قرأت باهتمام كبير "ثلاثية" الاستاذ حليم بركات آخر حلقة في عدد "الحياة" ليوم 25 تشرين الأول/ اكتوبر. واسمحوا لي ببعض الملاحظات: كان رائعاً وكبيراً من الاستاذ بركات ان يتحدث عن "انسانية الانسان" وعن ان ما هو نادر في ايامنا ان يضع واحدنا نفسه في مكان الآخر. كان حديثه بمناسبة فجيعة الأميركان بكارثة تفجير الأبراج، وآلاف الضحايا الأبرياء. وأود ان اصارحه بأن المظاهرة الفلسطينية الصغيرة، فرحاً واستبشاراً بالفجيعة الأميركية، لم تكن مجرد تصرف عرضي. فمن مجموع ما يكتب ويقال في المجالس، وما يذاع في الفضائيات العربية، يتجلى لي ان ما اظهرته القلة الفلسطينية كان هو الشعور الغالب والأعم لدى الشارع العربي، بل ولدى اكثرية قياداته الفكرية والسياسية والدينية ربما باستثناء العرب والمسلمين في الولاياتالمتحدة نفسها، والاستاذ بركات خير معبّر. فلا التبرع بالدم، ولا ابداء الاستنكارات الباهتة، بقادرة على طمس ان الشارع العربي، وبدرجات مختلفة، اهتز فرحة بما سمّي ب"ضرب الهيبة والكبرياء الأميركيين". وأن من الفضائيات والمقالات والفتاوى ما صارت مجرد تبرير للارهاب الدموي الظلامي الذي مارسته وتمارسه "أممية الارهاب" - هذا الارهاب الأعمى الذي مورس في الجزائر ومصر وغيرهما قبل تفجير الأبراج في اميركا. ان الحديث عن ازدواجية السياسات والمواقف الاميركية، وعن ظلمها تجاه قضايانا هو حديث صحيح مئة في المئة. وهو صحيح قبل ضرب الأبراج ومن أمد طويل. وأن المطالبة بتصحيح تلك السياسات والمواقف واجب وفرض قبل التفجيرات، وليس لأنها وقعت. فإن المطالبة بسياسة اميركية عادلة ومنصفة في القضية الفلسطينية، او برفع الحظر الاقتصادي عن الشعب العراقي - وهو الحظر الذي يطاول الاكثرية وليس النظام -، انما هي مطالبة وطنية وقومية مطلوبة ومشروعة. وكان ذلك هكذا قبل التفجيرات، وليس في مناسبتها ... غير ان الإلحاح على تخبط وظلم السياسات والمواقف الأميركية عند التعليق على حوادث الارهاب، وكأنهما تفسير لها وأسباب كما فهمت مما كتبه الكاتب وآخرون، هو في رأيي غير دقيق. فالشبكات الارهابية المسؤولة، وباعترافها "الفضائي" عن تلك الأعمال الوحشية، لم تقدم عليها من اجل القضية الفلسطينية او تألماً لشعبها، ولا لأن العراقيين يعانون من الحظر والضربات، ربما كان من بين المنفّذين من اندفعوا بدوافع من هاتين القضيتين. ولكن هذا لا ينطبق على قادة ومخططي العمليات الارهابية إياها. وإلا فلماذا كان الذبح الجماعي للنساء والأطفال الجزائريين، وبقْر البطون، قبل ان ينتقل الارهاب الى اميركا؟ ولماذا قتل فرج فودة ومحاولة اغتيال محفوظ، واغتيال الرهبان والسيّاح في الجزائر ومصر قبل سنوات؟ يردّ الاستاذ بركات على الطروحات الغربية التي تقول ان الفكر العربي لا يمارس النقد الذاتي. ويذكر ان هناك مفكرين عرباً فعلوا ذلك. وكلامه صحيح. ولكن الصحيح كذلك هو ان هؤلاء هم قلّة نادرة جداً، وأن الفكر الغالب اليوم في الثقافة العربية هو ما بين التعصب، وبقايا اللفظية والشعاراتية القومانية، ولغة الحرب الباردة المنقضية لدى من لا يزالون يأتمون بستالين! وأسأل: كم من المفكرين والكتّاب العرب انتقدوا وينتقدون حقيقة وجوهر وأهداف المشروع الذي يروج له ثنائي بن لادن - الظواهري وشبكاتهما؟ وهل يجهل اكثرية المثقفين العرب ان هذا المشروع يكفّر اكثرية المسلمين انفسهم قبل ان يكفّر اليهود والنصارى ويستبيح دماءهم؟ ومن حسن الحظ ان "الحياة" تنشر هذه الأيام سلسلة مقالات عن تلك الشبكات وفكر قادتها. وقد أوردت الجريدة للقارئ مقاطع من بيانات وكتب لرموزها، حيث يؤكد هؤلاء ان مجرد ذكر كلمة "ديموقراطية" كفر تجب معاقبة اصحابه. اما المرأة فإن اوضاعها تحت قبضة الطالبان معروفة. وأن النموذج الطالباني هو النموذج "الاسلامي" الذي يريدون فرضه على كل العالم الاسلامي بالقوة والارهاب. فهذا المشروع الظلامي موجه اولاً ضد العالم الاسلامي نفسه، وضد افكار التنوير والتسامح والديموقراطية والتقدم. فلماذا يتناسى معظم من يكتبون هذه الحقائق المعروفة جيداً، ويكتفون بالحديث المطول والشائع عن اميركا، وسياساتها الغابنة نحو الشعب الفلسطيني او الشعب العراقي؟ هل هذا موقف مجاراة او صمت لمحاذير امنية من سيوف التكفير الدموي؟ عندما كان الجزائريون يقاتلون الاحتلال، كانوا احياناً يقعون في مطبات قتل مدنيين ابرياء، اما عن خطأ في المعلومات او عن قصد. والقصد في هذه الحال موقف مدان. ولكننا عند تفسير اسبابه نرجع الأمر الى واقع الاحتلال. ان اعمالاً كهذه يجب ألا تقع، وهي ضارة بالقضية العادلة، ومنافية للتعاليم الاسلامية، وتضعف من تضامن الرأي العام الدولي. ولا بد من ان نذكّر الاستاذ بركات بأن المشهد التلفزيوني لاغتيال الطفل الشهيد محمد الدرة قد هزّ الرأي العام حتى في اميركا. غير ان ما جرى بعد يوم، من قتل جندي اسرائيلي والتنكيل بجثته، طغى على اللوحة المأسوية الأولى. وكان متوقعاً ان يستغل ذلك اصدقاء اسرائيل الكثيرون في وسائل الاعلام الغربية. اما حال الارهاب التي راحت الابراج الاميركية ضحيتها فتختلف تماماً عن الحالين المذكورتين لشعبين تحت الاحتلال. فالأهداف الحقيقية للمدبرين والموجّهين لتلك العمليات انما هي فرض مشروع ظلامي دموي تجهيلي على العرب والمسلمين. فالأكثرية المسلمة في نظرهم "مرتدة" و"بلا ايمان" لمجرد انها لا تؤمن بهذا الطراز المتطرف من "الاسلام". وهم يستغلون مناخ الاستياء والغضب العامين من سياسات الولاياتالمتحدة، ومن العدوان الاسرائيلي المستمر والمتوحش - اي استغلال مناخ عام من الغضب والاستياء المشروعين في العالم العربي والعالم الاسلامي، ومحاولة تبرير الجرائم الرهيبة بذلك. وأميركا عدوة كبرى في نظرهم لا لظلمها للفلسطينيين والعراقيين وغيرهم، بل لأنها تخلت عنهم بعد طرد السوفيات من افغانستان، ولأنها في نظرهم هي المسؤول الأول عن حال "الكفر" السائدة في العالم الاسلامي. لقد لاحظنا من استقراء التاريخ الحديث انه كثيراً ما استغلت الحركات المتطرفة قضايا بعض الشعوب لإمرار مخططاتها هي، وليس تضامناً مع تلك الشعوب. وسبق لدوائر غربية، هي الأخرى، ان استغلت قضايا عادلة لقوميات مظلومة، او أقليات دينية مضطهدة، استغلالاً مكيافيلياً لمآربها الخاصة. ان نقد الولاياتالمتحدة وإدانة انتقائيتها أصبحا حديثاً مشاعاً اليوم، بل حتى في بعض الأوساط الاميركية نفسها. غير ان من واجب المثقفين العرب والمسلمين المتنورين هو ان يمارسوا في الوقت نفسه نقداً وإدانة علنيين وصريحين وقاطعين للمشروع الارهابي الظلامي المتستر باسم الاسلام، وكشف حقيقة اهدافه ونياته. وعمليات الارهاب ضد الاميركان لم تكن من اجل الاسلام وفلسطين، حتى ولو كان بين المنفّذين والمنتمين للشبكات الارهابية انصار متحمسون لفلسطين. ان هناك فرقاً جذرياً بين الاسباب الحقيقية لعمليات الارهاب هذه، وبين استغلال واستثمار مظالم حقيقية وما تخلقه من شكوى وردود فعل غاضبة في الشارع، واحتجاجات صاخبة ومشروعة جداً. باريس - عزيز الحاج