك "تبادلاً يومياً للمعلومات بين أجهزة استخبارات البلدين"، وأعلنت وكالة الأنباء الفرنسية أن مناورات "النجم الساطع" التي تتم بين القوات المسلحة المصرية والقوات المسلحة الأميركية وعدد آخر من الدول الغربية والدول العربية كل عامين، ستجرى في موعدها في 8 تشرين الأول اكتوبر 2001 وسيشارك فيها 70 ألف جندي من 12 دولة من بينهم 2000 من الولاياتالمتحدة، وأن هذه المناورات قد تكون فرصة أو غطاء لتجميع القوات الأميركية التي ستستخدم لتوجيه الضربات العسكرية ضد الدول المتورطة في الإرهاب في المنطقة. ومن المهم أن نتذكر أن مناورات "النجم الساطع" التي تمت في مصر العام 1999 وشاركت فيها اميركا وعدد من الدول الأعضاء في حلف الأطلسي - شريك اميركا في التحالف الدولي الحالي ضد الإرهاب - كان من بين أهدافها التدريب على تنفيذ استراتيجية الحلف الجديدة في التوسع جنوباً والتي أعلنت عشية احتفال الحلف بالعيد الخمسين لتأسيسه، وتقوم على عقيدة استراتيجية تعتبر أن التهديدات الموجهة إلى الحلف تأتي من "الدول المارقة" و"الجماعات الإرهابية المتطرفة" وحتى الأفراد، وأن مسرح العمليات بالنسبة إلى الحلف هو في الأساس جنوب أوروبا والضفة الغربية الأخرى من البحر المتوسط، أي مصر والدول العربية. - وهناك تصريح لوزير الخارجية المصري أحمد ماهر يقول فيه إن مصر لا توافق على المشاركة في "تحالف" ولكنها تقبل المشاركة في "ائتلاف" لمكافحة الإرهاب. - وفي مقال إبراهيم نافع رئيس تحرير "الأهرام" والذي يعبر عادة عن اتجاهات الإدارة المصرية، موافقة غير مباشرة على فكرة التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، على أن يتحقق ذلك "عبر مؤتمر دولي تحت مظلة الأممالمتحدة". - وعلى رغم أن هناك اتفاقاً على فكرة عقد المؤتمر الدولي والذي كان للرئيس مبارك فضل السبق في الدعوة إليه منذ سنوات، وأهمية أن يكون من أهداف المؤتمر إقرار تعريف متفق عليه للإرهاب، والفصل بوضوح بين الإرهاب وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال، فهناك مخاوف حقيقية مما يمكن أن ينتهي إليه مثل هذا المؤتمر في ظل الهيمنة الأميركية والأوروبية، وموقفهم في مؤتمر الحكومات ضد العنصرية في ديربان وبالتالي احتمال تجاهل مثل هذا المؤتمر للإرهاب الذي يمارسه بعض الدول مثل إسرائيل. فإذا كان مؤتمر ديربان فشل في وصف إسرائيل بالعنصرية فهل ينجح في وصفها بممارسة إرهاب الدولة؟ أو أن يتم صوغ موقف ضد الإرهاب يتجاهل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. ولا بد هنا من تذكر المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب الذي عقد في شرم الشيخ في آذار مارس 1996، والذي قام بالخلط الواضح بين الإرهاب والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال وتجاهل الإرهاب الذي مارسته وتمارسه إسرائيل في الاراضي العربية المحتلة، وكما أقر الرئيس مبارك في حديثه لصحيفة "الفيغارو" منذ أيام "فقد عقد مؤتمر قمة شرم الشيخ بعد أسابيع من اغتيال اسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل فيما اعتبرناه محاولة إنقاذ سياسي لشمعون بيريز الذي خلف رابين". ولا شك في أن هذه الحقائق، القديم منها والجديد، تجعل المخاوف من تراجع الموقف المصري مخاوف مشروعة، وقد يكون طرحها ومناقشتها في العلن أفضل من إخفائها وانتظار المجهول. * كاتب مصري.