"هذه الحرب نصب وخداع". ترى .. من صاحب هذا التوصيف للحرب الأميركية الجارية في أفغانستان؟ عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية؟ أحمد ماهر وزير خارجية مصر؟ محمد خاتمي رئيس ايران؟ أبداً، الجملة هي عنوان رئيسي بالصفة الأولى من جريدة "الميرور" في بريطانيا التي تصل إلى ستة ملايين قارئ. العداء لأميركا ينتشر في كل مكان... فهل التعاطف الذي ظهر مع اميركا بعد 11 أيلول سبتمبر الماضي قد بدأ يتحول إلى غضب على الاميركيين؟ من صاحب هذا التساؤل؟ حسن نصر الله أمين عام "حزب الله" في لبنان؟ الشيخ سيد طنطاوي إمام الجامع الازهر في القاهرة؟ أبداً. التساؤل هو خلاصة تحقيق صحافي في "دير شبيغل" أوسع المجلات الالمانية انتشاراً. ثمانون في المئة من الرأي العام يعارض ضرب الولاياتالمتحدةلأفغانستان و8 في المئة يقولون إن الإسرائيليين وراء هجمات 11 أيلول سبتمبر. ترى: أين جرى استطلاع الرأي هذا؟ في مصر؟ في السعودية؟ في سورية؟ أبداً. لقد جرى في اليونان - الدولة الاوروبية المسيحية عضو حلف شال الاطلسي الذي تقوده الولاياتالمتحدة. الولاياتالمتحدة قدمت الى حركة "طالبان" في النصف الأول من هذا العام 2001 معونات بلغت 124 مليون دولار، وقبل شهرين فقط من أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 زارت كريستينا روكا مساعدة وزير الخارجية الأميركي العاصمة الافغانية وأعلنت من هناك تقديم مساعدة مالية انسانية اضافية لحكومة "طالبان" قيمتها 43 مليون دولار، ترى: من نشر الحقائق السابقة؟ جريدة "واشنطن بوست" الأميركية؟ "النيويورك تايمز"؟ أبداً. الحقائق منشورة في كتاب بعنوان "طالبان: الإسلام والبترول واللعبة الجديدة في آسيا الوسطى" للصحافي الباكستاني أحمد رشيد مراسل جريدة "الديلي تلغراف" البريطانية. الولاياتالمتحدة لن تستهدف العراق في مرحلة تالية لأنه لا توجد أدلة على تورطه في أحداث 11 أيلول سبتمبر. ترى: من الذي يؤكد هذه المعلومة؟ الرئيس الاميركي جورج بوش؟ وزير خارجيته كولون باول؟ أبداً. انه المستشار الصحافي الناطق باسم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا. الكشف عن معسكر سري جنوببغداد العاصمة العراقية لتدريب الإرهابيين الاسلاميين على خطف طائرة بوينغ من دون أسلحة وشن هجمات على منشآت عسكرية تهم الولاياتالمتحدة وهجمات أخرى في أوروبا. هؤلاء الارهابيون الاسلاميون الذين يجري تدريبهم في العراق جرى استقدامهم من بلاد عربية عدة في مقدمها السعودية ومصر والمغرب والجزائر واليمن. ترى: من صاحب هذا "الكشف"؟ الأقمار الإصطناعية الأميركية؟ طائرات الأواكس؟ أبداً. انها وكالة المخابرات المركزية الأميركية نقلا عن ضابطي مخابرات عراقيين منشقين تحت تصرفها وظهرت تصريحاتهما فجأة قبل أيام في جريدة "نيويورك تايمز" الأميركية. الإدارة الأميركية يسيئها تأييد مستر عرفات للمنظمة الشيعية اللبنانية "حزب الله" والجماعة الفلسطينية "حماس" اللتين تعتبرهما الولاياتالمتحدة منظمتين ارهابيتين. بالتالي: "ليس في وسعك - يا مستر عرفات - مساعدتنا مع "القاعدة" وفي الوقت نفسه أنت تعانق حزب الله أو حماس. هذا غير مقبول". ترى: من صاحب هذا التصريح؟ ارييل شارون رئيس وزراء إسرائيل؟ ديفيد اليعيزر وزير دفاعه؟ شمعون بيريز وزير الخارجية ومندوبهما للعلاقات العامة؟ أبداً. صاحبة التصريح هي كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس الاميركي للأمن القومي. الانتفاضة الفلسطينية يجب أن تتوقف فوراً ولا تتكرر مستقبلاً لأنها عمل ارهابي منظم. من أعلن ذلك كإنذار صريح للشعب الفلسطيني؟ رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلي؟ مدير المخابرات الإسرائيلية؟ أبداً. انه ديفيد ساترفيلد مساعد وزير الخارجية الاميركي. الرئيس الاميركي جورج بوش يوجه من منصة الأممالمتحدة انذاراً إلى حكومات الدول التي "تحاول أن تنتقي وتختار اصدقاء ارهابيين لها" فمن مصلحة تلك الحكومات أن تدرك "عواقب مواقفها" و"ساعة العدل آتية". ترى: لمن يوجه الرئيس الاميركي انذاره؟ بالطبع هناك ذكاء المستمعين. وهناك ايضاً قوائم الدول التي تتهمها الولاياتالمتحدة من قيم بأنها راعية للإرهاب. سورية وليبيا والسودان والعراق وايران نماذج مكررة. لبنان اقترب أخيراً بعد أن انذرته الولاياتالمتحدة بالعمل فورا على تجميد أية أصول مالية لحزب الله. عمرو موسى الأمين العم للجامعة العربية يقول إن أطرافاً عربية عدة تلقت تطمينات وتأكيدات من الولاياتالمتحدة بزن حربها في أفغانستان لن تمتد الى دول أخرى عربية. لكن من بالضبط في الولاياتالمتحدة أعطى تلك التطمينات والتأكيدات؟ الرئيس جورج بوش؟ مستشارته للأمن القومي؟ ابداً. انما الثابت والمؤكد فعلاً هو الرسالة الرسمية التي وجهتها الولاياتالمتحدة الى مجلس الأمن بتوقيع مندوبها الرسمي في المجلس وتقرر فيها الحكومة الأميركية حرفياً وبصريح العبارة: "اننا قد نجد أن دفاعنا عن النفس يتطلب أفعالاً أخرى مضادة لمنظمات اخرى ودول غير افغانستان". بالمناسبة: الإعلام العربي الرسمي كله تعمد حجب تلك المعلومة عن الرأي العام العربي. و... و... و... استطيع الاسترسال هنا في الاقتباسات، والاقتباسات المضادة، الى مساحة قد تطول. إنما الفكرة كلها هي أن نأخذ الولاياتالمتحدة بما تقوله وتفعله. لا بما يقوله المعادون لها أو المعتذرين عنها. على المحك الآن تحولات خطرة ومصائر شعوب ومستقبل دول يمكن بين ليلة وضحاها أن تصبح جزءاً من فيلم أميركي جاري عرضه. ولأسباب ومصالح اميركية. بريطانيا ذاتها التي وظفت نفسها محامياً أول وتابعاً مطيعاً في الحرب الجارية تململت أخيراً من أنها وجدت انها ليست على دراية كافية بالأهداف والخطط الأميركية. فرنسا عرضت المساهمة بقوات من عندها - فلا يصح أن تخرج من المولد بغير حمص - وأميركا تحمست. فرنسا اشترطت التشاور المسبق والمشاركة في تحديد الأهداف ولو لمجرد أن الشعب الفرنسي من حقه أن يعرف لماذا يضع أرواح أبنائه في دائرة الخطر. هنا فقط فقدت الإدارة الأميركية حماسها. يا فرنسا: نحبك.. انما من بعيد لبعيد. في الحرب الجارية الآن اسئلة بأكثر مما فيها من أجوبة. في البداية قررت اميركا - وبتصميم مستمر على ألا تقدم أدلة - ان شخصاً اسمه اسامة بن لادن هو العقل المخطط وراء ارهاب 11 أيلول سبتمبر الماضي، بن لادن هذا اختراع اميركي من الأصل، انما... لنبقى في موضوعنا. اميركا اعلنت انها تريد بن لادن لمحاكمته. الرئيس جورج بوش نفسه طرح على حكومة طالبان في افغانستان خياراً بسيطاً. الرجل مزنوق والرأي العام الأميركي غاضب ولا بد من كبش فداء وبسرعة. الخيار هو: سلموا بن لادن أو واجهوا الضربة الأميركية. هم لم يسلموه. وهو بدأ الضربة الأميركية بالأسلحة التي كان بعضها مدخراً سابقاً لمواجهة الاتحاد السوفياتي. الآن، مع الشهر الثاني للضربة المستمرة، هل ما يزال بن لادن هو الهدف؟ بالطبع هو مطلوب حياً أو ميتاً. يعني ميتاً. طالبان أيضاً على المقصلة. بعدها يتم وضع اليد على افغانستان أو ربما تقسيمها. لكن: ماذا بعد أفغانستان؟ الفيلم الاميركي قد لا يبدو للمشاهدين مثيراً بما فيه الكفاية. إذن على واضعي السيناريو اضافة مشاهد اكثر اثارة. العراق مثلاً؟ هذا وارد. الصومال بالمرة؟ هذا منشور. لبنان... بحجة عدم إذعانه للتصنيف الاميركي لحزب الله؟ هذا تردد أخيراً. سورية.. لأنها تأوى "ارهابيين" تحت عنوان المكاتب الاعلامية لفصائل فلسطينية معارضة لعرفات وجماعته؟ هذا يتوقف على مدى شعور المشاهدين بقدر كاف من الإثارة. أما أهم ما في الفيلم الاميركي على الاطلاق فهو حجم الكراهية التي يجري صبها في الشارع الاميركي، والأوروبي بدرجة أقل، ضد كل ما هو عربي الانتماء او مسلم الديانة. فبحجة أن ارهاب 11 أيلول سبتمبر قام به عرب ومسلمون - وتلك بحد ذاتها علامة استفهام كبرى حتى الآن - جرى سحب حريات مدنية اساسية من المواطن الاميركي قد تجعل حياته جحيماً. سلطة الاعتقال من دون اسباب وبلا محاكمة وبلا محامي لفترة. وحينما يسمح للمعتقل بمحامي هناك سلطة التنصت سراً على حواره مع المعتقل. ثم سلطة تفتيش المنازل بلا سند قانوني وبغير علم أصحابه، ومراقبة وتسجيل كل الاتصالات الشخصية. سلطة مراقبة المراسلات والحسابات البنكية وحتى التبرعات للأعمال الخيرية. سلطة استخدام وسائل "الضغط الجسماني" للمرة الأولى - يعني التعذيب - مع الاستعانة بخبرة إسرائيل في هذا الخصوص... إلخ. في الخلاصة نجد أن هذا المواطن الأميركي، الذي اعتز دائما بكونه جزاً من مجتمع يتمتع فيه بحماية القانون، جرى دفعه عمليا الى الاختيار ما بين التنازل عن حرياته المدنية او الأمن. هذا النوع من الأمن. طيب.. اميركا حرة في نفسها. انما المشكلة هي أن هذا يجري باسم مواجهة "الارهاب الإسلامي" الذي اصبح بن لادن عنواناً له. بن لادن - مرة أخرى - هو اختراع اميركي من الأساس. لا هو رشح نفسه في انتخابات ولا زكاه علماء الازهر ولا ترددت السعودية في سحب جنسيتها منه قبل خمس سنوات - وهي حقائق يتجاهلها الإعلام الاميركي تماماً. سيقول البعض ان الرئيس جورج بوش ونازل قال وكرر أن اميركا تحارب الارهاب ولا تحارب الاسلام. على عيني ورأسي والرجل مشكور. انما المحك هو ما يراه المواطن الاميركي من حكومته عملياً. والذي يراه كثيرا.. كثير. آخره مثلا قيام اميركا بفرض اجراءات استثنائية ضد طالبي تأشيرة الدخول من 26 دولة كلها عربية واسلامية، في مقدمها مصر والسعودية والاردن والكويت ولبنان والمغرب وسورية وتونس. آخره اعتقال نحو 1200 في السجون الأميركية منذ 11 أيلول سبتمبر كلهم عرب ومسلمون وترفض الحكومة الأميركية اية استفسارات من السفارات العربية عن اسمائهم أو نوع التهم المنسوبة اليهم. آخره أن المواطن الفلسطيني الرافض للاحتلال الإسرائيلي هو ارهابي مؤكد. آخره كذلك أن "حزب الله" - لمجرد أنه جزء عضوي من النسيج اللبناني الذي تصد للاحتلال الإسرائيلي - هو تنظيم إرهابي. هذا عن "آخره" أما أوله فهو أن ارهاب 11 أيلول سبتمبر قام به عرب ومسلمون. هكذا.. خبط لزق.. بلا أدلة ولا مناقشة. ممنوع المناقشة. وقفل باب المناقشة هنا خطيئة عربية كبرى. ليس فقط بحكم ما جرى ولكن أيضاً بحكم ما سيجري. خلال فترة وجيزة ستتلاحق من اميركا مئات الكتب والأفلام والمسلسلات لربط ارهاب 11 أيلول سبتمبر بالعرب والمسلمين - كل العرب وكل المسلمين - فيما يشبه أفلام الويستيرن ضد الهنود الحمر. كل هذا لأن المؤسسة الأميركية الحاكمة استسهلت من البداية حصر المخططين لما جرى في 11 أيلول سبتمبر في العرب والمسلمين. وبشبهات وبيانات لا تصمد بالمرة امام عقل المحقق الموضوعي أو القاضي النزيه. ولأنها ايضا اختارت ان تطرح على الشعب الاميركي حرباً بديلة ضد بلاد وشعوب اخرى بعيدة عنه. لعلها تمتص غضبه وصدمته. بعدها بدأ الفيلم الاميركي المستمر حتى اللحظة. المواطن العربي، وغير العربي، لا يطالب بمعجزات، يطالب فقط بمناقشة عقلانية مهنية مجردة للفيلم من أوله: من هم حقاً الذين خططوا لإرهاب 11 أيلول سبتمبر؟ كلنا، من كل جنس وملة ودين، متفقون من اللحظة الأولى على أن المواطن الأميركي لا يستحق ما جرى بالمرة. بعدها نختلف على كل شيء آخر تمارسه الإدارة الأميركية منذ 11 أيلول سبتمبر. * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم" القاهرية.