كان يمكن ان يكون "سياج الملكة" مكتبة بيسان، بيروت شهادة أقوى على كابوس الهارب من الجحيم في ملاذه الأخير لو احتفظ الكاتب احمد ذكرى بالأسماء كما هي. نفهم حرصه على خصوصية من وردت اسماؤهم ولكن هل كان ضرورياً ان يغيّر حتى أسماء افراد أسرته والسجن ولاعب كرة القدم إريك كانتونا الذي سمّاه كونتا؟ قد تكون هناك رغبة في تجنب مشكلات قانونية ايضاً، وفي التزام حشمة عربية تأبى الحديث عن النفس، لكن تأليف كتاب عن مشكلة شخصية عادة غربية، وتغيير الأسماء قد يوحي انه رواية مستوحاة من قصة حقيقية. يتناول "سياج الملكة" اعتقال السيدة ناديا ذكرى بعد ستة اشهر من تفجير السفارة الإسرائيلية في لندن في صيف 1994. اهتدت الشرطة الى أحد المتهمين وراقبته فقادها الى أسرة ذكرى بعد مصادقته الولد الأكبر فيها. الشرطي البريطاني الذي كان يداوم قرب السفارة وقت الانفجار قال ان ذكرى كانت السيدة التي قادت السيارة وأوقفتها امام السفارة وغادرت قبل ان تنفجر. سجنت أربعة اشهر ولم تسقط التهم عنها إلا بعد نحو سنتين اصيبت خلالها بالذعر من ان تسجن بقية حياتها بتهمة ملفقة. يروي الزوج احمد ذكرى، زوال حماية الأوهام عند فلسطيني ناضل وخاب ثم حقق الراحة المادية في دولة خليجية يسميها الكون قبل ان يطرد منها بعد حرب العراق. ويتشتت ثانية فيختار انكلترا محطته الأخيرة. عاد يبني حياته مجدداً مع زوجة وولدين ليكتشف ذات صباح قاس ان الحصول على الجنسية ليس شاطئ الأمان، وأنه يبقى غريباً يعود مع الامتحان الأولى الى أصله: "أنت غريق في أثقال العرق وأثقال التاريخ". ناديا التي يسميها عزة في "سياج الملكة" كانت "صبية حلوة لا يعنيها الوطن ولا من يحزنون" ص19. طمحت الى حياة اجتماعية مرفهة وكرهت المسؤولية وإن صارت "أماً وربة منزل من طراز نادر". عندما اعتقلت ضحك الأب وابنه الصغير هزءاً بالشرطة التي انتقت أحد أبعد الناس عن الالتزام والنضال: "كانت مهزلة كاملة". لكنه كان كابوساً. كانت سيارة ناديا - عزة من النوع نفسه الذي استخدم في التفجير ووجدت عليها آثار المواد المستخدمة في التفجير وإن بكمية ضئيلة وتعرف عليها الشرطي البريطاني عندما عرضت مع عدد من النساء جاءت بهن الشرطة من متجر هارودز الذي يرد اسمه "هارولد". زودت التهمة بمحامية يمنية شبه عمياء فخدمت الشرطة بإهمالها وامتناعها عن متابعة الإجراءات لكي تتأكد من انها لا تضر بموكلتها. يسميها ذكرى خديجة حسين ويقول: "سذاجتنا وخديجة أوصلانا الى ما نحن فيه" ص81. بدت عزة مذعورة عندما عرضت على الشهود مع النساء الأخريات اللواتي كن هادئات وباسمات، فأثارت شك الشرطي، ولم تكلف خديجة "وجه النحس... عجوز الشؤم" نفسها تنبيهها قبل العرض الى التزام الهدوء في التعبير والحركة لإبعاد الريبة عنها. نقلت الى سجن النساء وصنفت من الفئة الخطيرة فوضعت في زنزانة منفردة ورافقها حارسان كلما خرجت منها بعد اعادة سائر السجينات الى زنزاناتهن لكي لا تشكل خطراً عليهن. بطلة "سياج الملكة" ليست بطلة، فالذعر من السجن شل دفاعها وحتى غريزة البقاء عندها. استسلمت وتركت امر اخراجها لزوجها، وأصيبت بيأس مطلق وانكسار تام. كانت "مرعوبة حتى العظم"، و"هالكة لا محالة"، ومنذ اللحظة الأولى وجدت الشرطة نفسها امام امرأة تستطيع ان تتلاعب بمصيرها اما مذنبة أو ساذجة يمكن الإيقاع بها. "لكنكم لا تملكون اية أدلة ضدي" قالت عندما دقت الشرطة باب بيتها ذلك الصباح، وتواطأت معها ضد نفسها. استسلمت منذ البداية وعندما خجلت من ضعفها وصممت ان تقاوم وتقوى خانها صوتها ثانية. كان عليها ان تقول "غير مذنبة" فقط في المحكمة فاختنق صوتها وخرجت الكلمة الثانية فقط. لا يهتم احمد ذكرى بتعاطف القارئ مع زوجته قدر حرصه على النزاهة التي شعرت بامتنان لها، وهو يفضح الضعف الذي اصيب به هو أيضاً بعد اعتقالها والجانب السطحي في شخصيتها. في الصفحة 123 يقول: "وهي التي دأبت طيلة حياتها على انتقاء انواع العطور والدهون، اصبحت الصابونة الآن تحل كل احتياجاتها". تلوم نفسها على عنايتها السابقة بأناقتها وشكلها وإهمالها مواهبها الكثيرة، لكنها تصر على ارتداء البذلة الأنيقة في المحكمة بدلاً من لباس السجن فتحس بالثقة والانتصار، ص203 "كأنما ولدت من جديد". فهل المظهر الأنيق هو صوتها إذاً؟ لم تفعل شيئاً لتوقف سقوطها في الهاوية، وانفصلت في مأساتها عن العالم الذي بات مسؤولاً عنها. حتى أفراد اسرتها باتوا "آخرين" تقابلهم ببرود وتشعر انها تكرههم وتنتظر انتهاء الزيارة بفارغ الصبر لشعورها بالحسد من حريتهم. مصيبتها اظهرت لديها سلبية نتوقعها في جيل والدتها التي توفيت عندما كانت ناديا ما تزال في السجن. وإذ أطلق سراحها بسند كفالة بلغ نصف مليون جنيه استرليني مع فرض حظر على تحركها ليلاً عبّرت عن قلقها بالإفراط في الشرب والخوف من مغادرة البيت والإصابة بنوبة هستيرية عندما ظنت انها سترجع الى السجن. ينبذ المؤلف الذي يسمي نفسه سليمان ضعفه عندما يشاهد والده في حلمه كأنه يستمد القوة من جذوره ويبرهن رجولته لوالده. يقف وحده فرداً ضد "إرهاب الدولة"، ويسأل الشرطة لماذا دخلت بيته بما يشبه الاقتحام العسكري هي التي تنتمي الى دولة متحضرة وهم العائلة الصغيرة المسالمة. قصة الصغير الضعيف الأعزل في فلسطين تتكرر معه في بريطانيا التي احب فيها قدرته على اختيار نمط الحياة الذي يريد والتمتع بحريته الشخصية الى أقصى حد. هل كان ذلك "سراباً خادعاً" ص27 أم ان الحقوق للمواطنين الأصليين فقط؟ مرة اخرى يجد نفسه في فراغ ويعيش من دون هوية هو الذي ظن انه استطاع ان يجد حيزاً خاصاً له يجمع اصدقاءه، الماضي، ورقعة ارض تبناها، المستقبل. لا ضمانات للصغير الضعيف الأعزل حتى في دولة متقدمة متحضرة، امر يعزز الحصار على الفرد ويضعف دفاعه في مواجهة الشر: "هذا الشر المجنون اذ يفلت من عقاله لا رادّ له إلا إرادة لا تلين". كأنه صراع ابطال الأساطير ضد الآلهة القديمة العاتية، والإحساس به على هذا النحو مفهوم ومتكرر في عالم يزداد فيه المرء شعوراً بالاغتراب فكيف إذا كان غريباً حقاً؟ لكن الخير ينتصر بفضل "كل هؤلاء الناس الطيبين" الذين يمنعون الشرطة من اتمام شرورها، وإن انتشر الخوف بين الأصدقاء الذين رعوا الأسرة لكنهم ترددوا في مساعدتها مالياً لدفع الكفالة خشية ان تحقق الشرطة في اوضاعهم السياسية وغيرها، ويتعرضوا هم ايضاً للملاحقة في البلد الذي رأوه مأواهم الأخير. يبرز تعقد الشخصيات البعيدة من النمطية في "سياج الملكة". نفر ذكرى - سليمان من التقاليد البورجوازية في بيت نزار لكن هذا ما لبث ان اصبح صديقه المفضل، وأزعجته "طموحات" مريم الاجتماعية لكنها بلغت حد الفراق عن زوجها في إصرارها على مساعدته مالياً وحضرت دائماً بدعمها المعنوي. على رغم بعض التطويل في اول الكتاب يعرف ذكرى كيف ينتقي العناصر الروائية ويقدم كتاباً جذاباً يشد القارئ خصوصاً في الجزء الأخير. ينتقل بخفة بين الأحداث ومراجعة الذات ويعطي دوراً لأسرة المحامي الشاب الذي كان يحمل همّ الأسرة المنكوبة في بيته. ويبرز نفس شعري جميل وعميق يتداخل مع الحدث من دون ان يتدخل فيه، وتلفتنا حميمية اللغة عندما اجبر ذكرى على التحدث بالإنكليزية مع زوجته السجينة أول الأمر. نقرأ "أنا والأولاد نعيش من اجلك" ونفكر انها ليست لغتنا ثم "صوتها الحبيب" فنقول انها خطابتنا.