إنها المرة الأولى التي يفوز فيها كاتب جامايكي بجائزة «بوكر» الإنكليزية المرموقة. رواية «تاريخ مختصر لسبع جرائم قتل» (دار بانغوان، نيويورك) طويلة جداً (أكثر من 700 صفحة) ومعقدة، ومتعددة الأصوات، بحيث روتها شخصيات كثيرة. وتكمن صعوبتها أيضاً في أن الجزء الأكبر منها يستخدم اللغة العامية المحكية في جامايكا. يستهل الكاتب ماريون جايمز روايته بخطاب لجينينغز، سياسي إنكليزي كان قد قُتل، يتناول فيه موضوع الموت والموتى ويصف طريقة قتله وجثته بعد قتله، مثلما يرى نفسه ويراه قاتله. بعد ذلك يقطع الكاتب سير الرواية مراراً بإدخال تأملات جينينغز حول الموت، وكأنه أراد تأكيد موضوع الرواية الأساسي. ذلك أنها تدور في كانون الأول (ديسمبر) 1976 حول محاولة اغتيال مغني الريغي الشهير «بوب مارلي» الذي يسميه الكاتب في الرواية كلها «المغني». ولد مارلي معدماً ونشأ في غيتو إلى أن ذاعت شهرته كمغني الريغي. أراد المغني إحياء حفلة لتخفيف التوتر السياسي بين الحزبين الأساسيين في جامايكا، إلا أن ثمانية مسلحين من حي «كينغستون» اقتحموا منزله محاولين قتله قبل الحفلة. لكنّ احدهم تساءل عن مصير كل الفقراء الذين كان المغني يساعدهم، فترك رفاقه. حاول صديق المغني «بابا-لو» ان ينبهه إلى الخطر وأن يقنعه بعدم إحياء الحفلة، غير أنه لم يقتنع. ولا يعرف القارئ من أرسل القتلة لاغتيال المغني إلا في القسم الأخير من هذه الرواية الطويلة، والمغني نفسه لا يذكره مع أنه رآه لأنه صوّب الرصاصة إلى قلبه. يروي المراهق «بام - بام» هجومهم على بيت المغني تحت تأثير المخدرات وقتلهم كل من صادفهم إلى أن سمعوا صفارات الشرطة فهربوا، فيما اختبأ بام - بام في كومة نفايات خوف أن يُقتل مع من كان معه. شارك المغني في الحفلة لكنه غادر الجزيرة ولم يعد إلا بعد سنتين. عاد ليحيي حفلة يعود ريعها إلى مؤسسات خيرية أسسها الحزبان المتخاصمان بعدما اتحدا. إلا أن بابا- لو، احدى الشخصيات الرئيسة في الرواية، يؤكد أن حفلة المغني كانت لمساعدة الفقراء والعاطلين من العمل. وفي الجزء الأخير من الرواية نكتشف أن الذي حرّض على اغتيال المغني قبل ست سنوات كان شخصية أخرى أساسية في القصة، تاجر المخدرات «جوزي ويلز» الذي سجن في نيوورك بسبب تجارته بالمخدرات. في النهاية يهتدي إليه في السجن أحد أعدائه ويقتله فتذكر نشرة الأخبار أنه وجد محروقاً في زنزانته. تروي شخصيات كثيرة ومختلفة محاولة الاغتيال، بينهم مجرم وتاجر مخدرات وبغي ومثلي وصحافي ورجال شرطة وعميل المخابرات الأميركية وغيرهم. يعيش هؤلاء جميعاً، ما عدا العميل الأميركي وصحافي، في بيئة فقر مدقع، وسُكر، ومخدرات، واغتيالات واغتصاب نساء وما إلى ذلك. وعليه نرى أنه قد يكون من أهم ما في الرواية تقديمها صورة مفصلة عن الأحوال التي تعيشها شخصياتها. واضح من أحداث الرواية أن جامايكا كانت مستقلة بالاسم فقط. تُبرز الأحداث الصراع المسلح والدامي بين الحزبين الأساسيين، الحزب الشعبي الوطني وحزب جامايكا الاشتراكي، ولكن إلى جانبهما حزباً يلفت نظر القارئ: «الراستافاري». والرستافاري طائفة ابراهيمية ظهرت عام 1930 في جامايكا، قدّست أمبراطور الحبشة هيلا سيلاسي وكان له اتباع عديدون في جامايكا. وعلى رغم وجود حاكم وانتخابات تبرز القصة مدى تدخّل وكالة الاستخبارات الفيديرالية فيها، إما من طريق جواسيسهم او عملائهم او صحافيين، وذلك لخوف الأميركيين من انتشار الشيوعية فيها كما انتشرت في كوبا. وتصف الرواية الاتصالات بين العملاء من كوباوجامايكا وغيرهما من بلاد أميركا الجنوبية لتنفيذ مخططات «السي إي آي» فيها أو في إيران، وكذلك العلاقات بين الجواسيس الأميركيين والروس. ومن أحاديث موظفي السفارة الأميركية في جامايكا التي تنقلها الرواية نرى مدى تدخل الأميركيين في مختلف بلاد اميركا الجنوبية وتدبيرهم المؤامرات والاغتيلالات والانتخابات فيها، ومحاولة أميركا القضاء على كاسترو في كوبا. فالجو السياسي السائد مضطرب جداً، تكثر فيه الاغتيالات، وانتشار الرصاص كلما اغتيل أحد. ويتداخل الصراع السياسي مع تجارة المخدرات. إلى جانب الصراع السياسي صراع من نوع أخر، الصراع العرقي بين البيض والسود، وبين من هم اقل أو اكثر سواداً. فمع أن سكان الجزيرة الأصليين سود، يظل المحتل الأبيض يحتقرهم ويضطهدهم، والشرطة لا تجرؤ على مس رجل ابيض، مهما فعل، وكثيراً ما تتهم الشرطة بريئاً فقط لأنه اسود. ف «ديموس» الأسود اتُهم كذباً باغتصاب امرأة، فأذاقته الشرطة أشد انواع العذاب. وحين أطلق سراحه قتل شرطيين انتقاماً. والأبيض بالنسبة الى الجامايكي هو الأميركي او الأوروبي، لا اللبناني او السوري اللذين انتشرت جاليتهما في الجزيرة. ولم يظهر العنف في الصراع السياسي والعرقي وحدهما، وفي شتى أنواع التعذيب في السجون، وأنما طبع أيضاً كل العلاقات بين الناس، حتى بين افراد الأسرة الواحدة. مثلاً، حين اتهمت «كيمي» اختها «نينا» بأنها بغي تمارس الجنس مع المغني، انهال عليها والدها يضربها من غير وعي إلى ان انتزعت الحزام من يده وانهالت عليه حتى وقع على رأسه. وقد يكون الفقر من اسباب هذا العنف، بسببه ينقطع الأولاد عن المدرسة، وقد تُقتل فتاة ليستولي القتلة على غذائها، أو يراقب طفل رجلاً يرمي سندويتش دجاج في مستوعب القمامة فيقاوم بصعوبة رغبته في إخراج السندويتش وأكله (ص9). فالفقر المدقع يدفع الناس إلى السرقة والقتل والمخدرات، لا سيما الكوكايين. فتجارة المخدرات وإدمانها رائجان جداً بين شخصيات الرواية. ويصف الكاتب وصفاً رائعاً هلوسة «ديموس» تحت تأثير المخدر (ص245 - 248) ومن ثم لا نستغرب وصف الرواية الانحطاط الخلقي والقتل الوحشي في تصفية الحسابات بين المتخاصمين، وتباهي المثليين بمثليتهم، وكثرة العلاقات الجنسية الخسيسة (ص570 - 580، مثلاً). وعلى رغم كثرة الشخصيات في الرواية فقد أحسن الكاتب تصوير كل منها. مثلاً، بابا - لو كان رئيس مسلحين وقد قتل عدداً كبيراً من الناس، ولكن حين حرّضه جوزي ويلز على قتل شاب، واكتشف بابا - لو بعد ذلك أن الشاب كان طالباً متعلماً وبريئاً، كره نفسه وحلف أن يقلع عن القتل بعد ذلك. ومن أجمل ما في الرواية تصوير مشاعر الهلوسة والرعب التي انتابت بام - بام بعدما نوى رفاقه اغتيال المغني فهرب بمفرده وتخيّل انه يخاطب المغني مؤكداً انه لم يكن قد نوى قتله قط، وأن رفاقه والشرطة يلاحقونه كي يقتصوا منه ويدفنوه في القبر الذي يحفرونه (ص254-261 و266-268). ومن صعوبات الرواية وتعقيداتها استخدام الكاتب اللغة الجامايكية المحكية، ليس فقط في حوار الشخصيات وإنما في غيره ايضاً. وتكثر فيها جداً الألفاظ البذيئة والمسبات وكلمات الجنس. إلا ان كلام الشخصيات الأميركية أو ما يرد عنهم جاء في إنكليزية سليمة. وتكمن صعوبة أخرى في كثرة الإشارات والرموز المستوحاة من التوراة بعهديها القديم والجديد، كذلك لا بد من معرفة «الرستفاري» كي نفهم الإشارات إلى هيلا سيلاسي والحبشة وعدداً من الرموز المتعلقة بهذا المعتقد. وفي الختام، لا بد من التنويه بالفن في حبكة هذه الرواية الغريبة والتي لا أشك في أنها كانت من الأسباب التي اختيرت لمنحها جائزة البوكر، على رغم البذاءة والجنس الصريح في قسم كبير منها. أولاً، إن كل فصل من فصولها مروي بلسان أحد شخصياتها الكثيرين، وهو يرويها من وجهة نظره. وعلى رغم طولها وتشابك أحداثها وغموض بعض ما يروى، كل ما غمض على القارئ لا يلبث أن يتضح له، ولو بعد عدد من الصفحات. مثلاً، حين تبدأ الرواية بكلام يوجهه «سير آرثر جينينغز» عن الموت لا يتضح لنا إلا بعد 250 صفحة أنه قُتل وكيف ولماذا (ص269-273). وفي هذا يكمن عنصر من عناصر التشويق إلى متابعتها.