تعددت اسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، أهم حدث في القرن العشرين، بعد "ثورة اكتوبر"، تبعاً لتعدّد آراء المحللين الغربيين، لكن القوميين والشيوعيين الروس اتفقوا، للمرة الاولى في تاريخ روسيا الحديث، على تحميل الحركة الصهيونية المسؤولية. القوميون يكتفون بالتهمة التقليدية، وهي ان اليهود، في كل مكان وزمان، يعملون على تخريب أوطان الآخرين وفقاً لكتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" منسوب إليهم، ينكره اليهود، بل ويتهمون الروس بتأليفه للتحريض ضدهم، أما الشيوعيون فيعزون الدافع الى التحريض الغربي الرأسمالي الامبريالي. وفي الحالين يحتاج الاتهام الى تبرير أقوى أحاول هنا استشفافه. المعروف ان اليهود الروس ساهموا، أفراداً وجماعات، في إنجاح "ثورة اكتوبر"، وفي تثبيت النظام السوفياتي. وانهم، على رغم الاضطهاد الذي تعرضوا له في زمن ستالين، أسوة بأقليات أخرى وفئات مختلفة من الشعب السوفياتي، عادوا، بعد الانفتاح الخروتشوفي الى المشاركة الفعّالة في النظام. ولم يتغيّر هذا الوضع مع وقوف الاتحاد السوفياتي الى جانب العرب في صراعهم ضد اسرائيل، ربما لأن الموقف اليهودي العام في اسرائيل وفي الشتات، باستثناءات فردية، كان متذبذباً حقاً في هذه المسألة، الى درجة ان المتطرفين الاميركيين اتهموا مراراً اليهود بممالأة الاتحاد السوفياتي على حسابهم. وهو اتهام لا يشطح بعيداً عن الحقيقة، للحذر الذي تميزت به هذه الأقلية الدينية تاريخياً، خصوصاً بعد قيام الدولة العبرية، من استفراد قوة واحدة بالهيمنة على السياسة الدولية، حتى ولو كانت القوة كحليفتهم الولاياتالمتحدة، تحسباً لإنقلاب محتمل ضدهم، فلا يعود بامكانهم المناورة، كما هي عادتهم، مع القوة المنافسة. ولعل تبرير هذا الحذر وجد صداه في التصريحات الاستفزازية لإسرائيل التي ادلى بها الرئيس جورج بوش غداة تربّعه على عرش الامبراطورية الكونية الواحدة بعد حرب الخليج، ولو انه سيدفع لاحقاً ثمن تصريحاته بطريقة غير مباشرة. وكان هذا الحذر تبدّى منذ معركة السويس العام 1956، ثم في حرب العام 1967 عندما أغرقت إسرائيل سفينة التجسس الاميركية "ليبرتي" في المياه المصرية. كما ان كيسنجر يعترف، في مذكراته، بأن الرئيس نيكسون هدّد اكثر من مرة بقطع كل المساعدات عن اسرائيل، لأن نيكسون، كما يقول كيسنجر: "كان يعتقد بأن اليهود شكلوا مجموعة قوية متماسكة في المجتمع الاميركي ... وهم على العموم اكثر تعاطفاً مع الاتحاد السوفياتي من المجموعات العرقية الاخرى ...". فإذا صحت الاتهامات الروسية بأن اليهود، واليهود السوفيات خصوصاً، تآمروا على بلادهم، او في الاقل شاركوا في التآمر، فهذا يعني ان ثمة تحولاً طرأ على الموقف اليهودي بعامة، والسوفياتي بخاصة، فمتى حدث هذا التحول؟ السؤال الذي لم يسأله احد قبل الآن؟ كان بإمكان القارئ العربي ان يستشف الجواب بين سطور الفصل الخاص بحرب تشرين الاول اكتوبر العربية -الاسرائيلية العام 1973، في كتاب هنري كيسنجر "سنوات التحول العنيف"، لولا ان اسلوب كيسنجر يكون الاكثر مداورة عندما يكون الاكثر مباشرة، خصوصاً عندما يتعلق الامر بالقضية العربية. فماذا حدث العام 1973 في حرب تشرين؟ في تلك الحرب، اهتز للمرة الاولى منذ تأسيس الكيان الصهيوني، لدى الاسرائيليين الشعور بالاستقرار الذي اكتسبوه في حرب العام 1967، بل ادركوا آنذاك، في العام 1973 إن بقاء او زوال اسرائيل رهن بإرتباطها المطلق بالقوة الاميركية. والمعروف اليوم، بعد نشر العديد من الشهادات التي تناولت احداث تلك الحرب، ان الرئيس المصري انور السادات لم يعلن حرب التحرير التي كان هيأ لها سلفه، وكان يهدد بها منذ العام 1971، إلا بضوء اخضر اميركي، وان اوامره العسكرية والسياسية، اثناء الحرب، التي ستدفع سورية ثمنها باهظاً، كانت بوحي الاميركيين، على رغم التحالف المصري العلني مع السوفيات الذي سمح الاميركيون بالمحافظة عليه لتحميل السوفيات المسؤولية إزاء الاسرائيليين، بعد ان كانوا تدبروا مع السادات محدودية القدرة السوفياتية على التدخل. منذ ان دخل هنري كيسنجر "البيت الابيض" كمستشار للرئيس نيكسون، ثم وزيراً لخارجيته العام 1973، كانت الاستراتيجية التي وضعها للسياسة الاميركية الخارجية تقوم على حصر العداء مباشرة بالخصم السوفياتي. وهكذا بعد الانفتاح على الصين، والصلح مع الفيتناميين، تركزّت جهوده على ضرب النفوذ السوفياتي في المنطقة الاكثر حيوية للمصالح الاميركية والاسرائيلية. وكانت مصر هي المدخل، بعد غياب جمال عبدالناصر. لكن الشروط الاسرائيلية للانسحاب من سيناء، غير المقبولة مصرياً، كانت تعرقل جهوده مع المصريين، التي كان بدأها مع توّلي السادات السلطة، فبات القبول بالحرب ضرورة تكتيكية، شرط ان لا تكسب مصر الحرب وان لا تخسرها اسرائيل، فهذا اليهودي الاميركي الذي لا ينسى، كما يقول في مذكراته: "ان ثلاثة عشر عضواً من عائلته ماتوا في المعتقلات النازية"، لا يمكن ان يساوم اميركياً على حساب اسرائيل، لكنه كان يدرك، ويرغب ان تدرك اسرائيل، بان حمايتها رهن بتوحيد الجهد مع اميركا في صراعها ضد العدو المشترك: الاتحاد السوفياتي.ة كان الدرس موجعاً لإسرائيل في الاسبوع الاول من الحرب، عندما صمّت الادارة الاميركية سمعها عن استغاثات غولدا مئير. وعبثاً حاول كيسنجر طمأنة الاسرائيليين سراً عبر اتصالاته الهاتفية اليومية من السفارة الاسرائيلية في واشنطن، كما يعترف في مذكراته. ومع ان نيكسون هو الذي سيدفع ثمن الهزة الاسرائيلية لاحقاً، إلا ان كيسنجر نجح، كما سنتبين، في رهانه على جعل مصر واسرائيل معاً تضعان بيضهما كله في السلة الاميركية. لذلك رأينا الرئيس الجديد، جيرالد فورد، يضع ثقته كاملة بإستراتيجية هنري كيسنجر في الحرب الباردة، فيستبقيه حتى نهاية ولايته، لتوطيد المسار الاميركي - الاسرائيلي في مواجهة العدو السوفياتي. وسوف يبلغ توحّد المسار ذروته في عهد ريغان عبر "مبادرة الدفاع الاستراتيجية"، المعروفة "بحرب النجوم" التي كانت اميركا اشركت اسرائيل فيها، وهي المبادرة التي ستفرض تنازلات متلاحقة على الاتحاد السوفياتي، انتهت بانهياره. منذ العام 1971 اشتهر حديث لكيسنجر يقول فيه بانه "يستحيل إسقاط الاتحاد السوفياتي من الخارج، لكن سقوطه من الداخل ليس مستحيلاً"، وكان يبرّر قوله بالرهان على اخطاء النظام السوفياتي. ولم يقف مكتوفاً ينتظر هذا السقوط. لم يكن اليهود السوفيات يختلفون عن باقي يهود العالم، فهم جزء من "العائلة الكبرى"، حسب التعبير الفرنسي. ويندر ان نجد للحميّة الدينية، لدى غالبية اليهود، مثيلاً لها في الاقليات الدينية الاخرى. وعلى رغم اختلاف منظماتهم، حتى لا نقول اسباطهم، فإنهم سرعان ما يتوحدون إذا مسّ الخطر احدهم، فكيف اذا الدولة العبرية، التي صارت المركز الروحي للغالبية، هي التي تواجه الخطر، من جانب الاتحاد السوفياتي، كما اوحى كيسنجر بعد حرب تشرين. كان يُفترض باليهود السوفيات ان يكونوا الاقل انتماءً دينياً او عرقياً من باقي اليهود في الشتات نظراً للنظام الشيوعي الذي يعيشون فيه. لذلك كانت المفاجأة الكبرى العام 1948 عندما راحت جموع اليهود تتدفق من جميع انحاء الاتحاد السوفياتي لتقديم التحية الى غولدا مئير، كأول سفيرة لإسرائيل في موسكو، ما جعل ستالين يصفهم آنذاك بالجالية الاسرائيلية في الاتحاد السوفياتي. لذا، في حال كان ثمة مخطط تآمري ضد الاتحاد السوفياتي، لن يصعب على كيسنجر الاستعانة بالعصبية الصهيونية في بعض المنظمات الفاعلة في الاتحاد السوفياتي، بعد ان كان دق ناقوس الخطر على اسرائيل، فهل كان ثمة مخطط اميركي وهل استجابت المنظمات الصهيونية لهذا المخطط، كما يتهمهم المتطرفون الروس؟ من يراجع الخط البياني للنشاط الصهيوني في الاتحاد السوفياتي يستطيع ان يلاحظ التحول من الموالاة الى المناهضة بوضوح منذ العام 1973. في ذلك العام، وبعد حرب تشرين مباشرة، وجّه العالم السوفياتي اليهودي، اندريه زاخاروف، "ابو القنبلة الهيدروجينية" "وفتى النظام المدلل"، الذي كان حريصاً في زمن خروتشوف على عدم السماح بهجرة الادمغة السوفياتية، وخاصة اليهودية، الى الخارج، وجّه نداء الى الكونغرس الاميركي مطالباً بتجميد الاتفاقية التجارية الاميركية - السوفياتية، ما لم تسمح الدولة السوفياتية بالهجرة اليهودية. وقيل ان زاخاروف ما كان ليوجه هذا النداء لولا التحريض الصهيوني وكانت اسرائيل آنذاك، بعد "الصدمة التشرينية"، في اشد الحاجة لليهود السوفيات ليس كمستوطنين جدد وحسب بل خصوصاً الى ذوي الكفاءات العلمية والتقنية المميّزة لتعزيز القوة الاسرائيلية. ولم يكن مستغرباً ان يستجيب الكونغرس للنداء، فجمّد الاتفاقية في ما صار يُعرف بإسم "تعديل جاكسون" وهو اسم السيناتور مقدِّم الاقتراح. زاخاروف الرمز كان نداء زاخاروف الذي تمّت الاستجابة الاميركية الفورية له، بتواطؤ مفضوح، نداءً استفزازياً علنياً يضع حاجة الشعب السوفياتي الى القمح في مقابل حاجة اسرائيل لمستوطنين جدد. وسوف يُكافأ زاخاروف غربياً على هذه الجرأة بمنحه العام 1975 "جائزة نوبل للسلام" ليكون لصوته التأثير الابعد، فيطالب بعدها الرئيس كارتر بالتدخل لحماية حقوق الانسان في الاتحاد السوفياتي. منذ العام 1973 تواصل النشاط الصهيوني المناهض بوتيرة تصاعدية كما نتبين في كتابات المستشرق السوفياتي يفغيني يفسييف صديق العرب الذي سيتم اغتياله في قلب موسكو مطلع العام 1990، عندما لم تعد المنظمات الصهيونية تخشى السلطة بعد ان صارت في زمن البريسترويكا جزءاً من السلطة، باعتبارها الداعمة للسلطة في شخص رئيسها مخائيل غورباتشوف الذي كشفت قراءته اللاحقة انه مدين حقاً لهذه المنظمات، فهو، كما نعلم، بعد ايام قليلة على انتخابه اميناً عاماً، خلفاً لأندروبوف العام 1985 وقبل ان يفتح ملف الاصلاح فتح ملفاً كان مطوياً منذ ثورة اكتوبر يتعلق بممتلكات الكنيسة الارثوذكسية الروسية في القدس، وقد ظن احد معاونيه انه يفعل ذلك لمطالبة الحكومة الاسرائيلية بتعويضات، لكن سرعان ما اعلن الناطق الرسمي بان وفداً رسمياً سيتشكل لزيارة تل أبيب من اجل اعادة العلاقات الديبلوماسية، ثم صرّح غورباتشوف نفسه: "إن عدم وجود علاقات ديبلوماسية بين الاتحاد السوفياتي واسرائيل هو امر شاذ"، ولم يلبث مساعده اليهودي بريماكوف، ان علّق بقوله انه "لا يرى ما يحول دون استئناف العلاقات". ومذاك توالت اللقاءات الرسمية وغير الرسمية مع المسؤولين الاسرائيليين ومع ممثلي الوكالة اليهودية وتفرعاتها العالمية. وفي السنة نفسها التي انتخب فيها اعلن ايضاً انه سيفتح باب الهجرة الى اسرائيل، فانفتحت. فهل كان غورباتشوف مديناً حقاً بوصوله الى الوسيط الصهيوني؟ في تحقيق عن سيرة الرئيس الاخير للاتحاد السوفياتي، نشرته مجلة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية، ترد حادثة ذات دلالة، وهي ان ثلاثة من اعضاء المكتب السياسي، المصوِّتين، المتحفظين على آراء غورباتشوف الاصلاحية، كانوا في زيارة رسمية الى الولاياتالمتحدة الاميركية عندما بلغهم موعد انتخاب الامين العام الجديد، خلفاً لأندروبوف، وذلك قبل يوم واحد من حصوله، فتعذرت العودة في الوقت المناسب بسبب اختفاء قائد الطائرة الرسمية الخاصة الذي لم يُعثر عليه إلا في اليوم التالي مخموراً. فإذا صحت هذه الواقعة، وربطها القارئ بسلسلة من الوقائع المستغربة في تسلق غورباتشوف السريع لتسلم السلطة، يصبح السؤال حول هوية الدعم الخفي مشروعاً، خصوصاً إذا علمنا ان الرئيس العتيد كان يفتقد مقومات الزعامة التي تبرر سرعة الوصول. وهذا لا يعني التسليم بالاتهام الرائج بان غورباتشوف كان عميلاً للغرب، فلا تكوين شخصيته، ولا كتاباته واقواله ولا حجم موقعه، ولا الظرف الزمني آنذاك يبرّر الاتهام، لكن هذا لا يمنع، نظراً لآرائه الاصلاحية وما قد توحي للمتربصين بالنظام من فرص، ان يكون وقع الاختيار عليه ليكون النقلة الى المرحلة الجديدة التي يسهل فيها اللعب بالنظام عبر المبادرة الديموقراطية. ففي ظل النظام الاستخباراتي الصارم الى حد اتهام الاتحاد السوفياتي بالدولة البوليسية كان يستحيل اللعب بالنظام. ولعل هذا ما جعل المدير السابق لوكالة الاستخبارات الاميركية في حديث الى التلفزيون البريطاني، نُشر لاحقاً في كتاب بعنوان "البريسترويكا، حوار مع فريده هاليداي، لندن 1994"، يقول: "اعتقد بانه لو كان اندروبوف اصغر عمراً بخمسة عشر عاماً عندما استلم السلطة العام 1982، لكان الاتحاد السوفياتي لا يزال معنا الآن، على رغم تدهوره الاقتصادي وتخلّفه التكنولوجي". والمعروف ان اندروبوف، سلف غورباتشوف المباشر، جاء الى الرئاسة من وكالة الاستخبارات السوفياتية، مثل الرئيس الاميركي جورج بوش الذي جاء الى الرئاسة من وكالة الاستخبارات الاميركية. لكن اندروبوف الذي انهض الاتحاد السوفياتي من "الغفوة البريجنيفية"، عاجله الموت قبل انقضاء سنتين على ولايته، حين تسنى لجورج بوش الوقت لحسم الصراع لصالحه، بعد نصف قرن على الحرب الباردة. لقد تقصّد المدير السابق للاستخبارات الاميركية ان يقول بان الضعف الاقتصادي هو الذي تسبب بإنهيار الاتحاد السوفياتي، وهي شهادة خبير بالعلاقة الوثيقة بين النظام الاستخباراتي والنظام السياسي، فالاول يحمي الثاني. وكيف يمكن ان لا تضعف الرقابة الاستخباراتية عندما يوضع النظام في مهب الرياح، امام مصير مجهول؟ لقد قدّم غورباتشوف للقوى المناهضة للنظام، في الخارج والداخل، الفرصة الذهبية لضربه من دون ان يهتز اقتناعه بأنه يعمل على نهضة الاتحاد السوفياتي. ولعله كان مقتنعاً حقاً بانه يقوم بدور تاريخي لا يقل اهمية عن دور صانع ثورة اكتوبر، بل هو يصرّح علناً بذلك فيدّعي بانه يواصل تطوير الثورة الاشتراكية من حيث منع الموت لينين عن مواصلتها. ولإفحام المعارضين له يستشهد بالتنازل الذي قدّمه لينين لأعدائه الالمان في "صلح برست" في مقابل التفرغ لبناء النظام الاشتراكي في بلده. وإنها لمقارنة مجحفة بحق لينين، تبعاً لمقولة ماركس عن التاريخ بانه إذاً يعيد نفسه حقاً ففي المرة الثانية على شكل مهزلة. وأية مهزلة ابلغ من الانفتاح المفاجئ على الديموقراطية في بلد لم يعرف الديموقراطية في كل تاريخه؟ لذا، فإن بوريس يلتسين الذي لم يتورع عن قصف البرلمان على رؤوس النواب الشيوعيين المعتصمين فيه، لم يجرؤ على دفن جثة لينين على رغم التكاليف الباهظة لصيانتها، في حين دفن غورباتشيوف حياً. لو ان غورباتشوف تساءل بعمق عن سبب التهليل الليبرالي الغربي لمبادرته لربما كان اكثر تحفظاً، فالشعار الذي طرحه: "المزيد من الاشتراكية يعني المزيد من الديموقراطية"، لم يكن شعاراً خاطئاً في المبدأ، فالديموقراطية اقرب الى الاشتراكية منها الى الليبرالية، باعتبار ان المساواة والعدالة الاجتماعية هي في مصلحة الاكثرية التي يُفترض انها صاحبة القرار في النظام الديموقراطي، فلماذا يهلّل الغرب الليبرالي لمبادرة في حال نجاحها تعوِّم المد الاشتراكي في العالم من جديد مع سقوط تهمة الاستبداد، الورقة الرابحة ليبرالياً في مناهضة المعسكر الاشتراكي؟ اذا سلمنا بحسن نية غورباتشوف فيجب القول بان المبادرة كانت اكبر حجماً من شخصه، إلا ان الاعلام المنفتح في عهده الديموقراطي، والذي يُفترض انه صار ممسوكاً بالتوجيه الصهيوني كما هو الاعلام في اي بلد ديموقراطي، شجّعه على التوغل في مغامرته باعتبارها نجاحاً، في حين الواقع كان عكس ذلك تماماً. لقد تساوت القيادة بجماهيرها في هذا الانخداع. وخشية الاستيقاظ من الوهم قبل الاوان، كان التسريع ضرورياً للإجهاز على النظام، تبعاً للنصيحة غير المباشرة التي وردت في تقرير "اللجنة الثلاثية للنظر في المسألة السوفياتية"، وهي اللجنة التي تألفت من خبراء ممثلين لأميركا والاتحاد الاوروبي واليابان، وكان كيسنجر يمثل اميركا فيها، ففي التقرير الذي وضعته اللجنة في باريس، في نيسان ابريل العام 1989، اي في ذروة احتدام معركة البريسترويكا، دعوة صريحة "لمساعدة الديموقراطيين على القيام بواجبهم ... في حال قُيض لغورباتشوف ان يستمر زعيماً بوتيرة اسرع مما قد تجري عليه الامور ..." وهكذا في الوقت الذي كان فيه هنري كيسنجر يوجّه الامور من الخارج، كان ليغاتشيف، في الداخل، آخر الايديولوجيين السوفيات الداعين للإصلاح من خارج حاشية غورباتشيوف، يصف التسريع بحق ان المراد منه تجاوز الاصلاح وليس تطبيقه. لكن الاصوات المخلصة للاصلاح لم تكن تجد آذاناً مصغية لأنها سرعان ما كانت تُتهم بممالأة البيروقراطية السابقة ذات السمعة السيئة لدى الجماهير. وكان الاعلام المحلي، والعالمي: الذي صار مرئياً ومسموعاً ومقروءاً في الداخل السوفياتي، حريصاً على ان لا تصل الحقيقة الى الجماهير فترى الهاوية التي تقودها إليها النخبة بفئتيها: المضلِلة بكسر اللام والمضلَلة بفتح اللام، وبخاصة الفئة الاخيرة التي انشغلت بحرياتها الخاصة عن الحريات العامة. سوق سوداء وعندما تفاقمت الاوضاع مع استشراء الفوضى والفساد والتخريب، وافتقاد السلع الضرورية بانتقالها الى السوق السوداء، انتشرت اشاعات عن احتمال تدخل الجيش كآخر قوة قادرة على وقف "مهزلة الاصلاح"، فتدخلت "العناية الإلهية"، او "العناية الخارجية"، لتطهير الجيش من الحرس والعقائدي القديم، عندما حطّت طائرة الشاب الالماني ماتياس رصت، ذات المحرك الواحد، في قلب الساحة الحمراء في موسكو، مخترقة المجال الجوي السوفياتي، تحت انف اجهزة الامن العتيّة التي ما كانت في السابق تدع ذبابة تعبر الحدود من دون ان تعترضها. جاء هذا الاختراق الجوي المشبوه في وقته تماماً لتطهير القيادة العسكرية، وتلافي اي انقلاب محتمل كما المحاولة التي قام بها لاحقاً وبعد فوات الاوان الجنرال اناييف. وكانت حجة التطهير الاولى ليست التقصير فقط بل "افتقار القيادة العسكرية الى الوعي الإيديولوجي"، وهي تهمة تشبه الكفر في نظام ديني، لكن الطريف ان الذي وجّه تهمة النقص الإيديولوجي لتبرير التطهير هو بوريس يلتسين نفسه الذي سيدمر كل وعي إيديولوجي عندما يحين الوقت المناسب، بعد ان تم التحضير للوقت المناسب بكل عناية وصبر. عندما صرح ديمتري فاسيلييف، رئيس "حركة الذاكرة" في حديث الى صحيفة "الحياة"، العام 1990، بان الصهيونية "قوة عدوانية داخل بلادنا، اخترقت اجهزة الحزب والدولة، ولها مصلحة في اشعال حرب اهلية"، خلص الى القول بان الشعب "لم يكن يعرف بحقيقة النشاط الصهيوني التخريبي كما يعرف الآن في زمن البريسترويكا ... وان هذه المعرفة ستضع حداً للتخريب" فإن تصريحه جاء بعد "خراب البصرة". ومع ان غورباتشوف خسر رهانه على الاصلاح، الا انه ربح حقوق نشر كتبه عن "البريسترويكا" في اللغات الاجنبية، كما كسب أعلى اجر عن إعلان لمنتوجات "البيتزا هوت" الاميركية، ثم حصل على اعلى وسام وطني في الدولة الاسرائيلية، علّقه على صدره في تل ابيب العام 1991، رئيس الوزراء السابق إسحق شامير، مكافأة على تعاون متبادل بدأ منذ حرب تشرين العربية - الاسرائيلية، دفعت ثمنه شعوب الاتحاد السوفياتي غالياً. * كاتب ومسرحي لبناني. والنص من كتاب له بعنوان "نكسة المشروع الاشتراكي وتداعياته العالمية"، يصدر قريباً في "منشورات 2002"، في بيروت.