قال لي صديقي الشاب، وهو من كوادر الحزب الشيوعي السوري - يوسف فيصل، بعد ان سألته عن نشاطهم العملي حالياً: "نجتمع كل اسبوع او اسبوعين، نتفق في رؤيتنا للوضع الراهن، ونتفق ايضاً على المهام الضرورية لمواجهة هذا الواقع، ثم نفترق ولا نقوم بشيء حتى الاجتماع التالي. ننشغل بحياتنا العادية". وعبّر عن الضجر والضيق الشديد بهذه الحال العامة الشاملة. وكان الشيوعيون السوريون انقسموا في مطلع السبعينات الى حزبين خالد بكداش - رياض الترك، تحت يافطة الموقف من المسألة القومية والقضية الفلسطينية والاتحاد السوفياتي، وعلى خلفية الموقف من السلطة. ثم انقسم حزب بكداش نفسه الى قسمين بكداش ومن بعده زوجته وصال فرحة - يوسف فيصل على خلفية حيّرت المراقبين في البداية، ثم تكشفت عن اختلافات تنظيمية في المواجهة، وعن درجة من المحافظة الفكرية او الانفتاح المنتظم والمؤطر ضمن الاسس السياسية ذاتها... نسبياً. اي ان هنالك ثلاثة احزاب تحت اسم الحزب الشيوعي السوري حالياً، واحد منها معارض للسلطة ثم ملاحق منذ حوالى ربع قرن. والآخران تقاسما مقعدي قيادة الجبهة الوطنية التقدمية وحصة الحزب في عضوية مجلس الشعب اربعة مقاعد لكل منهما من 250 مقعداً. ما زال حزب بكداش - فرحة مخلصاً لأفكاره متمسكاً بها، بل انه عاود حنينه الى ستالين وطريقته. وهو يمثل شريحة من الناس في سورية تتعلق بهذه المثل والأحلام بين بعض من يحنون الى الاتحاد السوفياتي، خصوصاً حتى العام 1953، فيكتسب شرعيته الراهنة من خلال ذلك. بتأثير من تلك الروح الكفاحية المحافظة كما يبدو، يلاحظ على الحزب صلابة اشد نسبياً في الدفاع عن استقلاليته ضمن القضايا المطلبية والاقتصادية. الاشكالية التي يعيشها حزب فيصل تحرض على الاهتمام والدراسة. حيث حدث انفتاح للحزب باتجاه البحث عن ملاقاة الاهتمامات الفعلية للناس، في شكل مضبوط ما بين قيادة تريد التطوير ضمن الايقاع، من دون تغيير في مواقعها او مصالحها مع السلطة، وبين أعضاء الحزب الذين يندفعون قليلاً ثم يتوقفون. يندمجون بالحركة العامة، وتكبحهم مكابح القيادة التي تستثمر الخوف والتردد في صفوفهم. في تحضير الحزب لمؤتمره التاسع، صدر كرّاس عنوانه "قضايا وموضوعات" يعكس في محتواه وأسلوبه هذه الازمة. صحيح انها مسائل للمناقشة كما قيل، ولكن تاريخ الحزب يؤكد انها ناظم لما سيصدر عن المؤتمر المذكور، ولن تزيد التعديلات عن الاضافات الكمية التي لن توثر في سماته العامة والاساسية، ما دام اليأس والتواني يكبحان نشاط كوادره كما أُشير أعلاه. وهذه الحال نموذجية في سورية، تعكس جيداً جُماع تأثير التاريخ السابق للسياسة فيها. بل هي انعكاس لغياب السياسة، وعزل المجتمع عنها طويلاً، الامر الذي لا تكفي النيات وحدها لتجاوزه. فلطالما اختزلت المفاهيم سابقاً، حتى تقزّمت وكادت تندثر من الذاكرة والمراس. اختزلت الديموقراطية في اختها غير الشقيقة "الديموقراطية الشعبية"، والشعب في "المنظمات الشعبية"، والحرية في المسؤولية او الانضباط والانصياع والولاء الوحيد الاتجاه، والمجتمع في الطبقات، والفكر في الايديولوجيا، والأمة في أفراد. المهم مباشرة هنا هو اختزال التعددية في "الجبهة الوطنية التقدمية". تتضمن الموضوعات المذكورة فصولاً تحت عناوين: الوضع الدولي - الوضع العربي - القضية الفلسطينية - الوضع الاقتصادي الاجتماعي في البلاد - قضايا الفكر والثقافة - الديموقراطية - التحالفات والجبهة الوطنية التقدمية - التربية والتعليم - الشباب - النساء - البيئة - الصحة - الحزب الشيوعي السوري. ربما يكون اكيداً ان افضل معالجة تصدر عن حزب عضو في الجبهة حتى الآن، هي هذه... على رغم كونها - في الحصيلة - ليست معالجة بمعنى السياسة. فهناك مريض يحتاج الى دواء وبرنامج استشفاء كامل ومرهق وصعب، وهو ينساب من بين يدي اهله يوماً إثر يوم، ولن ينجح معه مدرس للغة العربية يكرر امامه الجمل الجاهزة، ولا حتى صيدلاني ايضاً. الوضع في سورية الآن قيد محاولة للاصلاح لم ينضج برنامجها، تصر السلطة فيها على التركيز على الناحية الاقتصادية مع استبعاد الاصلاح السياسي او تأجيله. وهنالك قوى لهذا الاصلاح لم تتبلور بعد، في مواجهة قوى النظام القديمة والخبيرة بكيفية الحفاظ والمحافظة والكبح والعرقلة. القوة الاكبر للاصلاح تتمثل بالرئىس الذي لا يستطيع احد ان يتجاوزه، ولكنه في باب الاصلاح يحتاج الى مساهمات الاقربين والآخرين. قوى الجبهة هنا هي الاقربون، وهي التي يغلب عليها طابع المحافظة والعجز والتأخر... للأسف. بعضها يستطيع ان يكون غير ذلك، والحزب الذي نتحدث عنه من هذا البعض. لكن العادات والشيخوخة والتردد والمصالح البسيطة تمنعه من تجاوز هذه الحال، وتمنعه من السياسة وممارستها خصوصاً، وتفرض عليه حال المراوحة في المكان. الموضوعات المطروحة دلالة على المؤتمر المقبل في هذا المجال. هناك خمس عشرة صفحة في موضوعين: الجبهة والديموقراطية، مما مجموعه حوالى مئة وعشرين صفحة، هي ما كان يمكن ان يتضمن السياسة، ولم يفعل لك، خصوصاً اذا جمع الفصلان معاً ليكون مجموعهما "لعم". وهذه ليست مناصفة بين "نعم" و"لا"، فثلثاها نعم. وأخطر ما تحتويه موضوعة الجبهة هو الايحاء بأنها التعبير الجامع المانع لمفهوم التعددية، وهذا ما اصبح نافلاً حتى كما يبدو في تعبيرات قوى الاصلاح في النظام، وهنا تكمن روحها المحافظة. .... تبتعد هذه الموضوعة بزاوية انحراف عن تلك التي عنوانها "الديموقراطية"، باختلاف في الروح في شكل غير مباشر، ومع تلاقٍ ونفي متبادل في النهاية. حيث يحتوي نصف الموضوعة حديثاً نظرياً عن المفهوم، لا يكلّف واضعو المشروع انفسهم عناء القول إن هذا ما ينقصنا في البلد، في مواربة زائدة عن حاجة التقية، خصوصاً من حزب يكاد يكون شرعياً ومقونناً ومشاركاً في السلطة ومطلعاً على اتجاهات الاصلاح في النظام وضرورة تدعيمها. بعد الشرح النظري للديموقراطية معلقة في الهواء، تشرح الموضوعة دستور البلاد الذي استفتي عليه في اوائل السبعينات لتبيّن محاسنه وتعارضه مع بعض الوضع السائد بطريقة تكاد تكون غير مباشرة. وتكرر تعبير "القوى الوطنية التقدمية" مرتين في مجال الحوار حول التطور الحالي، وتلمّح الى انه حين يعود الدستور ويطبق تماماً وتنجز هذه المرحلة وتتهيأ الظروف "فستطرح الحياة على بلادنا وعلى قواها الوطنية التقدمية مهام جديدة"، في اشارة الى ضرورة الانتظار الطويل للدخول في باب التحديث الحقيقي، وفي تبشير بأن القائمين على التطوير الموعود في المستقبل سيكونون ضمن التصنيف العتيق المقلق والمغلق الذي يربط القوى بالصبغة التقدمية على الطريقة الشمولية القديمة. يتعارض هذا مع جوهر اشارة في باب الوضع الدولي الى ضرورة عدم قطع او اختصار التطور الاقتصادي الاجتماعي او الى تأثير ذلك على ما حدث من انهيارات في التجارب الاشتراكية. الحديث حول الوضع الدولي يشكل "موضوعة" حقيقية، وحول الوضع العربي نصف موضوعة غارقة في الجمل العامة السهلة هروباً من تقديم مادة مفيدة وعميقة وجريئة... والموضوعات الجزئية الاخرى مفيدة حول الشباب والنساء والتعليم والبيئة. ولكن النص بأكمله يهرب من مواجهة العناوين والمواضيع الحارة والملحة في المجتمع، ليعكس في الحصيلة غياب وتغييب السياسة من حياته. .... وضمن الطرائق القديمة في تفريغ القضايا وتحويلها الى كلمات منثورة عرضاً في السياق، يفعل واضعو الموضوعات بالمسائل الملحة امام المجتمع السوري. فالشمولية لا توجد لا في النص ولا في البلد، وغياب استقلالية النقابات المجمدة حيث اصبح بعض كوادرها من اهم قوى المحافظة على "المكاسب الاشتراكية" التي تضمن استمرار سيادة البيروقراطية السمينة التي يشاركها بعض النقابيين في "الادارة". هذه الاستقلالية تمر كلمة عابرة مخفية فارغة المضمون والدلالة في شحم الكلمات المحيطة بها. وهيمنة الحزب الحاكم على الادارة والاقتصاد ومن خلفه الاجهزة الامنية صاحبة الدور الحاسم، وقضية السجناء السياسيين، ليست مسائل تهم الناس الى حد يستوجب ذكرها في الموضوعات... وحتى دعم تيار الاصلاح لا يتجلّى الا بأشكال مواربة، في سياق التحفظات المحافظة والأنفاس القديمة. فكأنما ليس هناك تيار اصلاح يحتاج الى الدعم مباشرة وبالتخلي عن قوى الكبح والتعطيل، وكأنما هناك ايضاً حساب لهذه القوى يخشاها ويخشى سيطرتها في المستقبل بعد الماضي. هذا ما لم تكن المحافظة متجذرة في بنية احزاب الجبهة، التي كان الناس يلمسون في صاحب هذه الموضوعات بعض اختلاف واستعداد لتجاوز الركود فيها. الاكثر اهمية، ان الموضوعات المذكورة لا ترى في الحقل معارضة سياسية هي جزء من الشعب الذي تطمح الى تمثيله، ولا ترى من التعددية الا "الجبهة الوطنية التقدمية" و"القوى الوطنية التقدمية"، الباب لاستبعاد الآخرين والجدار امامهم وحولهم. في حين ان الطامح الى وضع افضل يدرك عملياً ان حريته مشروطة بحرية الشعب والآخر المعارض، وان حياته السياسية مشروطة بعودة الحياة السياسية الى المجتمع، وعودة المعارضة الى الضوء. فجاءت الموضوعات مثالاً عن تأثير غياب السياسة طويلاً عن المجتمع والشعب، وانعكاساً لحال الركود والتأطير في الصيغ النموذجية للاستقالة من النشاط الفاعل في الاوقات الحرجة .... * كاتب سوري.