على عكس ما قد يوحي به اسمه، خصوصاً اسلوبه السينمائي ومواضيعه التي تبدو غارقة في الرؤية الاميركية ومشبعة ببقايا الحلم الاميركي، لم يكن السينمائي الهوليوودي ويليام وايلر أميركي الأصل، بل كان فرنسياً، وبالتحديد من مواليد شرق فرنسا، في مدينة ميلوز. مهما يكن فإن قلة من الناس فقط كانت تعرف هذه الحقيقة، ليس لأن الرجل كان يخفيها - فهو لم يكن يخفي أي شيء - بل لأن أفلامه كانت من البداهة والوضوح والرسوخ في واقع الفن السابع الهوليوودي، الى درجة انتفت معها الحاجة الى التنقيب عن أصل غير أميركي. وهكذا حين، رحل ويليام وايلر عن عالمنا في الأول من آب اغسطس 1981، فوجئ الكثيرون بأن صاحب "بن هور" - وكان اسوأ أفلامه، لكنه اشهرها بالطبع، بسبب سباق العربات الرومانية فيه - و"جامع الفراشات"، وخصوصاً "أجمل سنوات حياتنا" لم يكن أميركياً خالصاً. فإذا كان يمكن ان يقال عن مخرج آخر، غير اورسون ويلز، انه عمل طوال حياته على اختراع وإعادة اختراع السينما، فإن هذا المخرج سيكون ويليام وايلر، الذي استوعب هوليوود باكراً وأدرك خصائص السينما الاميركية ودخل لعبتها في عدد كبير من الأفلام التي أثارت من حوله، ليس فقط اجماع الجمهور، بل خصوصاً اجماع النقاد، ولا سيما النقاد الأوروبيين، حيث باكراً انبهر اندريه بازان - أبو النقد الفرنسي - وجماعة "مجلة السينما" بفيلمه "أجمل سنوات حياتنا" الذي أتى ليجدد، ليس فقط على صعيد الموضوع، بل كذلك على صعيد الشكل، تماماً مثلما فعل اورسون ويلز في "المواطن كين" عبر استخدام فن اللقطة/ المشهد، وعمق الصورة وما الى ذلك من تجديدات مؤثرة كان يمكن ان تفوت ملاحظتها المتفرج العادي، لكن عين الناقد كانت تدركها بسهولة. ولكن، اذا كان أصحاب جوائز "الأوسكار" الشهيرة خصوا وايلر بثلاث أوسكارات وهو أمر ندر حدوثه بالنسبة الى مخرج واحد فإن دافعهم الى هذا التكريم الاستثنائي كان نجاح أفلام وايلر التجاري أكثر مما كان دافعهم لغته السينمائية الاستثنائية في الصورة ويليام وايلر يصور أحد أفلامه. ولد وايلر، إذاً، في ميلوز، من عائلة سويسرية الأصل، وتلقى دراسته الثانوية ثم الجامعية في لوزان وباريس، وفي أواخر العشرينات توجه الى نيويورك حيث عمل - بسبب اجادته لغات عدة - في قسم الدعاية الخارجية لشركة "يونيفرسال". من هنا كان من السهل عليه بسرعة ان يتجه بعد ذلك الى هوليوود، وتقلب في عالمها السينمائي في عدة أعمال قبل ان يصبح مساعداً للاخراج، ثم مخرجاً لأكثر من خمسين فيلماً قصيراً من أفلام رعاة البقر بين 1925 و1927. وكان ذلك بالنسبة إليه تدريباً قوياً مكنه في العام 1933 من ان يخرج فيلمه الطويل الأول "مستشار قانوني" وكان فيلماً حقق من النجاح ما مكنه من تحقيق سلسلة من الافلام الناجحة بعده، ومن بينها تحف هوليوودية لا تنسى مثلت بيتي ديفز أدوارها الرئيسية، مثل "جزابيل"، و"الرسالة" و"الذئاب الصغيرة" الذي سيظل لفترة طويلة واحداً من أجمل وأنجح أفلامه، وسيتميز بالصورة الرائعة التي حققها له غرينغ تولاند، الذي لن يرحل في العام 1948، إلا وقد صور له فيلم "أجمل سنوات حياتنا" الذي حصل له على ثاني جائزة أوسكار بعدما كان "السيد مينفر" 1942 حصل له على الأولى، بينما سيحصل "بن هور" على الثالثة. لكن وايلر لم يكن مخرج جوائز فقط، بل كان مخرج أفلام جميلة أيضاً. ولئن ذكرنا بعض أفلامه، فإن بإمكاننا ان نكمل اللائحة، بأفلام مثل "حسناء ممفيس" 1944، الذي كان خلال الحرب العالمية الثانية واحداً من أجمل الافلام التسجيلية الهوليوودية. وفي الخمسينات كان فيلم "إجازة في روما" من تمثيل اودري هيبورن وهو الفيلم الذي اقتبس منه الفيلم المصري "يوم من عمري" من تمثيل وغناء عبدالحليم حافظ، ثم فيلم "البلاد الفسيحة" 1958. اما في الستينات فكانت "خبطة" ويليام وايلر الموفقة مع "جامع الفراشات" عن رواية جون فولز، من تمثيل سامنثا ايغار وتيرنس ستامب، وهو الفيلم "المثالي" في نظر النقاد، الذي حمل موضوعاً قاسياً في ديكور شبه وحيد، ومع شخصيتين: جامع الفراشات المهووس بحب فتاة ينتهي به الأمر الى خطفها وسجنها، والفتاة التي لن نفهم أبداً ما إذا كانت تحبه أم لا. وآخر ما حقق وايلر، فيلم "فتاة مرحة" من تمثيل بربارا سترايسند وعمر الشريف، وفيه بدا متراجعاً، لدرجة قرر معها ان يتوقف عن العمل. فتوقف بعد فترة، وحين رحل قال المؤرخون: لقد رحل آخر عمالقة هوليوود الذهبية.