تطوير مفاهيم التنمية السياسية وتجديدها، ابرز اشكالية يواجهها النسق الجبهوي السائد في سورية، اذ تقوم التنمية السياسية على الحزب بقدر ما تقوم التنمية الاقتصادية على المشروع. ويمكننا في ضوء استراتيجيات التنمية السياسية في سورية منذ الاستقلال وحتى اليوم، تنميط ثلاثة انساق اساسية متواترة لها، هي ما نصطلح عليه هنا وصفياً او اجرائياً بالنسق التعددي - التنافسي او "الليبيرالي" من الاستقلال عام 1943 الى سقوط حكومة الانفصال في 8 مارس/ آذار 1963 باستثناء فترة الوحدة او بعض فترات الحكومات العسكرية والنسق "الكلي" او نسق الحزب - الدولة من 8 آذار الى 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، والنسق "التضامني" او "الجبهوي" من 16 تشرين الثاني 1970 حتى اليوم. وبهذا المعنى فان النسق الثالث هو الاكثر دواماً واستمراراً في استراتيجيات التنمية السياسية في سورية، اذ ما يزال حتى اليوم يؤطر العمل "الحزبي" في شكل "الجبهة الوطنية التقدمية". يعود اول طرح لهذا الشكل الى الايام الاولى لحركة 8 آذار 1963، حين اعلنت الاطراف الوحدوية والناصرية التي شاركت بدرجات متفاوتة في قيام هذه الحركة ودعمها، عن تشكيل "جبهة قومية"، وهي: حزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة القوميين العرب، وحركة الوحدويين الاشتراكيين، والجبهة العربية المتحدة. الا ان هذه الجبهة انهارت في ساعة تشكيلها، ولم تتعد قط حدود الاعلان الاسمي او الشكلي. وأدى اخفاق انقلاب 18 تموز يوليو 1963 حركة جاسم علوان الثانية الذي قام به الضباط الناصريون، الى اقامة جدار من الدم ما بين البعث والناصريين. وعلى رغم ان المؤتمر القومي السادس للبعث 1963 نص على تشكيل جبهة تقدمية يقودها الحزب، فان الحزب سار في طريق احتكار السلطة. ورسخت النخبة "الشباطية" اليسارية الجديدة سيطرت على السلطة بنتيجة حركة 23 شباط/ فبراير 1966 داخل الحزب التي سيطر صلاح جديد على عقلها السياسي هذا الاحتكار، وعارضت بحزم اي شراكة سياسية معها في السلطة. ولم تشرك الشيوعيين والوحدويين الاشتراكيين في الحكومة الا بصفة فردية وليس بصفة حزبية، بدعوى وحدة القيادة السياسية. من هنا ما كاد معارضوها يشكلون في عام 1968 "جبهة القوى والعناصر الوطنية التقدمية في سورية" حتى قامت بحملة اعتقالات منهجية، لم تشمل معظم قيادات الجبهة ونشطاءها وحسب بل سائر المعارضين ايضاً، فعاد الصراع ما بين الشباطيين ومعارضيهم الى نقطة الصفر. وتفاعل هذا الصراع مع صراع داخلي آخر حاد نشب في الحزب ما بين التيار الذي يقوده اللواء صلاح جديد الامين القطري المساعد والتيار الذي يقوده الفريق حافظ الاسد وزير الدفاع، وامتزجت في الصراع قضايا عدة، الا ان محوره كان سياسياً ويرتبط بأسس سياسة الحزب والدولة في المعركة ضد اسرائيل اثر نكسة حزيران. وما يهمنا هنا من قضايا الصراع هذه، ان احدها كان تشكيل جبهة وطنية تقدمية في القطر. فقد تبنى الأسد في مواجهة جديد تشكيل هذه الجبهة، في سياق مفهومه القومي للمعركة، وما تتطلبه من تعاون عسكري وسياسي فعال ما بين سورية ومصر، ودعم التضامن العربي، واحياء الجبهة الشرقية بفتح حوار مع الشق الآخر من البعث الذي وصل حديثاً الى السلطة في العراق. وتدعيم الوحدة الوطنية في الداخل. وهو ما كان جديد يعارضه على طول الخط، بل ويدينه. الا ان ضغوط الاسد نجحت بالافراج عن قسم كبير من المعتقلين في حملة 1968. وادى احتدام الصراع ما بين التيارين الى نشوء ما يعرف في الحوليات البعثية بپ"ازمة الحزب". وقد ايدت القوى المعارضة بما فيها الاخوان المسلمون الأسد ضد جديد، وبحسم الأسد لهذه الازمة في 16 تشرين الثاني 1970، اصبح ممكناً له ان يطبق برنامجه الوطني، الذي يمثل تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية احد اهم اركانه. وقد تفاعل المجتمع السوري الذي تخلص من كابوس صلاح جديد وسلطته العاتية الى اقصى حد مع هذا البرنامج. على رغم ان مفهوم الجبهة كان نسخة محلية عن انماط الجبهات السياسية في اوروبا الشرقية، فانه تم هنا في سياق خاص هو سياق تشكيل "الحركة العربية الواحدة". كان عبدالناصر دعا في تموز 1963 الى قيام هذه الحركة، الا ان الدكتور جمال الأتاسي، الامين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي، طوّر مفهوم عبدالناصر لهذه الحركة نوعياً، حين طرح الجبهة الوطنية التقدمية كترجمة قطرية لهذه الحركة، لا تقتصر على الاطراف الناصرية وحسب، بل تتسع ايضاً لكافة الاطراف الوطنية والتقدمية غير الناصرية. والتقى هذا المفهوم بشكل تام مع مفهوم الأسد للجبهة، الى درجة ان الاتاسي هو المحرر الاساسي لميثاق الجبهة ان لم يكن قد كتبه من ألفه الى يائه. وقد فاق استعجال الاسد لانجاز تشكيل الجبهة، وتخطي التباينات الناتجة عن الميراث المر لفترة 1963 - 1970، استعجال الجميع، اذ كان حريصاً على تأسيس حكمه على شرعية سياسية جديدة تقوم على الشراكة والوفاق الوطني والسلم الاهلي وليس على احتكار السلطة. من هنا تشكلت الجبهة في هذا السياق في آذار 1972، وإثر حوار صعب من الاحزاب الخمسة وهي: حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ضمن لنفسه قيادتها واحتكار العمل في قطاعي الجيش والطلاب، والحزب الشيوعي السوري خالد بكداش وحركة الاشتراكيين العرب عبدالغني قنوت وحركة الوحدويين الاشتراكيين فايز اسماعيل. وعلى رغم ان قيادتي حزبين اساسيين هما الحزب الشيوعي السوري والاتحاد الاشتراكي العربي صوتتا بأغلبية صوت واحد لتشكيل الجبهة والتحالف مع البعث. فان الجبهة مثلت يومئذ ابداعاً سياسياً في الفكر السياسي السوري، الذي تلاشت فيه تأثيرات النسق التنافسي - التعددي "الليبيرالي" او كانت فعلياً بحكم المنعدمة، فكانت التجربة السورية هنا رائدة بكل المعايير في الاقطار العربية التي كانت تصنف عادة في الاقطار "الديموقراطية الثورية" او "طريق التطور اللارأسمالي"، بل وبالنسبة للأقطار الاخرى. واجهت اطراف الجبهة - باستثناء البعث الذي له وضع خاص - انقسامات داخلية افقية وعمودية حادة، الا ان درجة حدتها اختلفت ما بين حزب وآخر. وكان نصيب الحركتين الناصرية والشيوعية من هذه الانقسامات هو الاكبر، والاكثر تأثيراً على توازنات الحياة السياسية في سورية، ما اوجد في كل من الحزب الشيوعي السوري والاتحاد الاشتراكي العربي وحركة الاشتراكيين العرب جناحاً مشاركاً في الجبهة وجناحاً آخر معارضاً لها او خارجها. وقد اعلنت هذه القوى المعارضة في آذار 1980 عن نفسها في اطار "التجمع الوطني الديموقراطي" الذي ضمّ كلا من الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي رياض الترك والاتحاد الاشتراكي العربي جمال الأتاسي وحركة الاشتراكيين العرب اكرم الحوراني وحزب العمال الثوري امينه العام رسمياً العراقي حمدي عبدالمجيد وحزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي ابراهيم ماخوس او البقايا المحدودة للشباطيين. ويلاحظ في هيكل التجمع يومئذ ان جميع هذه الاحزاب اما انها احزاب ام او منشقة عن الاحزاب المشاركة في الجبهة. فلكل حزب في الجبهة تقريباً ما يوازيه من شحمه ولحمه ودمه خارجها. واصطدمت الجبهتان في ما يعرف بأزمة الثمانينات في سورية، على خلفية مضاعفات الصراع الدامي ما بين الاخوان المسلمين والسلطة. وهمّشت بنتيجة اصطدام الجبهتين قوة "التجمع"، ولم يبق من اطرافه الا "ركائز" او شخصيات اجتماعية، في الوقت الذي اخذ فيه وضع اطراف الجبهة - باستثناء البعث ذي الوضعية الخاصة - يضعف سياسياً وتنظيمياً ويتردى داخلياً في انقسامات وتشرذمات جديدة، فهناك اليوم في سورية آلاف الناصريين والشيوعيين الذين لم تستطع أحزاب الجبهة أو التجمع، كل لأسباب مختلفة، ان تطور آليات استيعابية مؤسسية لهم. فقد آلت الجبهة اليوم فعلياً إلى درجة دنيا من درجات حزب الواحد ونصف الواحد، وتحول بعض قياداتها إلى قيادات "تتعيش" من السياسة ولا "تعيش" لها بمصطلحات ماركس فيبر. بكلام آخر لم تعد هذه الأطراف بوضعها الحالي قادرة على حل اشكاليات التنمية السياسية في سورية والاجابة عن أسئلتها، في الوقت الذي يتطلب فيه حل تلك الاشكاليات، في سياق ضغوط ما يعرف اليوم ب "الموجة الديموقراطية الثالثة" في العالم ورياحها ونمو الحاجة الموضوعية إليها، تجديد النسق "الجبهوي" لمفاهيمه في التنمية السياسية، وتأسيسها على أساس معايير النسق التنافسي - التعددي في إطار سلطة القانون، وبما يضمنؤ مبادئ الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والشراكة السياسية، التي تبنتها استراتيجيات التنمية السياسية في سورية، كقاعدة مبادئ للعقد الاجتماعي - السياسي السوري. وتقابل هذه الحاجة الوطنية الموضوعية، لتجديد مفاهيم التنمية السياسية وآلياتها، مراجعة معظم الأطراف "المعارضة" بغض النظر عما تبقى منها بالفعل، لعملها على أساس "تصفية اثار الثمانينات وتعقيداتها"، وطي ملفها الكريه، واعلانها اسقاط كل وسائل العنف والارهاب من العمل السياسي، والتزام قواعد الديموقراطية والعلانية وسيادة القانون في الممارسة والمعارضة أيضاً. ويتطلب ذلك من جميع الأحزاب السورية أن تكتسب ما نسميه في نظرية الحزب السياسي بشكل "الحزب التمثيلي" والتخلي عن ميراث "الحزب التضامني" الذي لا تمثل لديه الديموقراطية سوى مركبة أو آلية للوثوب على السلطة، فالاستقطابات القديمة احتضرت أو تلاشت، والافراجات الأخيرة ليست مجرد اجراءات، بل قابلة إلى أن تتحول إلى انفراج سياسي. فالمسألتان الأساسيتان في سورية اليوم هما مسألتا مكافحة الفساد وإحياء المجتمع المدني، وهما مترابطتان بعمق، ويحظى حلهما بإجماع السوريين، وليس هذا الحل لمصلحة طرف أو فئة أو مجموعة بل لمصلحة سورية كلها، لأنها تحتاج إلى مستقبلها كله، الذي تكون فيه لكل أبنائها كما يكون كل أبنائها لها. * كاتب سوري