يشعر المرء وهو يتنقل بين لوحات اسماعيل شموط وتمام الأكحل، في معرضهما المشترك "السيرة والمسيرة" في الدوحة وكأنه حضر متأخراً. فزمن الفن هنا هو زمن الحكاية الفلسطينية الممتد عميقاً في الخفاء كما في العلن، زمن يتماهى مع كل تفصيل من تفاصيل تلك الحكاية الشائكة والملتبسة حتى ليغدو وكأنه عدد لا يحصى من الأزمنة وقد امتزجت لتقول حلماً سادراً في عصفه وحدته. فالرسوم لا تدخل الى الحكاية من باب الاستلهام أو الاستيحاء. كذلك فإنها تدعو مشاهديها الى تلقي الحكاية من موقع سلبي بمعنى الاستسلام لليقين التاريخي من غير ان تتخطى هذا الحاجز العاطفي لتزيح من طريق المشاهد شرطها المسبق للمشاركة. وهي على العموم مشاركة سلبية الا من الانصات الذي يعتبر من جهة اعلامية ايجابياً. فهذه اللوحات لا تبتعد قيد أنملة عما يمكن قوله. لوحات ملحقة بالقول الطاعن في تاريخيته. لذلك ليس غريباً أن تكون هذه اللوحات هي المادة الأولى التي سيتكون منها متحف للفن الفلسطيني، تقوم بالاعداد له مؤسسة التعاون الفلسطينية. وهو مشروع لا يخص المنجز الجمالي الفلسطيني بقدر ما يخص الذاكرة الفلسطينية مستخدماً الرسم أداة للوصول الى هدفه وتأكيد مصداقيته. مشى شموط والأكحل الطريق معاً، طريق الحياة والفن، زوجين وفنانين. يكمل الواحد منهما الآخر، ولم يكن تشابه أعمالهما إلا تشابهاً مظهرياً يضل به من يسحره التسلسل الحكائي الذي تتبعه هذه الأعمال. حيث تقع أعمال الأكحل في منطقة الحلم بما كان في حين تستحضر أعمال شموط الذي كان وما تلاه وما سيكون. وكما أرى فإن عكوف كل واحد منهما على منطقة تاريخية بعينها من مناطق الحكاية الفلسطينية جلب معه منطقين اسلوبيين مختلفين. رسوم الأكحل تتسم بالهدوء والدعة والاسترخاء، بعيداً من كل ضجيج أو احتدام. انها تهب المتلقي فرصة السياحة الحالمة في عالم هو نسيج ذاته المفرطة في اطمئنانها. رسوم تلذذية يغلب عليها الوصف، الذي غالباً ما يتسم بالغنائية. أما رسوم شموط فإنها أشبه بالنشيد المدوي تتسلل بصراخها من بين شقوق جدران الذاكرة الفلسطينية الممزقة بين الحلم والفعل، بين الحقيقة التاريخية المغيبة والحال الواقعية المتسربلة بتداعياتها الحزينة. تذهب الأكحل برسومها الى الماضي، لا لتجمله أو لتزينه بل لتستحضر عاطفته المفقودة التي تتموج مثلما تفعل قارة غاطسة في أعماق البحر. يدها وهي تحلم ذلك الماضي الذي يضم بحنانه طفولتها بحيفا انما تتحسس برفق تلك الأماكن التي صارت مع الزمن تجسيداً للفردوس المفقود. انها تحنو عليها كما لو أنها لا تود أن تصدق هذا الفراق. أما شموط فإن صخب لوحاته يبعث في النفس شعوراً بالخلخلة، شعوراً بالترقب. فهناك دائماً ما يقع في أفق غير مرئي. حيث تتطلع شخصياته الى البعيد. ولكن هل كان الرسم بالنسبة اليهما فعلاً توثيقياً؟ بمقدار ما تعبر المآسي الجماعية عن فعل شراكة انساني يتجاوز اطار التجربة الشخصية فإن التعبير الفني عنها لا يكون صادقاً ومقنعاً إلا إذا اتكأ على حطام هذه التجربة. ولقد سعى شموط والأكحل في مختلف مراحلهما الفنية وفي هذا المعرض بالذات والذي قد يمثل خلاصة حياة ان يقيما عند الحدود المفتوحة التي تفصل نظرياً بين التجربة الشخصية واطارها الإنساني العام. فكأني بهما وهما يكتبان سيرتهما الشخصية أشبه بعاشق لا يلذ له الغناء لحبيبته إلا وسط ضجيج المارة. رسومهما متلبسة بالولع الفلسطيني. ذلك الولع الذي هو تركيبة كيماوية خاصة لا يدرك تأثيرها ولا يتماهى مع تجلياتها ولا يستغرق في تأمل مزيجها إلا أبناء التجربة الفلسطينية الحافلة بالمقاربات الحية والغامضة والمستحيلة. هذا اللقاء بين ما هو شخصي وبين ما هو عام تكشف عنه شرفة تطل على البحر أو صياد يتشبث بمركبه أو لمعة في عيني طفلة شاردة الذهن أو سلة فواكه. وهو ما يهب الواقعة الجماعية ملمحاً شخصياً. كان هذا الالتصاق الحميمي بين ما هو شخصي وبين ما هو جماعي أشد وضوحاً لدى تمام منه لدى اسماعيل. وقد يكون ذلك مرده الى طبيعة الأنثى الحانية على الأشياء والمستجيبة بعواطفها للذكريات. وفي المسافة عينها يمكننا قياس التباين التقني بين الاثنين أيضاً فإذا كانت الفنانة تمام لجأت الى مسح الأصباغ واذابة المسافة اللونية التي تفصل بين شكل وآخر يجاوره والعناية برسم أدق التفاصيل الى درجة المحاكاة وتقليد الواقع المستعاد فإن سلوك الفنان اسماعيل شموط التقني كان النقيض لذلك تماماً. حيث كانت ضربات الفرشاة السريعة التي تحط على سطح اللوحة كما لو أنها ضربات اجنحة مذعورة تكشف عن نزعة تحرر أسلوبي هي بالنسبة الى رسام من نوع شموط وبحجمه بمثابة حدث استثنائي. ذلك لأنها تعبر عن رغبة في اعادة النظر الى الواقع ومن ثم اعادة تجسيده من جهة المزيج الدرامي الذي يتشكل بتأثير من العابر والشخصي وغير المرئي. وهنا يعبر اسماعيل شموط عن انحيازه الى فنه على رغم أن لوحاته لا تخرج بعيداً من الخطاب الرسمي. فهو من طريق هذه الحرية التقنية ينتقل من كونه الناقل الرسمي للتجربة الفلسطينية من خلال الرسم الى كونه رساماً يمتلك نوعاً من الحساسية المهنية ازاء تجربة الرسم ذاتها. في هذه الأعمال يحضر شموط رساماً بقوة يده والهام بصيرته. ان اسماعيل شموط المولود في مدينة اللد بفلسطين عام 1930 والذي اجتاز بقدمي الشاب المذعور المسافة الخيالية التي تفصل بين مدينته وبين المنافي التي حط في مدنها انما صنع معجزة عودته الى وطنه من خلال الفن. فهذا الفنان لم يصنع فناً فلسطينياً اذ صار أسلوبه ليس العلامة الفارقة لهذا الفن، وحسب، بل أيضاً استعاد وطناً كان اسمه فلسطين بعيني الطفل الذي كانه والذي سيكونه دائماً.