في سنوات الأربعين وبعدما حقق فيلمه الأكبر "المواطن كين"، وتحديداً بعدما فشل هذا الفيلم تجارياً على رغم الصخب الذي ثار من حوله، تحول أورسون ويلز من فنان يقف في قلب الحركة السينمائية والمسرحية، الى فنان يقف على الهامش. وعلى رغم ان ويلز حقق أفلاماً عدة بعد ذلك، وعلى رغم ان الصحافة امتلأت بأخباره، الشخصية والفنية، ظل يعيش على الهامش ويعمل على الهامش. وهو حين رحل عن عالمنا في العام 1985، كان مما قاله بسرور انه فخور بأنه ظل، دائماً، على الهامش. في الزمن الذي عاش اورسون ويلز وأبدع، كان هناك العشرات من المخرجين والفنانين، من الذين كانوا يحققون النجاح تلو النجاح، ويملأون الحياة الفنية صخباً وضجيجاً، وتعد أسماؤهم ضماناً لنجاح العمل واقبال ملايين المتفرجين عليه. مضت على ذلك عقود من السنين طويلة. واليوم، لا يمر شهر إلا يصدر عن أورسون ويلز كتاب أو دراسة، وتوضع عنه اطروحات الدكتوراه، وتعاد عروض أفلامه وتستعاد، وأكثر من هذا: حققت هوليوود نفسها عنه، أو عن جوانب من حياته وعمله، أفلاماً عدة. أما الذين كانوا لب الحركة الفنية ومصدر الصخب في زمانهم فبالكاد يذكرهم، اليوم، أحد. طبعاً لسنا في حاجة الى أن نؤكد هنا من جديد ان اورسون ويلز بقي وبقيت أعماله لأنه فنان حقيقي ومشاكس، ولأن أعماله لم تلق النجاح في زمنها لأنها كانت متقدمة - وبكل بساطة - عن ذلك الزمن، شأنها في هذا شأن القسم الأكبر من الأعمال الفنية الحقيقية. ولسنا أيضاً في وارد دعوة الفنانين الى الاكتفاء بما سيكون لهم من أزمان مقبلة والانصراف عن محاولة الحضور في زمنهم الراهن. فهذا مطلب عسير، وفيه ظلم للفنانين وللفن وللجمهور في آن. كل ما نريد قوله هنا ان اختيار الفنان - السينمائي في حالنا هذه - لأن يبقى على الهامش، هو اختيار صائب، اذ عبره يمكنه ان يبقي فنه على نقائه، ويسهم في بناء مستقبل الفن عموماً. ولئن كان السينمائي الهامشي يُعد ملعوناً في زمنه ويتجنبه الممولون والناس العاديون، فإن هذا هو الثمن الذي لا بد له من دفعه لتظل له استقلاليته وقدرته على الابداع الحقيقي، أي على المشاكسة الحقيقية، أي على اثارة التساؤلات وبناء الأزمان المقبلة. واضح هنا ان كل الفنانين ليسوا قادرين على هذا، لا مادياً ولا معنوياً. وواضح ان معظم الذين ينجحون في زمنهم ويحققون حضوراً، انما يتحقق لهم ذلك بفضل تنازلات أو مساومات يقدمونها لما هو سائد وعادي. والفنان الأنجح بين هؤلاء هو ذاك "الشاطر" الذي يمكنه ان يولّف بين متطلباته الفنية - ولو في حدها الأدنى - ومتطلبات السوق والمجتمع التي تطالب دائماً بالحدود القصوى من التنازلات. هؤلاء يصنعون للفن واقعاً مقبولاً. أما الآخرون: أولئك الذين يفضلون الهامش، فإنهم هم الذين يصنعون عموماً، الفن الكبير. فلئن كان فن الأول يسهم في بناء الحاضر ويعطيه بعض نكهة طيبة، فإن فن الآخرين هو الذي يبني المستقبل ويعطيه كل نكهته. ونعرف ان مطالبة الفنان - كل فنان - بأن يقف ذات لحظة ليختار، أمر في غاية الصعوبة. لأنهم قلة، وقلة محصورة جداً، ابناء تلك الفئة الثانية الذين يمكنهم الاستغناء عن متع الحياة الدنيا، وعن رفاهية اليومي لكي يظلوا على الهامش، خصوصاً في زمن تزداد هامشية الهامش، مثل زمننا الراهن هذا، ولا يعود فيه مكان لأي حلم فني، وتمضي ايامه من دون ان يقيض لها ان تشهد أفلاماً - أو اغنيات أو روايات أو اشعاراً، أو حتى لوحات وآيات عمار - تتطلع لأن تعيش زمناً طويلاً. إن فيلماً مثل "المواطن كين" يبلغ في ايامنا هذه العام الستين من عمره، ومع هذا ما إن يرى من جديد حتى يخيل الى متابعه أنه يشاهد جديداً. ففي أسلوبه، وفي موضوعه وفي لغته السينمائية، افتتح هذا الفيلم عصراً ابداعياً جديداً، وجعل الهامش لبّ الفن الحقيقي. وسؤالنا اليوم: الآن، بعد ستين عاماً من ظهور "المواطن كين"، وبعد عقد ونصف العقد من رحيل مخرجه أورسون ويلز، كم يا ترى عدد الأفلام التي تصنع اليوم، ويمكنها ان تزعم انها ستظل قادرة على البقاء في العام 2060، أي بعد ستين عاماً من يومنا هذا؟