Olivier Weber ed.. Afghanistan: LA Mژmoire Assassinژe. أفغانستان: الذاكرة المغتالة. Editions Mille et Une Nuits, Paris. 2001. 140 Pages. بعيداً عن صخب "الحرب على الارهاب"، الدائرة رحاها الآن في افغانستان، يأتي هذا الكتاب ليذكرنا بأن المسألة الافغانية هي في المقام الأول، وفي عهد "طالبان" حصراً، مسألة ثقافية. وهذا بشرط ان نأخذ الثقافة بالمعنى الواسع للكلمة باعتبارها نمط حياة ونمط تفكير ورؤية ناظمة للكون والوجود معاً. ومن هذا المنظور فإن هذا الكتاب الجماعي، الذي شارك في تحريره اثنا عشر باحثاً دولياً في شتى قطاعات الثقافة، يمثل صرخة احتجاج على "الجريمة ضد الثقافة" التي ما فتئ يجسدها المشروع الطالباني منذ استيلاء الحركة على كابول في ايلول سبتمبر 1996. فالمشروع الطالباني هو في جوهره مشروع ل"ثقافة مضادة للثقافة"، مشروع لاستئصال الثقافة، ولتدمير أدواتها ورموزها، ولاجتثاثها من الجذور وللرجوع بها الى نقطة الصفر المطلقة. فالمشروع الطالباني لا يقر بأي مشروعية للفن والرسم والموسيقى وللشعر وللتراث ولذاكرة الأجيال، وهو نموذج مكتمل ومتطرف للنزعة الى تحطيم الصور التي طالما كانت مميزة لحركات التعصب الديني في العصر البيزنطي والقروسطي، والتي بلغت أوجها في افغانستان الطالبانية ابتداء بحرق الأفلام وأشرطة الفيديو في الساحات العامة وحظر البث التلفزيوني، ومروراً بمحو صور الاشخاص وحرق المخطوطات المصورة في متحف كابول، وانتهاء بتدمير تماثيل بوذا العملاقة في جبال باميان. والواقع ان المبادرة الى إصدار هذا الكتاب الجماعي انما جاءت من المنظمة المكلفة الدفاع عن شؤون الثقافة والتراث الانساني المشترك في العالم: اليونسكو. فأولى مقالات الكتاب تحمل توقيع كويشيرو ماتسورا، المدير العام لليونسكو، الذي افتتحها بالقول: "ان جريمة ضد الثقافة قد اقترفت. ف"طالبان"، بتدميرهم تماثيل بوذا العملاقة التي ما فتئت ساهرة منذ ألف وخمسمئة عام على وادي باميان، قد اقترفوا الجرم الذي لا يغتفر ولا يعوض. فقد اغتالوا جزءاً من الذاكرة الافغانية، وأبادوا شهادة ثمينة وخارقة للمألوف على التواصل ما بين الحضارات، وهدموا تراثاً ينتمي الى البشرية قاطبة". أوليفييه ويبر، المكلف من قبل اليونسكو تنظيم ندوة الدفاع عن "تراثات افغانستان وآسيا الوسطى"، اعتبر المشروع السياسي والثقافي الطالباني مشروعاً ظلامياً غير مسبوق في التاريخ. ف"طالبان" هم دعاة "للعزلة الثقافية التامة" وطلاب "لطهارة عدمية مطلقة" وأعداء ألداء للمرأة بما هي كذلك، وبالتالي لما تمثله من قيم جمالية، وأنصار لأسوأ أشكال الاستبداد: الديكتاتورية على العقول وعلى النفوس، وجنود/ رهبان بالمعنى القروسطي للكلمة، أو هولاكيون جدد يحرقون الأخضر واليابس ليقيموا "حكم الملات" Mollarchie، وليمارسوا الشكل الأكثر تطرفاً من حرق الصور، بما في ذلك حرق الصورة الحضارية للاسلام نفسه. الجامعي الافغاني المنفي لطيف بدرام يلجأ هو الآخر الى الرمز الهولاكي ليقول: انه كما ان المغولي هولاكو خان دمر مكتبة قلعة ألموت الاسماعلية الكبرى وسوّد مياه دجلة بما أحرقه فيها من الكتب، كذلك فإن زعيم "طالبان"، الملا عمر، أمر بإضرام النار في الخمسة والخمسين ألف من مجلدات ومخطوطات مكتبة الحكيم ناصر خسرو في بول الخمري. أما كريستيان فهارت، الاختصاصي بشؤون آسيا في قسم التراث الثقافي باليونسكو، فيقدم أوفى عرض واكثر تفصيلاً للجريمة ضد الثقافة التي اقترفها "طالبان" بتدميرهم تماثيل باميان. وهو يبدأ عرضه بإيراد النص الحرفي للمرسوم الذي أصدرته حكومة "طالبان" في مدينة قندهار في 26 شباط فبراير 2001 بصدد تدمير جميع التماثيل الموجودة في افغانستان، أياً تكن قيمتها الفنية والتاريخية، بهدف إلغاء "عبادة الأوثان". وقد جاء في النص: "على أساس مشورات الرؤساء الدينيين لإمارة أفغانستان الاسلامية، وعلى أساس فتاوى العلماء وقواعد المحكمة العليا لإمارة افغانستان الاسلامية، يتعين تدمير جميع التماثيل والأضرحة غير الاسلامية الموجودة في مختلف مناطق إمارة أفغانستان الاسلامية. فهذه التماثيل كانت ولا تزال أماكن حج للكفار الذين لا يفتأون يوقرون ويبجلون أماكن العبادة هذه. فلا إله إلا الله العلي القدير. أما سائر الآلهة فليس لها من مصير إلا الإبادة. ولهذا فإن الرئيس الأعلى لإمارة أفغانستان الاسلامية قد أصدر أوامره الى جميع المسؤولين في وزارة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وكذلك في وزارة الاعلام والثقافة، بهدم التماثيل كافة. وكما رسمت المحكمة العليا لإمارة افغانستان الاسلامية وهيئة العلماء، فإن التماثيل كافة ينبغي ان تدمر، كيلا يبقى في متاح أحد بعد اليوم ان يعبدها ويبجلها". وعلى أثر صدور هذا المرسوم وجهت منظمة اليونسكو نداء أول الى قادة "طالبان" تسألهم فيه الحفاظ على التراث الثقافي الأفغاني. ونشر هذا النداء على سعة في الصحافة الباكستانية، كما في الصحافة الدولية. وفي 28 شباط أوصل المدير العام لليونسكو رسالة شخصية الى زعيم "طالبان"، الملا عمر، عن طريق سفير "طالبان" في اسلام اباد، يناشده فيها التدخل لوقف عملية التدمير. وبعد إصدار ثلاثة بيانات صحافية اضافية في الأسابيع التالية نظم مدير اليونسكو سلسلة من المباحثات مع سفراء مختلف الدول الاسلامية، لا سيما تلك التي تعترف بنظام "طالبان". وفي غضون شهر آذار مارس قام بيار لافرانس، الممثل الخاص للمدير العام لليونسكو، بسلسلة من الزيارات لإسلام آباد وقندهار وكابول حيث التقى وزير الخارجية ووزير الثقافة في حكومة "طالبان، ثم توجه الى الامارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية ليناشد حكومات هذه البلدان تصعيد ضغطها على نظام "طالبان". وبناء على طلب اليونسكو أصدر عدد من علماء الاسلام في مصر والعراق وباكستان فتاوى ضد مرسوم "طالبان" بالهدم. وبناء ايضاً على تدخل المدير العام لليونسكو لدى منظمة المؤتمر الاسلامي توجه وفد من رؤساء احدى عشرة دولة مسلمة الى قندهار بهدف اقناع الملا عمر بعدم اتخاذ القرآن والدين الاسلامي حجة لتدمير تلك التماثيل. لكن جميع هذه التدخلات السياسية والدينية لم تجد فتيلاً. وبقيت زعامة "طالبان" مصرة على التمسك بمرسومها التدميري، على رغم المعارضة التي أبداها العديد من المثقفين الافغانيين المنفيين أو اللائذين بالمناطق غير الواقعة تحت حكم "طالبان". ويشير كريستيان فهارت الى واقعة لها دلالتها. فقوات "طالبان" الموجودة في وادي باميان امتنعت لنحو اسبوعين عن تنفيذ أمر الملا عمر، مما استوجب مجيء وزير "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" شخصياً الى باميان في 8 آذار ليتولى مع رجاله نسف التماثيل بالديناميت والمدفعية في اليوم التالي. يبقى ان نقول ان تماثيل باميان هي الأكبر من نوعها في العالم. فهي مقدودة في الصخر على ارتفاع 55 متراً لاكبرها، و38 متراً لأصغرها. وهي رمز للقاء الشرق والغرب ولحوار الحضارات. فنحتها يعود الى القرن السادس أو السابع للميلاد، وقد نفذه رهبان بوذيون كانوا استقروا في مغر جبال باميان على ارتفاع 2700 متر، وكان فنهم مزيجاً من الثقافتين اليونانية والبوذية اللتين عرفتا طوراً مديداً من التفاعل على اثر فتوحات الاسكندر المقدوني التي أوصلته الى قلب آسيا الوسطى، وتحديداً الى مملكة بكتريان بلخ حالياً في شمال أفغانستان. وقد عكس فن أولئك الرهبان البوذيين تأثراً واضحاً بفن مدرسة الاسكندرية الهلنستية التي كان فنانوها أول من نحت تماثيل لبوذا مع اعطائه ملامح أبولونية.