ظل الحديث عن اقليمية أو عالمية الإرهاب يدور لسنوات طويلة في اطار من التخوفات أو التوقعات المختلف عليها، حتى أحالت أحداث 11 أيلول سبتمبر تلك الظنون الى واقع حقيقي. واكتسب الارهاب، مثل غيره من الظواهر، صفة "العولمة". وبات العنف متساوياً مع الشركات متعددة الجنسية، تنوعاً وانتشاراً. واللافت أن غالبية حوادث العنف وعمليات الارهاب التي طغت على وسائل الإعلام العالمية في الحقب الثلاث الاخيرة انطلقت من الموقع العربي. وبعيداً من حوادث الاراضي المحتلة كانت المتابعة ترتبط بعمليات الارهاب والاغتيالات، سواء في مصر أو الجزائر أو تونس وسورية وليبيا والسودان واليمن وغيرها، وهي دمغت الصراع السياسي في المنطقة كلها بالمواجهة مع "جماعات الاسلام السياسي" أو ما يُفضل البعض تسميته ب "تيارات التأسلم". إحتكار الحقيقة وعلى رغم أن الدكتور رفعت السعيد، عضو لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى المصري، يقر بأهمية الاسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلا أنه، في الوقت ذاته، يتحدث عن تكرار أوضاع مشابهة في بلدان أخرى كثيرة في العالم الثالث من غير ان تتحول إلى ظاهرة عنف وإرهاب. ويدلل على ذلك بأن مصر كثيراً ما شهدت أزمات اقتصادية أكثر شدة ولم تشهد تفشي هذه الظاهرة. ويحدد السعيد العنصر الرئيسي الذي تتبلور حوله العوامل الاخرى المساعدة بأنه "الجانب الفكري". فالإرهاب، كما يقول، يبدأ بفكرة تخلط بين الرأي وبين المطلق والدين، فإذا ما تصور قائد سياسي أو جماعة سياسية متأسلمة أن رأيها هو الصحيح نشأت المشكلة، اذ يتصور أن أي معارضة لرأيه تصبح معارضة لصحيح الدين. واذا تصورت جماعة انها أهل الحل والعقد في الاسلام - وهو تعبير لم يعرفه المسلمون إلا بعد 400 عام على الهجرة في كتابات الماوردي- فيكون من يواليهم والى صحيح الدين، ومن خالفهم خالفه، وأن مفارقهم هو مفارقٌ للإسلام، ومن ثم فهو كافر، ويقام عليه الحد للردة. وهذا هو جوهر الفكرة الارهابية التي تعتبر أن الآخر هو الكافر الواجب قتله. والسعيد، وهو اصدر غير كتاب في هذا المجال، يرى أن جوهر الارهاب بين المتأسلمين يأتي من أسلمة السياسة وإقحامها في ميدان الدين. ويقول: "هناك قول مأثور: إن الدين تسليم بالايمان، والرأي تسليم بالخصومة، فمن جعل الدين رأياً فقد جعله خصومة، ومن جعل الرأي ديناً فقد جعله شريعة. ولكن تجب الاشارة الى أن الارهاب لا يرتبط بأسباب دينية واسلامية فقط، فهناك جماعات ارهابية كثيرة في بلدان ديموقراطية ترفض المجتمع، وتفشل في تغييره فتلجأ الى العنف والارهاب. أما في صدد ارهاب المتأسلمين فيجب النظر الى الفكرة أولاً وقبل كل شيء". ويرصد السعيد نوعين من الارهاب السياسي شهدتهما مصر، الاول: مارسته عناصر وطنية من البورجوازية الصغيرة التي لم تمتلك جذوراً اجتماعية لمواجهة الاحتلال وأعوانه، ضرب اليأس في نفوسها ولجأت إلى العنف لقتل الجنود الانكليز أو عملائهم" أما النوع الثاني فهو الارهاب المتأسلم. والنوع الأول توقف عند حصول مصر على استقلالها، فلم يعد له مبرر. أما الثاني فما زال يتواصل طالما استمرت عملية أسلمة السياسة التي يستخدمها اصحابها ستاراً في معركة يستهدفون من ورائها تحقيق الوصول إلى الحكم. فلا يقوم بفعل ارهابي، في مصر، إلا العناصر المتأسلمة. واقتصار الاتهام على الاسلاميين أو المتأسلمين، كما يطلق عليهم السعيد، سببه نوع من الانحياز الحضاري إلى الغرب. فهناك الجيش الجمهوري الايرلندي، وهناك الجماعات اليابانية، ومنظمات العنف والارهاب الاميركية. وعلى رغم ذلك فالتركيز على ارهاب المتأسلمين سببه سياسي، وهو الانحياز ضد المسلمين وهذا لأهداف سياسية ومصالح دولية أولاً. مواجهة مع البديل وعلى رغم اتفاق القطب الاخواني عصام العريان مع المفكر اليساري رفعت السعيد على وجود رغبة غربية في اظهار ما يُطلق عليه "العنف الاسلامي"، وتجنب الحديث عن الميلشيات المسلحة في الغرب، الا أن خلافاً جذرياً بين الاثنين يتضح في وصف العريان لحديث السعيد عن "احتكار الاسلاميين للصواب"، ب"الكلام المتهافت". فلا يرى القطب الإخواني في الحركة الاسلامية من يعتبر مقولاته أمراً إلهياً. وفصيل واحد هو "التكفير والهجرة" اعتمد هذا المنهج، لكنه اندثر وانتهى. واذا كان بعضهم يتحدث عن علاقة الارهاب بالاسلام في اطار الدعاية الغربية، لأسباب سياسية وعلى خلفية حوادث جرت على الارض لسنوات، فإن العريان يؤكد بداية أن الأصل في الاسلام ليس استخدام القوة وانما الدعوة بالحكمة والموعظة والتعايش مع كل الشعوب. فالحرب في الاسلام لها اسبابها المشروعة، وتتلخص إما في رد العدوان أو درء الفتنة عن الناس. ويلفت العريان الى أن تصاعد موجات العنف في العالم كله، ونسبتها الى أطراف اسلامية يجب أن تكون محل دراسة وبحث عميقين. فتصاعد صحوة اسلامية يقابله فشل الانظمة الحاكمة في البلاد العربية والاسلامية. ومع ترشيح بديل جديد للقائم، ينبع من هوية الأمة وحضارتها، نفاجأ بموجة عنف تنسف كل هذا. ويستبعد القطب الاخواني فكرة المؤامرة، إلا أنه يتحدث "عن مصالح تحركها أطراف متعددة". والفارق أن المؤامرة تتم في السرّ ولها قواعدها. أما المصالح فهي تحركات علنية تتشابك فيها اطراف من الغرب واميركا والصهيونية تستهدف تشويه صورة الاسلام. ويرمي بعض هذه الأطراف الى دفع المسلمين المهاجرين إلى هجرة مضادة بعد أن ظهر تأثيرهم في انتخابات الرئاسة الاميركية الأخيرة، وخصوصاً في ولاية فلوريدا التي حسمت المعركة لمصلحة جورج بوش الابن وصوت له اكثر من 95 في المئة من مسلمي الولاية. ويقر العريان بأن موجة العنف التي تستهدف نسف الصحوة الاسلامية لا يوجد ما يبررها، لأنها "لم تحقق اهدافاً". فقمة العنف في مصر كانت عملية اغتيال الرئيس انور السادات. ثم تلتها موجة عنف اخرى لم تحقق شيئاً سوى الإضرار بمسيرة الحركة الاسلامية المعتدلة. ويلاحظ ان هذه الموجات تواكبت مع انتصارات حققتها حركة "الاخوان" في المجالين، السياسي البرلماني والنقابي. فجاءت الموجات "فيتو" من جهات اخرى تريد تلطيخ صورة الاسلام، كما حدث في الجزائر. وما يجب أن يناقَش، من وجهة نظرالعريان، هو لماذا انطلقت هذه الموجة المشكوك فيها؟ وهل يمكن القول ان مبررات وفرت لها وساعدت على انطلاقها، ورعتها لتزدهر؟ ولا يستبعد العريان كل هذه العوامل، خصوصاً إذا واكبها وجود "شباب مخلص صاعد راح ضحية ما حدث باخلاصه وإيمانه، وغياب قنوات شرعية تستوعبه". ويلاحظ العريان أن العنف لا يمكن قصره على الافراد الاسلاميين وحدهم. فهناك حوادث التفجيرات في بلدان منها تركيا، وهي شهدت اخيراً حادثة تفجير فتاة شيوعية لنفسها. وهناك اليابان التي بدأت العمليات الانتحارية، وفيها جماعات عنف. وكذلك اميركا اللاتينية، وملايين القتلى في رواندا وبوروندي. وكلها افعال وأعمال لا تمت للمسلمين بصلة. فلماذا الاصرار على إلصاق العنف بالمسلمين وحدهم؟ غياب الحوار مع الآخر ويذهب عميد كلية أصول الدين في جامعة الازهر، عضو البرلمان عبد المعطي بيومي، الى الحديث عن حوار أعم وأشمل بين الحضارات والتيارات الفكرية والثقافية يلفت نظر العالم الى احتواء الاسلام قيمة العدل التي تعد الضمان لمقاومة الارهاب. ويقر بيومي بأن الفترة الاخيرة شهدت ظهور تيارات اسلامية استخدمت الجانب السياسي والدعوة بالحكمة، شهدت كذلك بعض التيارات التي استخدمت العنف واعتمدت الارهاب. فألصقت تهماً زائفة وباطلة بالاسلام، على رغم أن الاسلام مشتق من السلام، ودعوته قائمة على الحكمة والموعظة الحسنة، فمهمة المسلم بحسب القرآن الكريم ليست إلا إبلاغ الدعوة والتعريف بالاسلام، وليست مهمته إكراه الناس أو إجبارهم على فعل شيء. ويرجع بيومي هذه الظاهرة الى عوامل منها: الضغوط الخارجية، والضحالة الثقافية والفكرية، وغياب معرفة كافية بالاسلام، إلى تكوين نفسي وتربوي. فالإرهاب، او من يلجأ للعنف يشكو من تكوين نفسي يميل الى استخدام القوة ضد الآخرين. ومن تجربته وجولاته في محافظات ومدنٍ لمكافحة الافكار الخاطئة، يعتقد بيومي أن نشر الثقافة، والعناية بتدريس الاسلام في الجامعات والمدارس، وتعريف النشء بالمفاهيم الصحيحة، هو السبيل المناسب لمواجهة افكار العنف. وإذا كان الحوار بين المسلمين مطلوباً فالحوار مع الآخر اصبح اكثر إلحاحاً بحسب بيومي. وإذا كان الصدام بين الحضارات مفتعلاً لأهداف في الغرب، فالحوار هو الوسيلة لكشف مزاعم دعاة الصدام وتبيان بطلان دعوى التلازم بين الاسلام وبين العنف. وهذا يُظهر قيمة العدل في الاسلام، وهي قيمة علينا بثها في العالم كله. وفي اعتقاد بيومي ان السياسة الاميركية، بعد ما حدث، ستتنبه الى ضرورة الانحياز للقيم الاخلاقية في سياستها الدولية في المناطق الساخنة، ومعالجتها المشكلات المتفجرة حتى تحقق مصالح اهم وأكبر بكثير من المصالح المادية وحدها. فلو نفذت اميركا سياسة عادلة في موضوع فلسطين لأدى ذلك حتماً الى تجفيف منابع الارهاب على مستويات كثيرة، فأصحاب الحقوق الضائعة لو وجدوا إنصافاً من السياسة الاميركية تجاههم لانعكس ذلك حتماً في التزام اسرائيل. وإن كان ذلك لا يبرر ما حدث في الولاياتالمتحدة، لكن الحقيقة ان المساندة الاميركية لاسرائيل فجرت مشاعر الناس. عجز عربي ولا ينفي رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة، الدكتور حسن نافعة وجود قواسم مشتركة تتعلق بالاوضاع العربية عموماً، ولكنه يدعو الى ترك التعميم في دراسة الظواهر الإرهابية. فالوظائف الاساسية لكل نظام هي تحقيق التنمية والامن في الداخل، وحماية الوطن من متربصيه في الخارج. وفي معظم الدول العربية إحساس طاغٍ بالفشل، إما بسبب استمرار الصلف الاسرائيلي، أو للتنازلات المقدمة من جانبنا، أو للوجود الاجنبي في المنطقة وخصوصاً الاميركي، بعد حرب الخليج الثانية. ويرصد نافعة التشوهات الثقافية والخلل الاجتماعي داخل كثير من المناطق في الدولة الواحدة، وذلك بسبب عجز التنمية السياسية عن حسم قضايا مهمة مثل الملاءمة بين الاصالة والمعاصرة، والتمزق الواضح الناجم عن هذا العجز في النسيج الثقافي. ويلاحظ الافتقاد الى مشروع عربي عام تلتف حوله الجماهير العربية. وهذه عوامل أدت إلى تفشي ظاهرة الارهاب. ويركز على ظاهرة افغانستان التي تحولت الى بؤرة اجتذبت عناصر تنادي بطروحات ايديولوجية، ولها تفسيرها الخاص للاسلام. وهي ذهبت لتحارب تحت راية الجهاد الاسلامي، ودعمتها الولاياتالمتحدة وبعض الحكومات العربية، وبعد تحقيق النصر على الاتحاد السوفياتي بدأت تشعر بقوتها ودورها. فاستدارت الى ما تسميه الحكومات العربية، إما العميلة أو الكافرة واتجهت الى محاربتها. وهذا يفسر لماذا انتشرت هذه الظاهرة في العالم العربي. فالنواة الاساسية من المجاهدين الاجانب في افغانستان كانت من العرب، وكانت وثيقة الصلة بتنظيم القاعدة الذي دعمته الاستخبارات الاميركية في البداية وأصبح العمود الفقري لغالبية هذه الجماعات بعد ذلك. والفشل، في ما يبدو، لم يتوقف عند حدود العجز عن تحقيق التنمية الداخلية او حماية الامن الخارجي هي مشروع موحد، وإنما امتد الى القدرة على التعاطي مع الغرب وتطوير الخطاب العربي. فكل دولة عربية تتعامل مع المتغيرات في النظام الدولي من منظور ضيق ووفقاً لمصالحها كنظام أو كنخبة، وليست هناك النظرة الشاملة، بل تنحصر الرؤى في حدود موطئ القدم، ولم نشعر بمحاولات حقيقية لطرح سياسي يعطى انطباعاً برؤية سياسية مغايرة، او حتى أفق سياسي لإزالة المتناقضات المفتعلة بين المصالح الوطنية والقومية. ويوضح نافعة ان المطروح ليس تحقيق الوحدة، وإنما على الاقل الاتفاق على ما يمكن تسميته الخطوط الحمر، والمفروض عدم تجاوزها، سواء في تفعيل العلاقات الاقتصادية أو في التعامل مع الغرب. وهو ما يمكن ان يساعد في مواجهة ضخامة التحديات الخارجية، وسوء نيات الغرب الذي يعي جيداً نقاط ضعفنا ويتسلل من هذه الثقوب. وعملية جلد الذات يجب الاّ تتواصل، وإلا جاءت بنتائج مغايرة. لكن ذلك لا يمنع، على قول نافعة، من الاشارة الى مشكلة مزدوجة. فهناك عجز عربي عن رؤية التحديات، وقصور النظر في التعامل معها وهناك ضخامة الموارد الغربية، وقدرة بلدانها على ممارسة الضغوط، وإلحاق الهزائم بالعالم العربي.