سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عبدالله أنس رفيق "أسد بانشير" يروي ل"الحياة" فصولاً من تجربته الأفغانية . هكذا خرج "الجيش الأحمر" من المستنقع الأفغاني ... ودور العرب "نقطة في بحر" قتل الشيخ عزام فتيتمت بيشاور وكثر فيها "التكفيريون" وتأسست "القاعدة" الحلقة السابعة
يروي عبدالله أنس في الحلقة السابعة من تجربته الأفغانية قصة الخروج الروسي من أفغانستان واغتيال الشيخ عبدالله عزّام في بيشاور. كان العام 1989 عام الأحداث الضخمة في أفغانستان. ففي مطلعه، تحقق الانتصار. هُزم الجيش الأحمر وخرج ذليلاً يجر أذيال الخيبة من المستنقع الأفغاني. خرج مُنبئاً ببدء انهيار الإمبراطورية السوفياتية ومُحققاً ما يقوله الأفغان عن بلادهم إنها "مقبرة الامبراطوريات". وهكذا ما كادت سنوات طويلة أن تمر، حتى تغيّر الطاقم الحاكم في الكرملين وجاء زعماء جدد بدأوا بتصفية تركة أسلافهم. إذن، حمل العام 1989 انتصاراً عظيماً للشعب الأفغاني الذي بذل تضحيات جساماً في سبيل تحقيقه. لكنه حمل أيضاً فاجعة كبيرة للأفغان والعرب على حد سواء، بفقدانهم المحرّك الأساسي للقضية الأفغانية في العالم الإسلامي الشيخ عبدالله عزّام. يوم 14 شباط فبراير 1989 كان يوماً للتاريخ. فيه أكمل الجيش الأحمر سحب قواته من أفغانستان بعدما غرق في رمالها المتحركة طوال عشر سنوات. وكُنت شاهداً على هذا الحدث. يومها كنت أقف على مرتفع بسيط في منطقة تقع بين بانشير وباروان. حملت منظاراً أراقب من خلاله آخر الدبابات والعسكريين الروس يودعون الأراضي الأفغانية عائدين الى بلادهم. كانت فرحتي لا توصف. فهذا الجهاد الذي بدأ بالعصي والخناجر والحجارة، وصل الى الحد الذي هزم فيه أقوى قوى الأرض تسليحاً، وها أنت تراها بعينيك تجز أذيال الخيبة راجعة الى الاتحاد السوفياتي. ولا أزال أذكر أن الروس ودّعوا منطقة بانشير، وهم منسحبون، بقصف جوي نفّذته أسراب من طائراتهم. قصفوها حقداً. فهي المنطقة التي هزمهم فيها أحمد شاه مسعود وألحق بهم أذى شديداً وكبّدهم خسائر لا تُحصى، وصار يُعرف بعدها ب"أسد بانشير" أسد الأسود الخمسة، وهو لقب كان الصحافيون الفرنسيون أول من أطلقه عليه عندما سمّوه "لو ليون دو بانشير". تجولت في المنطقة بعد انسحاب الروس. كنت كيفما تطلعت ترى دبابات وشاحنات عسكرية روسية مدمرة أو محروقة. صرت أعدها. ظللت أعدها طوال يوم كامل. دبابة، إثنتان، ثلاث... حتى وصل العدد الى ألف دبابة وشاحنة مدمرة في بانشير. وزار الشيخ عبدالله عزّام المنطقة بعدها. تجوّلت وإياه من أولها الى آخرها. وقال لي عبارة لا أنساها: أخشى أن تتعرض هذه الشاحنات والدبابات، هذا الشاهد التاريخي، للتلف نتيجة الأمطار والثلوج. سأعطيك مبلغاً من المال لتدهنها كلها بالرصاص لئلا تؤثر فيها الأمطار وتبقى معلماً للأجيال. ساهمت عوامل عدة في تحقيق النصر على الاتحاد السوفياتي. كانت هناك عناصر خارجية بالتأكيد، وعلى رأسها دور باكستان التي شكلت القاعدة الخلفية للمجاهدين الأفغان ومركز تسليحهم وتدريبهم، ودور الدول العربية والإسلامية، ودور دول الغرب وعلى رأسها الولاياتالمتحدة التي قدّمت دعماً سياسياً وعسكرياً. لكن العنصر الأساسي في المعركة كان الأفغان أنفسهم. فالشعب الأفغاني هو الذي قدّم الشهداء والجرحى والأيتام والأرامل واللاجئين. وهو الذي ضحى بكل ما يملك لدعم الجهاد والمجاهدين. ولولا هذا الشعب الذي احتضن المجاهدين وساعدهم لما استطاع هؤلاء تحقيق النصر على قوة تفوقهم بأضعاف ومزوّدة أحدث أنواع الأسلحة وأشدها فتكاً. العرب نقطة في بحر وهناك من يقول أيضاً إن العرب، أو من أصبح يُطلق عليهم "الأفغان العرب"، لعبوا دوراً بارزاً في المعارك ضد الجيش الأحمر. نعم، شارك العرب في المعارك وساهموا الى جانب إخوانهم الأفغان في دفع قسط من ثمن المواجهة. سقط لهم الكثير من الشهداء. لكن الحقيقة تقتضي أيضاً الاعتراف بأن العرب، من حاملي الرشاشات الى رماة المدفعية، كان دورهم "نقطة في بحر". فالجهد كله تحمّله الأفغان. ولذلك استغرب عندما أرى بعض الأجهزة العربية، وحتى الغربية، يحاول ان يُظهر ان الأفغان العرب هم الأصل في الجهاد الأفغاني. والقارئ يمكن ان يصدق ذلك إن لم يكن مُلماً بالقضية الأفغانية وتفاصيلها. يمكن أن يعتقد بأن "الأفغان العرب" هم الأصل والأفغان هم الفرع. لكن العكس هو الصحيح. فكل مجموع العرب في أفغانستان لم يتجاوز ألفي شخص. مشاركة الأمة الإسلامية كلها بأبنائها الذين ذهبوا الى أفغانستان، بعربهم وعجمهم، لم تتجاوز ألفين. وفريق صغير جداً من هذا العدد دخل أفغانستان وشارك في القتال مع المجاهدين. فالبقية كانت تعمل في بيشاور أطباء وسائقين وطبّاخين ومحاسبين ومهندسين. ولست أدري ما الهدف من تكبير حجم "الأفغان العرب" ودورهم. وقد ترك ذلك للأسف صورة سلبية في الدول العربية، حيث صُوّر الذين كانوا في أفغانستان أنهم يُشكّلون تهديداً ينبغي استئصاله. وقد استخدم بعض الأنظمة هذه الورقة لقمع الحريات والحياة السياسية. لكن انسحاب الجيش السوفياتي لم يؤدِ الى انتهاء الحرب في أفغانستان، إذ ترك الروس وراءهم نظاماً شيوعياً مسلحاً تسليحاً قوياً ويُمسك بالسلطة في كابول ومعظم المدن الكبرى. ولذلك، استمرت المواجهات طوال 1989 بين قوات رئيس النظام الأفغاني نجيب الله وفصائل المجاهدين التي كانت أيضاً تُعاني من استمرار الحساسيات بينها، وتحديداً بين الحزب الإسلامي بقيادة غلب الدين حكمتيار والجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني وقائده العسكري المحنّك أحمد شاه مسعود. وقد أدت تلك الحساسيات لاحقاً الى ضياع الثمرة التي تحققت بانسحاب الروس، وذاب الانتصار الذي رأيته أيضاً بعيني، يتبخّر ويذوب كما يذوب الملح في الماء نتيجة اختلاف المجاهدين يوم دخلوا كابول. كان الشيخ عبدالله عزّام يُحذّرنا في كل مرة من عدم الخوض في قضايا الأفغان الداخلية. كان يقول لنا: نحن أيتام أبناء أرملة. أي واحد يتزوج بأمنا فهو أبونا. لا يهمنا من يحكم أفغانستان من بين القادة السبعة حكمتيار، رباني، مجددي، محمد نبي، سياف. نحن لا نتدخل بينهم. أي واحد يُتفق عليه او تحصل له البيعة فذلك الذي نعترف به. لا نتدخل في شؤونهم الخاصة. فإذا دخلوا كابول واقتتل المجاهدون في ما بينهم فلا يجوز أن نقف مع واحد منهم ضد آخر. تلك كانت رسالته. وبانتصار المجاهدين انتهى دورنا. اغتيال الشيخ عزّام بقيت في الشهور التي تلت انسحاب الروس، في شباط فبراير 1989، مع أحمد شاه مسعود في ولاية تاخار. في أواخر تلك السنة، كنت نائماً في منزل في طاليقان عاصمة ولاية تاخار. لم أبق في ذلك اليوم مع مسعود. صحوت وصلّيت الصبح. لم يمر وقت طويل، حتى طرق الضابط خليل، من الجمعية الاسلامية، باب البيت. لم تكن عادته ان يزورني في مثل هذا الوقت. قال ان "أمير سيب"، مسعود أوفده اليّ طالباً رؤيتي. فقلت له: يريدني الآن؟ فأجاب: نعم، الآن. سألته: أين هو؟ قال: في منزل أكرم خان. أبلغته أنني سألتحق به بعد نصف ساعة ريثما ارتدي ثيابي. فقال: لا. يجب أن تمشي الآن معي. فهو طلب مني أن أُحضرك معي. فقلت له: عجيب! سرت معه الى مسعود. كانت العادة أن نجلس في غرفة الضيوف عندما نكون في منزل أكرم خان. لكن مسعود استقبلني هذه المرة في غرفة النوم لأنه يريد أن تكون الجلسة خاصة. بدأ بمقدمة قائلاً: لا بد أنك تعرف أن الهزات التي تصيب المؤمن في حياته غالباً ما يستيطع الإنسان الفطن والذكي أن يستغلها في حياته لتصبح رصيداً في تجربته وتكون سبباً في تحمله الصعاب وبناء شخصيته. كنت استمع باستغراب لما يقول. ثم أضاف: أنت تعلم أن هذه الطريق ليست مفروشة بالحرير بل بالشوك. والجهاد في سبيل الله ليس فقط كلمة تقال بل عمل قد تفارق بسببه الأحباب والأصدقاء. وزاد: أنت تعلم كم فارقنا من أحبة طوال بقائك معنا، ويمكن أن يأتي غداً الدور عليّ أو عليك. وكنت ازداد قلقاً كلما زاد هو من هذه المقدمات. فقلت له: طيّب، وماذا تريد أن تخبرني؟ أجاب: سمعت صباحاً في إذاعة ال"بي بي سي" ان الشيخ عبدالله عزام فُجّرت سيارته في بيشاور وقُتل، وكان معه إثنان من أولاده. لم يذكروا اسميهما. قالوا فقط إنهما كانا معه. فقدت توازني عند ذلك. ورحت أبكي، وراح هو أيضاً يبكي. وساد الصمت لدقائق، ثم استأنف الكلام. قال إن الشيخ عبدالله عزام رجل أمة ويجب ان يكون وراءه رجال وان نواصل مسيرته الربانية بحسب الخط الذي رسمه، خط العلم والدعوة والتضحية ونصرة الأمة. بعد مرور نصف ساعة، التقطنا فيها أنفاسنا. طلب لنا الشاي فشربناه معاً. وقال: هل ستبقى هنا، أم ستنزل الى بيشاور؟ قلت له: لا بد من ان أنزل الى بيشاور. كان ذلك في عز الشتاء. الثلج يغطي الجبال الى الصدر. كان علينا لقطع الطريق الى بيشاور أن نمر عبر خمسة جبال وكل واحد منها يحتاج الى مسيرة يوم ونصف يوم لعبوره. قلت له إنني سأسير الى بيشاور. قال: لدينا دليل خاص بالجبال سأرسله معك. هو واحد من سكان المنطقة الجبلية ويملك خبرة في طريقة سلوك معابرها. وضعت حقيبتي على كتفي وتحركت. استغرقت الرحلة تسعة أيام، وكدت أن أقضي في الطريق. إذ وقع انهيار ثلجي. كنا نمشي، ومجموعة من المجاهدين الأفغان تسير أمامنا. كان بيننا وبينهم قرابة ألف متر. وقع الانهيار في المساحة التي كانوا هم يسيرون فيها. رُدموا، ولم يعثر على جثثهم سوى بعد ستة شهور بعدما ذاب الثلج في فصل الصيف. ولو كنا نسير معهم لكنا لقينا حتفنا أيضاً. وصلت الى بيشاور فوجدتها في حال يُرثى لها في ظل غياب الشيخ عبدالله عزام. وقد لخّص حكمتيار الصورة على حقيقتها عندما قال: صرت أنظر الى العرب يمشون في بيشاور كالأيتام بلا أب. ساحة بيشاور و"القاعدة" في تلك الفترة بالذات بدأت أشعر بغربة في بيشاور. كانت المنطقة لا تزال في مأتم حداداً على الشيخ. لكن ذلك لم يمنع من ملاحظة أنها لم تعد تلك الساحة الروحانية التي تطوّع معظم من فيها لدعم القضية الأفغانية. تشعبت ساحاتها. ظهرت فيها مضافات جديدة، بعضها يحمل فكراً تكفيرياً. ظهرت مضافات أخرى كان لا همّ لأصحابها سوى التحريض على الجهاد الإفغاني بحجة انهم مشركون وأهل بدع. ومن بين ما ظهر في تلك الساحة، فوجئت باسم "القاعدة". كنت اسمع كلاماً على "القاعدة" وانها بزعامة أسامة بن لادن. كنت أعرف ان التنسيق العملي بين الشيخ عبدالله عزام وأسامة بن لادن توقف، لكن الصداقة والود بينهما لم يتأثرا. انفصل أسامة عن "مكتب الخدمات"، وصارت له "القاعدة". لكن القطيعة لم تحصل بينه وبين الشيخ عزام، وظلا على احترام متبادل، على عكس بعض رجال "القاعدة" الآخرين الذين كانوا يجاهرون بالعداء للشيخ عزّام. ولكن على رغم انني محسوب على مسعود، إلا ان لا شيء هناك بيني وبين حكمتيار. إذ بقيت حتى العام 1992 أدخل عليه بلا استئذان. فخلافي كان مع بعض العرب وليس مع حكمتيار طبقاً للمثل القائل "ملكي أكثر من الملك". ولقد كان حكمتيار هو الزعيم الوحيد من بين الزعماء الأفغان في بيشاور من حضر عرسي وقدّم لي هدية. والقصة أن حكمتيار كان يتبنى حملة على مسعود متهماً إياه بأنه "رجل فرنسي" ويفعل كذا وكذا، والتي أُشهد الله انني لم أر فيها شيئاً من الصحة طوال بقائي مع مسعود. كانت الدعاية السيئة تلحقني من بعض العرب، على رغم ان العدد الأكبر منهم كان متمركزاً في بيشاور وليس داخل أفغانستان. إذ ان العرب، خصوصاً في 1990 و1991، كانوا في بيشاور التي انتقل اليها قرابة 90 في المئة من العرب الذين التحقوا بالجهاد الأفغاني. فالمشاركة الفعلية لهم في المعارك داخل افغانستان كانت توقفت عملياً في تلك الفترة، وكان وجودهم شبه محصور بالجبهات الحدودية الأفغانية - الباكستانية وفي بيشاور. وهذا بحد ذاته كان له تأثير مهم. فأولاً، كان حكمتيار يتحكم بالساحة في بيشاور، ومركز قيادة "الحزب الإسلامي" موجود فيها أيضاً. وثانياً، الجيش الباكستاني كان ينسّق معه وهو يكره مسعود، وأنا محسوب على الأخير. وثالثاً، غياب الشيخ عبدالله عزام الذي كان يدافع عني ويرد الاتهامات التي تُكال الى مسعود. وجدت نفسي أنا وبعض القدامى في الساحة في حالة صعبة جداً في هذه الساحة التي باتت غريبة علينا. فقد باتت بيشاور ساحة موبوءة. انقسمت الى أطراف عديدة. كان هناك السلفيون واتخذوا من تلاية كونار، معقل جميل الرحمن، مقراً لهم. ومعظم هؤلاء من المملكة العربية السعودية. وكان هناك أتباع مدرسة الإخوان وتجمّعوا عند عبد رب الرسول سياف في منطقة بابي. وكان هناك شخص أردني فلسطيني يدعى حمدي م. نصب خيمة في حياة آباد وأخذ يخطب في الشباب أيام الجمعة مُعلناً تأسيس تنظيم "جيش محمد". وفوجئنا لاحقاً بأن هذا الشخص عاد الى بلاده وتسلّم منصب وكيل وزارة. كذلك ظهر فلسطيني آخر أعلن نفسه "خليفة للمسلمين" واعتبر ان من لا يبايعه في المضافات والجماعات "آثم". كذلك ظهر بعض الأفراد الذين يعتنقون أفكاراً تكفيرية. وطبعاً، كان هناك التحالف بين "جماعة الجهاد" المصرية وأسامة بن لادن والذي تمخّض عنه تأسيس ما يُعرف ب"القاعدة". ولا ننسى هنا الانقسام الذي حصل داخل "مكتب الخدمات". وإضافة الى كل ذلك، كان وجود أجهزة الاستخبارات العربية بات واضحاً في ساحة بيشاور. وأذكر ان أحد الشباب جاءني يوماً وأخبرني ان أحد الجوازات الموجودة في مضافته تعود الى ضابط كبير برتبة رائد في جهاز استخبارات عربي. وقد التقيت لاحقاً بأحد ضباط المخابرات الجزائرية وأخبرني انه أرسل إثنين من من شعبته للالتحاق بالمجاهدين واختراقهم. في ظل هذه التأثيرات التي نتجت عن غياب الشيخ عزام والأصداء التي كنا نسمعها عن تأسيس الجبهة الاسلامية للانقاذ في الجزائر، أصبح ملحاً عندي انتي أغادر ساحة بيشاور في أسرع وقت.