مؤكد أن هناك علاقة توليدية تصل بين اتِّباعية المنزع واتباعية المذهب، وذلك من المنظور نفسه الذي يدفعنا إلى القول إن هناك علاقة سببية تصل بين المذهب السلفي من حيث تولده التاريخي وتجلياته المتعاقبة وبين النزعة السلفية، ولكن هذه العلاقة التوليدية أو السببية لا تعني ردّ الفرع على الأصل على نحو مباشر في كل الأحوال، ولا تعني إيقاع التطابق بين اتباعية المذهب السلفي والنزعة الاتباعية عموماً. ويتضح ذلك حين نضع في اعتبارنا أن النزعة الاتِّباعية هي نتيجة توسيع في مجال المذهب، أو توسيع لدوائره الخاصة، ومن ثم الامتداد بها من الدائرة الاعتقادية الخاصة إلى الدائرة الفكرية أو الثقافية العامة. وهو امتداد تتحول فيه الأصول الاعتقادية المرتبطة بتأويلات دينية إلى أصول مدنية، أصول تؤسس لنزوع عقلي أو وجداني في تعرف المدركات، وممارسة الأفعال، واتخاذ المواقف، ومواجهة المتغيرات. ويشبه الفارق بين اتباعية المذهب واتباعية النزعة أو المنزع في هذا المجال، ومع الاحتراس اللازم بالطبع، التمييز بين معنيين للبدعة عند السلفيين. معناها اللغوي ومعناها الشرعي. المعنى اللغوي هو ما يتصل بكل شيء عمل على غير مثال سابق، والمعنى الشرعي قرين إحداث ما لم يكن له أصل في الكتاب أو السنّة أو الأثر أو الإجماع. وذلك تقسيم غير بعيد من التقسيمات التي نقلها وأضاف إليها الشيخ علي محفوظ في كتابه "الإبداع في مضار الابتداع". ومن ذلك التقسيم الثنائي الذي يقترن أوله بالحادث المذموم الذي أحدث ما خالف الكتاب أو السُنة أو الإجماع، حيث تغدو البدعة ما لم يأذن به الشارع، لا قولاً ولا فعلاً ولا تصريحاً ولا إشارة، ولا تتناول الأمور العادية، وتلك هي البدعة المنهي عنها تحريماً بمثل الحديث المنسوب إلى الرسول الكريم صلعم: "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". أما القسم الثاني فهو أعم ويشمل الأغراض الدنيوية المبتدعة كالملابس والمساكن والمآكل والمشارب التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح. وليس من الضروري أن نمضي مع الشيخ محفوظ في التقسيمات الكثيرة التي يذكرها، فالأهم ملاحظة أن غلبة الضلالة على المعاني الشرعية للبدعة وتقسيماتها تفرض نفسها على المعاني اللغوية، ناقلة إليها الضلالة نفسها. ولذلك تنتقل صفات القبح من الدوائر الاعتقادية، حيث المعنى الشرعي، إلى الدوائر المدنية، حيث المعنى اللغوي، وتفرض هيمنتها، خصوصاً حين تتكشف الدوائر المدنية عن تأثير أجنبي. وليس ببعيد من ذلك ما ذهب إليه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" من أن "البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع" وإردافه ذلك بعبارات حاسمة تقول: "والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان. فإن ابتدع شيء لا يخالف الشريعة، ولا يوجب التعاطي عليها، فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزاً حفظاً للأصل، وهو الاتباع". ويبدو ذلك جلياً عندما يتحدث الشيخ محفوظ عن تقسيم البدعة باعتبار الأزمنة أو الأمكنة أو الأحوال، ومنها البدعة التي تقع في العادات والأفكار، ويجعل منها: "تلك البدعة السيئة التي تكون من جماعة المتفرجين الذين تسممت نفوسهم بسموم المدنية الكاذبة والحرية الممقوتة من ولوعهم بحكم الغربيين وما ظهر على أيديهم من كرم أخلاق أو حسن صناعة أو شيء من أنواع المخترعات، فتراهم يكثرون من الإعجاب بها وضربها أمثالاً لهم في محاضراتهم ومقالاتهم" ص54. ولا يختلف ما يحدث في الصلة بين اتباعية المذهب واتباعية المنزع عن ما يحدث في تقسيم معنى البدعة إلى لغوي وشرعي، أو تقسيمها إلى ما يدخل في دائرة الدين وما يجاوز حدود هذه الدائرة إلى الدوائر المدنية عموماً، معنوية أو فكرية أو مادية، فالعنصر التكويني للاتِّباع المذهبي يظل على ما هو عليه حين ينتقل إلى الدوائر المدنية، لا يفارق خصائصه المائزة التي يخلفها في ذهن الإنسان الاتّباعي، أو ينقلها إليه بواسطة ما يشيعه من أنماط ثقافية بعينها، أو رؤى عالم تنبني حول ما صنع من تأويلات للشعار السلفي الشهير: "اتبعوا ولا تبتدعوا". والواقع أن ثقافة الاتِّباع هي الثقافة الناتجة من العلاقة التوليدية التي يتحول بها التأويل الاعتقادي الديني إلى تأويل فكري مدني، فهي ثقافة تشكلت ملامحها الأساسية، ولا تزال تتشكل، متولدة عن تأويلات بعينها للنصوص الدينية، تلك النصوص التي تدور حولها الثقافة العربية بأكثر من معنى، وتظل مشدودة إلى تأويلاتها التي تتحول إلى عناصر تكوينية مهيمنة على بنية الثقافة نفسها. وعندما يغلب الاتباع على التأويلات الدينية، فارضاً حضوره القاهر حتى على أمور الدنيا، نافياً المبدأ القائل إن البشر أنفسهم أعلم بشؤون دنياهم المتغيرة من عصر إلى عصر، فإن الانتقال حتمي من الدنيوي إلى المدني الذي يغدو صورة تأويلية منه، وتسري مبادئ الاتِّباع وآلياته وقيمه من الدائرة الدينية إلى الدائرة المدنية، حتى مع عدم وجود تطابق بين السبب والنتيجة، الأمر الذي يؤصل نزوعاً يغلب على كل المجالات السياسية والاجتماعية والتعليمية والفكرية والإبداعية والإعلامية في ما أسميه ثقافة الاتباع. ومن الممكن معرفة هذه الثقافة، ومن ثم تحليلها والكشف عن آلياتها، بإلقاء الضوء على عناصرها التكوينية التي تغدو صفات مائزة أو ملامح فارقة دالة بوجودها، أو وجود أغلبها، على الثقافة الاتِّباعية في أحوال هيمنتها. وليس ذلك ببعيد من القول إن الثقافة الاتباعية هي نوع من البنية الفكرية التي يمكن اكتشاف مكوناتها، واكتشاف سيطرة هذه المكونات إلى الدرجة التي تسقط صفاتها المائزة على الوعي الاجتماعي أو الجمعي العام في لحظة بعينها من التاريخ. وأولى خطى هذا الاكتشاف حصر الصفات المائزة لبنية الثقافة الاتباعية. ومن المهم التنبيه في هذا الصدد إلى أن محاولة حصر هذه الصفات المائزة أو استنباطها لا علاقة له مباشرة بنقد السلفية من حيث هي مذهب، فذلك مجال آخر يتصل بنقد الفكر الديني أو نقد الخطاب الديني البشري، فضلاً عن أن صفات المنزع الاتباعي الذي يغلب على الثقافة فيسمها بميسمه لا يتطابق دائماً، كما قلت، وصفات المذهب الاعتقادي حتى وإن بدأ منها، فما يجاوز دائرة البداية الاعتقادية إلى المجالات الثقافية المدنية يكتسب في تعدد الدوائر التي يتجلى فيها الكثير من الصفات اللاحقة التي قد لا توجد في أصل البداية، ولكنها مرتبطة به - ولو على نحو غير مباشر - في التحليل الأخير. والصفة المائزة الأولى هي صفة الماضوية، وهي صفة ملازمة لعملية "الاتّباع" نفسها، ما ظلت هذه العملية منطوية على علاقة لاحق بسابق، أو متأخر بمتقدم، ولذلك فالاتِّباع نظر إلى ما قبل، وقياس على ما سبق، وحفاظ على موروث، وإسناد إلى زمن انتهى. ويعني ذلك أن النزعة الاتباعية في الفكر أو الثقافة هي نزعة استعادة، لا تتصور مستقبلها إلا بوصفه عوداً على بدء سابق، وبوصفه نوعاً من التكرار للأصل نفسه، أو الإضافة عليه بما لا يخرج على حدوده أو مجالاته أو أفقه، ولأمر ما - لعله غير بعيد من ذلك - كانت دلالة الفعل الماضي للغة العربية - في بعض أحوال هذا الفعل - مشيرة إلى الزمن المستقبل، وذلك مثل دلالة الفعل "فزع" و"نفخ" و"صعق" في الآيتين الكريمتين: "ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله.." النمل/87 "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" الزمر/68 اللتين فسرهما القدماء بالإشارة إلى الاستقبال. والماضي هو الأصل الأول من هذا المنظور، الإطار المرجعي الذي يستعاد دائماً في مواجهة كل زمن لاحق عليه. وكل محاولة للخروج على هذا الأصل القديم المستعاد خروج على ما لا سبيل إلى الخروج عليه، وانحراف عن الجادة يؤدي إلى السقوط في هوة البدعة التي لا تفارق معاني الضلالة. ولا مستقبل على وجه الحقيقة في رؤى العالم التي تصوغها هذه النزعة، ولا قياس على إمكانات هذا المستقبل أو وعوده المغايرة، فالمستقبل نفسه ليس سوى عود على بدء، وتكرار لملامح الأصل الذي لا تغير منه أية إضافة إليه. وإذا كانت علاقة المستقل بالماضي علاقة فرع بأصل، حيث الأولوية للأصل في كل الأحوال، فإن صلاح الفرع مرهون بمدى ما يستمده من أصله، أو تكرار في حضوره الذي لا بد أن يغدو صورة أخرى من الأصل القابل للتكرار إلى ما لا نهاية له من أشكال التعاقب في الزمن المستقبل. ويعني ذلك أنه لا جديد تحت الشمس، وما يفعله اللاحقون تكرار بأكثر من معنى لما سبق أن فعله السابقون، حيث يظل الماضي شبيهاً بالعلة الأولى التي تتجلى في صورها اللاحقة إلى آخر زمان العود الأبدي الذي لا ثابت فيه سوى مبدأ العلة الأولى نفسها. ويترتب على ذلك أن الحقيقة الثابتة كالفعل الممدوح هي ما يؤديها ذكر ما وقع في الماضي، أو تذكّره بواسطة الذاكرة التي تصل اللاحق بالسابق، وتعطف أفعال المتأخر على أفعال المتقدم، أو ترد الممدوح من إنجازات الخلف على ما سبق أن قام به السلف الصالح، وذلك في حال أشبه بالحال الذي وصفه أحمد شوقي بقوله: ومن نسي الفضل للسابقين فما عرف الفضل فيما عرف أليس إليهم صلاح البناء إذا ما الأساس سما بالغرف أو ما قاله الرصافي : ألا لفتة منا إلى الزمن الخالي فنغبط من أسلافنا كل مفضال تلونا أناسا في الزمان تقدموا وكم عبرة فيمن تقدم للتالي والحكم الإيجابي بالقيمة - مع هيمنة هذه النزعة الماضوية - هو حكم يتحدد بمدى انطباق ما ينتسب إلى متغيرات الزمن الحاضر على ما سبق أن وجد في الزمن الماضي، فالزمن الحاضر الذي يستعيد الزمن الماضي هو الزمن الذي يحافظ على نقائه بالعودة إلى مبتدى أمره، والمستقبل الذي يصوغه الحاضر على شاكلته هو المستقبل الذي يحنّ إلى العلة الأولى التي هي الأصل في إيجابه. وكل انحراف عن ذلك يدخل في تصنيف البدعة التي تفضي إلى الضلالة المفضية، بدورها، إلى النار على المستوى الاعتقادي، أو إلى الخراب على المستوى المدني. وتشديد النكير على "البدعة" - من هذا المنظور - هو تشديد للنكير على "الجديد" الذي لا أصل له، و"المتغير" الذي لا يشبه ما سبق الإجماع عليه، و"الحادث" الذي يقع على غير مثال سابق. ويترتب على ذلك أن المبدأ الحاكم للقيمة الموجبة هو مبدأ المشابهة أو المماثلة الذي يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد الذي يرد التعاقب إلى تزامن، فيجعل اللاحق مثلاً أو مثيلاً أو شبيهاً لا يخلو من معاني التكرار أو التقليد أو الاستعادة في علاقته بالسابق. ومن المنظور نفسه، فإن المبدأ الحاكم للقيمة السالبة هو مبدأ المخالفة الذي ينقطع به اللاحق عن السابق فلا يغدو مثلاً أو مثيلاً أو شبيهاً، ومن ثم يفارق معاني التكرار والتقليد والاستعادة، ويصل بين مذمة الابتداع وضلالة البدعة التي تخرج صاحبها من أمان الاتِّباع، كي توقعه في شراك المعصية والإثم والسقوط والانحراف عن الجادة بكل معانيها. والمعرفة الموجبة - من المنظور السابق - هي المعرفة التي يتناقلها الخلف في الحاضر أو المستقبل عن السلف في الماضي، بل إن المعرفة الجديدة التي يمكن أن يضيفها الحاضر أو المستقبل إلى معرفة الماضي هي معرفة لا تخرج عن الأصل الثابت نفسه، فهي معرفة لا تكتسب صفتها الإيجابية إلا من خلال مبدأ المقايسة الذي يوازي مبدأ المشابهة ويلازمه ملازمة اللازم للملزوم، فكل تعرف للجديد لا يخلو من فعل مقايسة على القديم، فإذا انقاس الجديد على قديم وأصبح مثله، أو كأنه إياه، أو خضع لحكمه أو شروطه، أو منطقه، ثم قبول هذا الجديد على أساس من المقايسة التي تعتمد المماثلة أو المشابهة سبيلاً إلى إيجاب الحكم، أو دليلاً على لزوم الأصل وعدم الخروج عليه. وبالطبع، فإن المعرفة السلبية هي المعرفة التي لا تقوم على قياس المماثلة، والتي تستبدل به غيره في مجالات المصالح المرسلة التي لا تقيس على الماضي، وإنما تقيس على إمكانات الوعود الإيجابية للمستقبل أو الحاضر. المعرفة الموجبة، اتِّباعاً، هي معرفة الاستعادة التي تتأسس بقياس المشابهة على ما سبق، فتؤكد حضور القديم في كل الأحوال، وتحيل إليه عند كل مساءلة. أما المعرفة السالبة، معرفة البدعة أو الضلالة، التي تنقطع عن قياس المشابهة، ولا تبدأ منه بوصفه إحالة دائمة إلى أصل قديم، وإنما تبدأ من نقيضه الذي لا يقيس حاضراً على ماض، معترفاً باقتراف إثم البدعة التي هي قياس على الآتي والمغاير والمخالف. و"القديم" في كل حالاته، ومن المنظور نفسه، جوهر نقلي اكتمل دفعة واحدة، أو دفعات، في الماضي، فلم يبق سوى تكراره، واستعادته، والقياس عليه. ولحظة اكتماله الأولى هي العصر الذهبي الذي يغدو كل ابتعاد عنه في الزمن انحداراً عنه في سلم القيمة الموجبة، وكل اقتراب منه ارتفاع على درجات سلم القيمة نفسها، حتى لو كان السبيل إلى ذلك هو سبيل الاستعادة التي لا تخلو من آلية قياس المماثلة التصورية التي ترد اللاحق على السابق. ويكتسب هذا "القديم" قوة قاهرة من هذا المنظور، بل يتحول إلى نوع من التجريد المتعالي، على الأقل بوصفه الأصل الثابت الذي لا مفر من القياس عليه تأكيداً للمماثلة معه، والذي يغدو كل اختلاف عنه تشويهاً له، كما لاحظ أدونيس بحق في كتابه "الثابت والمتحول: بحث في الاتِّباع والإبداع عند العرب". وما يصل إلى درجة التجريد المتعالي لا يرى في ذاته وإنما في تجلياته ولوازمه التي تحيل إليه في كل مجال، والتي تجعل منه في كل أحواله المثال الأنقى الذي لا يفنى ولا يتبدد، ولا يفارق مزاياه التي لا ينقص تعاقب الزمن من قيمتها قط، بل يؤكدها بما يضفي طابعاً أبدياً على حسنها المتزايد.