مثلت العمليات الانتحارية التي استهدفت نيويوركوواشنطن يوم 11 أيلول سبتمبر الماضي قطيعة فعلية بين الحركات الإسلامية والغرب عموماً وبين هذه الحركات والولاياتالمتحدة خصوصاً. في المقابل تحسّن موقف الأنظمة العربية، التي دخلت في صراع مرير مع هذه الحركات، بشكل كبير على ساحة العلاقات الدولية. وتعد الجزائر أكثر البلدان افادة، إذ اختفت أسئلة "من يقتل من؟"، وتراجعت ملفات حقوق الإنسان وحل مكانها موضوع التعاون مع الدولة لمحاصرة الإرهاب. وأصبحت أجهزة الاستخبارات الجزائرية، طليعة المؤسسة العسكرية، في وضع مريح منذ ضربة أيلول. وتحولت من متهم إلى مصدر للمعلومات والخبرة لدى الدول الغربية. استثمرت الجزائر بسرعة هذا التغيير وأعلنت أنها جزء من "التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب" الذي دعت إليه الولاياتالمتحدة وأعلنت "وكالة الأنباء الجزائرية" مبكراً عن هذه الرغبة حينما ذكرت حسب مصدر موثوق "إن الجزائر مستعدة للمساهمة في تحالف دولي ضد الإرهاب في إطار "إستراتيجية متفق عليها"، و"عبر عمل دقيق". وأضافت الوكالة "إن حضور الجزائر في تحالف مقبل، حيث من الضروري تحديد ملامحه، لا يجب أن يكون له من هدف سوى محاربة الإرهاب" و"لا يجب أن يتخذ شكل محاربة دولة، أو دين، أو شعب، أو ثقافة أو حضارة". ميدانياً، استقبلت الجزائر سكرتير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية بن برادشو بين 23 و26 أيلول، وكان هدف زيارته "تأسيس قواعد بناء تضامن دولي" حسب تصريح لناطق رسمي باسم الخارجية. كما أدلى بن برادشو في الجزائر بتصريح قال فيه: "منذ هذه اللحظة، سنكون جميعاً على السفينة نفسها". وأكد استعداد بلده "لتبادل المعلومات من دون حدود مع الجزائر حول الناشطين الإسلاميين المقيمين في بريطانيا"، في حين كانت الأجهزة البريطانية منذ أسابيع قليلة شديدة التحفظ في تعاملها مع نظيراتها الجزائرية. وفي فرنسا، تأسف النائب الديغولي نيكولا ساركوزي، أثناء زيارته الجزائر في نهاية أيلول لكون الجزائر "بقيت وحيدة في مقاومتها لهذه الآفة في منطقة إستراتيجية شديدة الأهمية". ويعترف كذلك "بأن فرنسا، وبلدان أوروبية أخرى، تجاهلت الخطر الذي يصدر عن هذه الشبكات". ويذكر ان أكبر دعم وصل إلى النظام الجزائري من الغرب، جاء من فرنسا على رغم أن هذا البلد لم ينجح في بداية الأزمة سنة 1992 في اتخاذ موقف واضح ومنسجم ومتناسق. هذا التذبذب ارتبط بحكم الحزب الاشتراكي الفرنسي، إذ لم يخف الرئيس الراحل فرانسوا ميتران مثلاً امتعاضه من تدخل الجيش ووقفه للعملية الانتخابية. وسرعان ما اختلف الأمر حين نجح اليمين الديغولي بقيادة إدوارد بالادور في الوصول إلى الحكم إذ انقلبت سياسة فرنسا وأصبحت داعمة للنظام ومعادية للحركة الإسلامية. وقام وزير الداخلية الجديد شارل باسكوا بسلسلة من الإجراءات القانونية والعمليات البوليسية لتفكيك تنظيمات جبهة "الإنقاذ" في فرنسا، بل والمساعدة في محاربتها على كامل التراب الأوروبي وفي الجزائر نفسها. وتواصل هذا الدعم مع الرئيس الجديد جاك شيراك "مرشح النظام الجزائري المفضل" على حد تعبير البحث الفرنسي ليسيل بروفوست. وبرزت هذه المساعدة والدعم من خلال مضاعفة حجم الهبات الفرنسية بين 1996و 1997 لتنتقل من 4 إلى 5 بلايين فرنك فرنسي. وتم ذلك في سرية وكتمان شديدين. ويعتبر بروفوست أن السياسة الفرنسية تجاه الجزائر أصبحت تعتمد على ثلاثة مبادئ أساسية وهي: "أولاً، الحد من التأشيرات وبطاقات الإقامة بالنسبة إلى الجزائريين" ثانياً، المساعدة الاقتصادية للدولة الجزائرية حتى تواصل عملها وضمان تموين البلد بالمواد الصناعية والبضائع الاستهلاكية" ثالثاً، الحد أكثر ما يمكن من التعليقات السياسية واللقاءات الرسمية بين الطرفين". أدى هذا الدعم الفرنسي إلى ردود فعل فورية، نسقية وشديدة العنف من قبل الإسلام المسلح، خصوصاً من "الجماعة الإسلامية المسلحة" تجاه الدولة الفرنسية ورموزها. وبدأت العمليات العسكرية ضد المصالح الفرنسية في الجزائر أو خارجها مبكراً، أي منذ أيلول 1993، عندما تم اغتيال مهندسين فرنسيين في غرب الجزائر. وفي شهر تشرين الأول أكتوبر من السنة نفسها، تم اختطاف ثلاثة موظفين فرنسيين يعملون في قنصلية بلدهم في الجزائر. وفي شهر آب اغسطس 1994 تم اغتيال خمسة موظفين يعملون في السفارة. وفي كانون الأول ديسمبر 1994 ايضاً، اختطفت طائرة "إيرباص" من مطار الجزائر وحولت وجهتها نحو مرسيليا فتدخلت الشرطة الفرنسية وقتلت المختطفين. ووصل الأمر إلى انتقال هذه الحرب إلى الأراضي الفرنسية نفسها، فشهدت سلسلة من الانفجارات في خريف 1995. وفي شهر أيار مايو 1996، اغتيل سبعة رهبان فرنسيين في منطقة المدية في الجزائر. كما اغتيل راهب وهران، الأب بيار كلافري، في أول آب 1996. واليوم تستطيع فرنسا أن تدعم النظام الجزائري علناً في وقت أخذ بعض الأوساط اليسارية يحد من حملته العنيفة ضد الجيش الجزائري. أما في بقية الدول الأوروبية، فقد تم اعتقال مجموعة من الناشطين الإسلاميين الجزائريين في إسبانيا بدعوى ارتباطهم بتنظيم "القاعدة" وزعيمه أسامة بن لادن، كذلك في بلجيكا. واتجهت أيضاً كل من ألمانياوبريطانيا نحو التشدد في التعامل مع أعضاء "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" وأنصارها المقيمين على أراضيهما بفعل التأثير الفرنسي. وفي ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي عموماً، بشكل عام، قرر في نهاية 1994 زيادة المساعدة الأوروبية للجزائر لتصل إلى 5.5 بليون يورو على مدى خمسة أعوام. وهو يعد مبلغاً ضخماً بالمقارنة مع 7.5 بليون يورو التى خصصت لكامل أوروبا الشرقية. وفي الولاياتالمتحدة أصدر الرئيس جورج بوش قرار تجميد أموال "الجماعات الإرهابية"، بمن فيها "الجماعة الإسلامية المسلحة" بقيادة عنتر الزوابري وكذلك الجماعة السلفية للدعوة والقتال بقيادة حسن حطاب. وفي ظرف زمني قصير تقابل الرئيس الأميركي مع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مرتين لمناقشة موضوع الحركات الإسلامية. وسبق أن غيرت الولاياتالمتحدة موقفها تدريجاً منذ سنة 1994 في اتجاه معاداة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" بدل المواقف المتسامحة معها سابقا. وصرح الرئيس بيل كلنتون في شهر أيار 1994 "أن الأعداء هم القمع والتطرف وليس الإسلام". وفي سنة 1995 اتفقت كل من واشنطن وباريس على تقييم متقارب للوضع في الجزائر. فكلاهما يدعم اتفاق "سانت إيجيديو" في روما. لكن هذا الدعم تلاشى بعد الإعلان عن انعقاد انتخابات رئاسية. ومنذ ذلك التاريخ تطورت العلاقات الأميركية مع النظام الجزائري نحو الوئام حتى وصل بها الأمر إلى اعتقال أنور هدام، الزعيم الإنقاذي ورئيس البعثة البرلمانية، المقيم على أراضيها. ويبدو واضحاً، أن الإسلاميين الجزائريين، مثلهم مثل بقية الحركات الإسلامية في العالم، أصبحوا تحت مجهر الأجهزة الأمنية الغربية التي تراقبهم باستمرار وتشن عليهم الحملة تلو الأخرى. وفي الآن نفسه أصبحت الجزائر مصدراً لتبادل المعلومات مع هذه الأجهزة. ويبدو في المعنى المذكور أن النظام الجزائر ربح معركته الأمنية داخلياً وخارجياً ضد "الجبهة الإسلامية للإنقاذ".