ماهر الشريف. رهانات النهضة في الفكر العربي. دار المدى، دمشق. 2000. 405 صفحات. تندرج دراسات وأبحاث هذا الكتاب، التي نشرت على مدى ست سنوات، في إطار الاهتمام المتجدد بفكر عصر النهضة: النهضة التي تحولت في السنوات الأخيرة، كما يقول المؤلف، إلى ظاهرة بارزة على الساحة الثقافية نبعت ربما من حاجة العرب إلى بلورة مشروع نهضوي جديد! يعود اهتمام الكاتب باشكالية النهضة إلى بداية العقد الأخير من القرن الماضي، وقد ارتبط هذا الاهتمام بمراجعة نقدية لأفكاره قادته إلى استخلاص ضرورة تجديد الماركسية العربية، وضمان انفتاحها على المساهمات النقدية الأخرى، لا سيما الليبرالية السياسية والاصلاح الديني والقومية العربية. ويعترف المؤلف هنا بوجود قطيعة - وصلت إلى حد العداء والاتهام - بين الماركسية العربية وبين أفكار المنورين العرب بما جعلها مرتهنة لايديولوجية الماركسية اللينينية السوفياتية الرسمية، وهو ما يتطلب تجديد الفكر الماركسي العربي بتحريره من أسر الايديولوجيا التي حصر نفسه داخلها. قد لا اتفق مع الكاتب في استعمال تعبير "الماركسية العربية". هناك ماركسيون عرب: نعم، أما ماركسية عربية، فلا اعتقد أنها وصلت إلى حد من النضج يجعلنا نسميها بالعربية، أي بهذه الشمولية الواسعة كتيار فكري يقف إلى جانب التيار القومي أو التيار الديني، ولو متخلفاً كثيراً عنهما. أما دعوته إلى قيام "الماركسية العربية" بمراجعة موقفها من المسألة الثقافية وتعريب نفسها، فمجرد دعوة إلى قيام "الماركسية العربية" بمراجعة موقفها من المسألة الثقافية وتعريب نفسها. فهي إذن مجرد دعوة نظرية تبدو أقرب إلى التمينات. ومثلها قناعته بأن الاشتراكية "بما تعنيه من تحرر من كل أشكال الاستغلال والاستلاب والتمييز تبقى، على رغم كل ما جرى، حلماً وطموحاً مشروعين"، على حد تعبيره. ونتساءل هل كانت الاشتراكية بتطبيقاتها المختلفة أو في ظل "النظام الاشتراكي" تحرراً من كل أشكال الاستغلال والاستلاب والتمييز حقاً؟! أم أنها كانت خلاف ذلك عملياً؟! يعزو المؤلف انتكاسة مشروع النهضة العربية إلى عاملين، أولهما الاستعمار الأوروبي، وثانيهما التحولات النوعية التي شهدتها المجتمعات العربية وجعلت السياسة تهيمن هيمنة كاملة على الثقافة، كما جعلت الفكر ينحصر انحصاراً كلياً في الايديولوجيا. ونرى المؤلف هنا يتوافق مع بعض المفكرين العرب من أمثال اسماعيل صبري عبدالله الدي حمّل الدولة المستقلة الحديثة، التي نشأت عن انتصار يوليو، المسؤولية الرئيسة عن انتكاسة التنوير، ومن أمثال جابر عصفور، الذي رأى بحق أن محنة التنوير قد ترافقت مع قيام "الدولة التسلطية". إذا كان هذا التحليل صحيحاً، فأين هو الحل؟! هل يكون الحل كما يردد بعض المشايخ اليوم: "لا يصلح آخر زمان هذه الأمة إلا بما صَلَح به أوله"؟! هذا ما يوحي لنا به المؤلف حين يقول إن احياء الرسالة التنويرية التي حملها رواد النهضة الأوائل يتطلب العودة إلى الروحية الفكرية التي شاعت في عصر النهضة الأولى، وإعادة وصل ما انقطع في مسار تطور الفكر العربي. وبهذه العودة فقط إلى روحية التسامح، وباستيحاء مقاربات قامت على الايمان بحتمية التطور ونسبية الحقيقة، قد يكون في الإمكان تصحيح العلاقة بين الثقافة والسياسية والجمع بينهما على أسس جديدة تُمكّن المثقف من لعب دور قيادي إلى جانب السياسي! أليس استيحاء ظروف الماضي ضرباً من "اليوتوبيا" وتجنيحاً في الخيال أو الحنين إلى الماضي؟! يعود المؤلف إلى معالجة أزمة مشروع النهضة في الطبيعة والأسباب بصورة أكثر منهجية في القسم الرابع من هذا الكتاب، إذ يرصد في محاولة لتحديد أسباب الأزمة وطبيعتها ثلاثة اتجاهات رئيسية: الدولة، والمجتمع، والثقافة والفكر. والحق أن اشكالية الدولة كانت قد تحولت في السنوات الأخيرة إلى أحد أبرز الاشكاليات في حقل الفكر العربي المعاصر، لا سيما بعد أن تأكد عجز الدولة العربية المعاصرة عن انجاز الأهداف التي طرحتها على نفسها، بالإضافة إلى التحديات التي فرضتها عليها ظاهرة العولمة الكاسحة. وفي هذا الشأن انبثقت مقاربات عدة عالجت اشكالية "الدولة" من زاوية انفصالها عن المجتمع، أو الأمة، أو قطريتها أو طابعها التسلطي... فهي، من وجهة نظر بعض الباحثين العرب، دولة "النخبة" وليست دولة المجتمع، وهي عند بعضهم الآخر "دولة قطرية" لم تستطع أن تحقق تنمية حقيقية، ولا استطاعت أن تحطم قيود التبعية الاقتصادية والسياسية، وتخلت في الوقت نفسه عن وعودها وشعاراتها وباتت "قاعدة للهزيمة". وكما في اتجاه الدولة، كذلك في اتجاه المجتمع، والثقافة والفكر. فالمؤلف يغني هذا الفصل باستعراض واسع لمواقف نخبة من المفكرين العرب من هذه المسألة من جوانبها كافة، الأمر الذي يساعد القارئ على إحاطة واسعة بهذه الأزمة. إلا أن المؤلف عندما ينتقل بنا إلى نبذ "المخارج والحلول" لهذه الأزمة نجد غلبة النظرة التشاؤمية عند أكثر المفكرين العرب. فها هو المفكر العربي المخضرم قسطنطين زريق يتساءل: هل ثمة جدوى من العمل في سبيل قضايا فاشلة حتماً؟! وهل ثمة بديل ثابت وواضح للاحباط والهروب؟ هذه النظرة التشاؤمية التي يلمسها المؤلف عند فهمي جدعان وبرهان غليون وغيرهما، وصلت إلى حد الاحباط أو "ايديولوجيا الاحباط"، كما وصفها المفكر محمد عابد الجابري. ويصل المؤلف إلى السؤال الكبير: إذا لم تكن جماعات الإسلام السياسي مهيأة للعب دور المنقذ، وإذا كانت القوى القومية - الاشتراكية في أزمة بعد أن وصلت مشاريعها التغييرية إلى طريق مسدود، فأين تكمن الطريق إلى مستقبل عربي أفضل؟! أهو طريق النهوض الحضاري، أم طريق انهاء القطيعة بين الدولة والمجتمع، أم طريق القضاء على النظام الأبوي، وتكريس العلمانية؟ أسئلة مختلفة، واجابات مختلفة، ولا بصيص من أمل! حتى المفكرون العرب الذين وجدوا الحل في "الديموقراطية" اختلفوا حول طبيعتها: هل هي ديموقراطية ذات سمات عربية، وهل هي انتقائية أم شاملة؟ ولكنهم في غمرة الجدال النظري نسوا أو تناسوا مسألة أساسية وهي: كيف يمكن تحقيق أي ديموقراطية في ظل أنظمة غاشمة؟! لا يمكن الإحاطة بالطبع بفصول هذا الكتاب الغنية بالاستشهادات والمراجعات. فالكتاب قراءة ومناقشة ثرّة لكتب عدة، وهو حوار ومناقشة مع عدد وافر من المفكرين العرب البارزين الذين تصدوا لمشكلات عصر النهضة. وهذا ما يجعله، على رغم بعض التشتت أحياناً أو الخروج عن الإطار العام، كتباً عدة في كتاب كما يجعله، بالتالي، مرجعاً معاصراً مهماً من مراجع أدبيات النهضة. لا بد من التوقف أخيراً عند الفصل الأخير: "كيف يمكن للماركسية العربية الإسهام في اطلاق نهضة جديدة؟". فهذا الفصل هو بمثابة نقد ذاتي - من جانب كاتب ماركسي عربي - للتجربة الماركسية وموقفها من مشروع النهضة العربية. ينطلق المؤلف من فرضية تقول إن الماركسيين العرب تجاهلوا، عبر تاريخهم، إشكالية النهضة، أو اتخذوا منها موقفاً متحفظاً. بل إن بعضهم اعتبر فكرها فكر "البورجوازية الكولونيالية" في العالم العربي! وهم لم يهتموا بإشكالية النهضة إلا في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد انهيار الأنظمة الاشتراكية. ويتفق المؤلف مع الماركسي العربي المعروف سمير أمين بأن الماركسية في بلادنا تُرجمت ولم تُعرَّب، كونها لم تنجح في تحرير نفسها من البُعد الأوروبي لجذورها التاريخية، ولم تجد وسائل الربط بالأصول المحلية. وإذا كنا نتفق مع المؤلف في "غربة" الماركسية، نتساءل في الوقت نفسه: لماذا نجحت الديموقراطية - وهي من نتاج الفكر الغربي - في بعض البلدان العربية إلى حد ما، خصوصاً في التجربة اللبنانية، ولم تنجح الماركسية لا فكراً ولا أحزاباً الأحزاب الشيوعية في التحرر من غربتها، أو في "تحرير" أصحابها لها؟! وهل كانت انتقادات الماركسيين العرب - أو معظمهم - لمشروع النهضة بتياريه الاصولي والحداثي تعبيراً عن هذا العجز؟ ألا يدل هذا بوضوح على أن الماركسية التي لم تجد لنفسها موقعاً في حركة النهضة، ربما لغربتها وافتقارها إلى الشعبية، وجدت ضالتها في اتخاذ موقف الناقد فحسب؟! المشروع النهضوي سيستمر على رغم كل ما أصابه من انتكاسات جعلته أقرب إلى التاريخ. سيستمر بمفاهيم حداثية أو ما بعد حداثية، إذ لا موقع للعرب بين الأمم والشعوب إلا بنهضة حقيقية. فهل سيبقى المفكرون الماركسيون العرب في غربتهم، أم سيساهمون بدور في احياء هذه النهضة، كما يتمنى المؤالف؟!