مع أن تعيين مبعوث رئاسي إلى الشرق الأوسط - هو السناتور جورج ميتشيل - كان من القرارات المبكرة التي اتخذها الرئيس الأميركي باراك أوباما في ساعاته الأولى في البيت الأبيض إلا أن الرؤية الأميركية العملية لمستقبل التسوية في المنطقة لا تزال ضبابية. إنها حتى تطرح الشيء ونقيضه معاً. ومع بدء الجولة الأولى لجورج ميتشيل في المنطقة منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة جرى الإعلان أيضا عن «أضخم مناورات عسكرية مشتركة» بين أميركا وإسرائيل لاختبار ثلاثة أنظمة مختلفة للصواريخ الذاتية الدفع في مواجهة «المساعي الإيرانية النووية المتواصلة». صحيح أن مثل تلك المناورات استمرت تجري بانتظام بين الطرفين طوال السنوات الخمس الأخيرة إلا أن المناورات الجديدة التي بدأ التخطيط لإجرائها ستكون هي الأضخم والأكثر تعقيداً. ومع أن أميركا نفسها تمهّد لحوار جاد مع إيران لأول مرة إلا أنها في الوقت نفسه تذكر بإمكانية توظيف إسرائيل في عمل منفرد ضد إيران أو بتنسيق مسبق. وفي الجولة الأوروبية الأولى للرئيس باراك أوباما كان الخطاب الرئيسي له في براغ يدعو إلى عالم خال من الأسلحة النووية وإمكانية التوصل إلى نزع شامل لتلك الأسلحة. إلا أنه قبل أن تمضي 48 ساعة صدر البيان الختامي لقمة دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) داعياً الدول الأطراف في معاهدة منع الانتشار النووي إلى الانضمام طوعاً إلى البروتوكول الإضافي الذي يسمح بالتفتيش المفاجئ والمطلق لأي منشأة، مدنية أو عسكرية، داخل أي دولة، وحتى لو كان مقر رئيس الدولة، بحجة الاشتباه في مواد نووية. أميركا هذه التي تسعى إلى بروتوكول يستبيح دول العالم - الثالث طبعاً - على هذا النحو هي نفسها التي تسمح لإسرائيل بالاستمرار في رفض الانضمام من الأصل إلى معاهدة منع الانتشار النووي. ومن اللافت في هذا الصدد أن مصر مثلا اكتفت بالتوقيع بالأحرف الأولى على تلك المعاهدة في سنة 1970 رافضة التصديق عليها إلا إذا فعلت إسرائيل ذلك. لكن مع توقيع الرئيس أنور السادات معاهدة السلام مع إسرائيل في 1979 كفل هو تصديق مصر على المعاهدة في 1981 فأصبحت ملزمة لمصر بينما إسرائيل مستمرة في رفض الانضمام إلى المعاهدة حتى الآن. وبينما إدارة الرئيس السابق جورج بوش كانت هي التي وقعت مع إسرائيل اتفاقاً أمنياً جديداً ومفاجئاً في 16/1/2009 - أي قبل نهاية سلطتها رسمياً بثلاثة أيام - إلا أن إدارة الرئيس الجديد باراك أوباما كانت هي التي مضت في تنفيذ ذلك الاتفاق وضمّت إليه دولاً أخرى من حلف شمال الأطلسي بهدف مطاط هو منع وصول الأسلحة إلى قطاع غزة من خلال مراقبة تشمل الدول المجاورة والقريبة. وفي كانون الثاني وشباط (يناير وفبراير) الماضيين قامت إسرائيل بغارتين سريتين في شمال شرقي السودان تحت عنوان ضرب قوافل أسلحة كانت متجهة برّاً عبر مصر إلى قطاع غزة. ومع أن إسرائيل لم تؤكد تماماً دورها الحقيقي بعد تسريب أخبار تلك الغارات في آذار (مارس) الماضي إلا أن رئيس وزرائها وقتها اكتفى بالقول إن ذراع إسرائيل الطويلة تذهب إلى «حيثما وأينما تريد» لضرب ما أسماه «البنية التحتية للإرهاب». وبالطبع لم يكن ممكناً للطائرات الإسرائيلية أن تقطع 1400 كيلومتر ذهاباً إلى شمال شرقي السودان ثم العودة من دون تنسيق مع الولاياتالمتحدة، إن لم يكن بمساعدة منها، مع تزاحم السفن الحربية ومحطات الرصد الأميركية في البحر الأحمر. وإذا كانت إسرائيل تتعلل بتخوفها من تسرب أسلحة إيرانية إلى قطاع غزة لتعطي لنفسها الحق في شن غارات حربية في شمال شرقي السودان فبماذا تعلل وجودها المستتر في دارفور غرب السودان ووجود مكتب في تل أبيب لأحد فصائل المتمردين السودانيين بهدف مساعدته عسكريّاً وسياسيّاً ودعائيّاً؟ بل كيف نفسر الجهد الإسرائيلي المباشر وغير المباشر في إطلاق «حملة إنقاذ دارفور» من نيويورك قبل خمس سنوات؟ وبماذا نفسر علاقات إسرائيل المتصاعدة مع أريتريا وقبلها مع إثيوبيا وتنسيقها الأمني مع الأميركيين في جيبوتي وكينيا؟ لقد كررت سابقاً أن أي تسوية عربية مع إسرائيل الدولة لن تمتد مطلقاً إلى إسرائيل الوظيفة لأن هذه الوظيفة هي التي تضمن لإسرائيل استمرار شريانها الحيوي. وكان هناك مروجون سابقاً لفكرة أن «العلاقة الخاصة» لأميركا مع إسرائيل هي من لوازم الحرب الباردة حيث يتم توظيف إسرائيل لضرب النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط. لكن الحرب الباردة انتهت منذ عشرين سنة والاتحاد السوفياتي ذاته تفكك إلى شظايا ومع ذلك استمرت «العلاقة الخاصة» ولخدمة وظائف مختلفة استجدت. بالضبط كما جرى اختلاق وظائف جديدة لحلف شمال الأطلسي تحت عنوان مكافحة التطرف الإسلامي تارة أو الحرب ضد الإرهاب تارة أخرى. وعلى رغم معاهدة سلام إسرائيلية مع مصر مستمرة منذ ثلاثين سنة ومعاهدة أخرى مع الأردن منذ 1994 وله أطول حدود مع إسرائيل إلا أن أميركا كفلت لإسرائيل في العام الماضي برنامجاً تسليحيّاً إضافيّاً لعشر سنوات تالية يتضمن حصولها على أسلحة أميركية تتجاوز قيمتها ثلاثين بليون دولار وفي طليعتها أجيال جديدة من الطائرات والصواريخ. ومع أن أميركا احتفلت بتوقيع اتفاق أوسلو في سنة 1993 بين إسرائيل وياسر عرفات تحت عنوان تسوية سلمية إلا أنها تسوية لم تتحقق أبدا. وفي 2002 بشرنا الرئيس جورج بوش بسعي أميركا إلى إقامة دولة فلسطينية ونحن الآن في 2009 أبعد عن تلك الدولة من أي وقت مضى وما تبقى من الأرض الفلسطينية يتآكل بانتظام بفعل الاستيطان الإسرائيلي. كل ما أصبح لدينا حاليّاً هو «سلطة» فلسطينية كاريكاتورية تعيش في كنف الاحتلال الإسرائيلي ذاته وتحت رقابته وسيطرته. لم تخفف من ذلك انحناءات ياسر عرفات المستمرة أمام صورة إسحاق رابين ولا مبادرة محمود عباس هذا الشهر الى الاتصال برئيس وزراء إسرائيل الجديد بنيامين نتانياهو لتهنئته بعيد الفصح، وهو رئيس الحكومة نفسها التي أعلنت منذ لحظتها الأولى عن رفضها لقيام دولة فلسطينية بل وحتى مقررات أنابوليس التي كانت من الأصل مجرد سراب منذ إعلانها قبل 15 شهرا. رئيس الحكومة الجديدة في إسرائيل يتحدث فقط عن «سلام اقتصادي» مع الفلسطينيين كبديل عن الالتزام بقيام دولة فلسطينية. ومن اللافت أن أول من بدأ الترويج له إعلاميّاً هو توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق ومبعوث اللجنة الرباعية. وفي حواره الأخير مع مجلة «تايم» الأميركية - 20/4/2009 - يقول بلير «إن رئيس الوزراء الجديد نتانياهو بالفعل واضح في أنه يريد تغييراً اقتصاديّاً وأمنيّاً في الضفة الغربية. وهذا هو ما اتفقت معه على عمله. هناك شيء أو شيئان يمكن أن يعنيهما تعبير (سلام اقتصادي) الذي يستخدمه نتانياهو. أحدهما أن التنمية الاقتصادية هي بديل عن دولة. واضح أن هذا غير مقبول. لكنني شخصيّاً أعتقد أنه يريد المعنى الثاني وهو أن يبني الدولة الفلسطينية من القاع إلى القمة وهذا أفهمه وأقبله». وعلى حد تعبير هنري سيغمان رئيس «مشروع أميركا والشرق الأوسط» في نيويورك فإن الحقيقة هي أن نتانياهو يعتبر قيام دولة فلسطينية كارثة يجب تجنبها، لكن توني بلير يريدنا جميعا أن نفهم «ضرورة تهيئة الظروف» أمام نتانياهو قبل أن يتمكن من إطلاع العالم على حرصه على إقامة دولة فلسطينية! وإذا عدنا إلى المنظور الأميركي فإن آخر من عبّر عنه هو رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السناتور جون كيري. فبعد جولة في المنطقة زار خلالها مصر والأردن وسورية ولبنان وإسرائيل والضفة الغربيةوغزة في شباط (فبراير) الماضي قرر كيري أن لديه أربعة أسباب للتفاؤل بالمرحلة الحالية. أولاً تصاعد النفوذ الإيراني بما يدفع الدول العربية المعتدلة إلى العمل مع إسرائيل. وثانياً وجود مبادرة السلام العربية كأساس لخارطة طريق إقليمية. وثالثاً الأمل في التوصل إلى تسوية يمكن القبول بأسسها منذ أيام الرئيس بيل كلينتون. ورابعاً وجود قيادة جديدة في البيت الأبيض. والواقع أنه لا جديد في تلك الأسباب سوى وجود باراك أوباما في البيت الأبيض ومحاولة الجمع بين إسرائيل ودول عربية بحجة الخوف المشترك من إيران. جوهريّاً لا يمكن للخوف أن يصنع سياسة، كما أنه من العبث أن تطلب أميركا وإسرائيل موقفاً عربياً ضد إيران في اللحظة التي تسعى فيها أميركا ذاتها إلى فتح حوار مع إيران. لقد طرح العرب مبادرتهم للسلام مع إسرائيل منذ 28/3/2002 خلال قمة بيروت. من يومها تغيرت الحكومات في إسرائيل ولم يتغير رفض إسرائيل للمبادرة وانتظارها لمزيد من التنازلات العربية. لقد أصبح الملك الأردني عبدالله الثاني مفوضاً من ست دول عربية لنقل رسالة مشتركة إلى الرئيس باراك أوباما خلال استقبال الأخير له في البيت الأبيض بعد يومين، رسالة من صفحتين تبدأ بالتأكيد على حل الدولتين وتنتهي إلى المطالبة بوقف الاستيطان الإسرائيلي والالتزام بفترة زمنية للمفاوضات مع الفلسطينيين. المتفائلون يرون أنها قد تصبح فرصة لتوجه أميركي في اتجاه التسوية. والواقعيون يرون أن الإدارة الأميركية الجديدة تقول كل الكلمات الصحيحة لكنها مستمرة في تعظيم وظيفة إسرائيل في المنطقة على حساب مصالح عربية كبرى. * كاتب مصري