الجدل الدائر في دمشق حول الإصلاح السياسي جدير بالرصد والمتابعة. ليس فقط لأن سوريا تهمنا، وعافيتها من عافيتنا، ولكن أيضاً لان ما يجري هناك نموذج لحوار عريض تتردد اصداؤه في انحاء العالم العربي، بدرجة أو بأخرى. الأمر الذي يرشح المشهد السوري لكي يغدو مدخلاً للاطلال على مسار ذلك الحوار وآفاقه. (1) لست اشك في انك تدرك مدى دقة وحرج الموقف في دمشق، خصوصاً بعد انهيار النظام العراقي وفضح سجل حكم البعث هناك طيلة اكثر من ثلاثة عقود. ولا بد انك قرأت التقارير التي تواترت الاشارة فيها إلى ادراج اسم سوريا ضمن قائمة الدول المستهدفة ضمن المخططات الامريكية لما سمي ب: (اعادة رسم خرائط) المنطقة. اما لماذا هي مستهدفة، فلست اظن ان المشكلة في طبيعة النظام البعثي القائم هناك، بقدر ما انها كامنة - على الاقل بالدرجة الاولى - في موقف النظام من التطبيع والعلاقات مع اسرائيل، الأمر الذي يعني ان طبيعة النظام مجرد ذريعة لا اكثر. ولا تنس ان علاقة واشنطون بالنظام البعثي العراقي ظلت جيدة - رغم وحشيته المشهودة - طيلة سنوات الحرب ضد ايران. لكن الأمر اختلف حين تعارضت المصالح والاهواء، خصوصاً غزوه للكويت في عام 1990. ولئن ارتفعت الاصوات في دمشق بعد سقوط النظام العراقي مطالبة بالاصلاح السياسي وداعية إلى احياء دور المجتمع المدني، وهو ما جسدته المذكرة الشهيرة التي وقع عليها في الشهر الماضي 300 من المثقفين السوريين، الا ان ذلك ليس جديداً تماماً، لان تلك المطالب ترددت قبل ثلاث سنوات، عقب وفاة الرئيس حافظ الاسد في يونيو 2000. إلى ان تجددت الآمال بعد سقوط النظام العراقي، واصبحت الظروف -الخارجية على الاقل - مهيأة اكثر للاستماع إلى اصوات الاصلاح والتغيير. الظاهر حتى الآن ان ثمة صدى حذراً ومحدوداً لتلك الدعوات، تجلى مثلاً في القرار الذي اصدرته قيادة حزب البعث في 18/6 الماضي اكد ان دور الحزب - قائد الدولة والمجتمع بنص المادة 8 من الدستور - هو (التخطيط والاشراف والتوجيه والمراقبة والمحاسبة)، وانه لا دخل (للرفاق) بالعمل التنفيذي اليومي، (بحيث يتم اختيار الاكفأ والافضل بين المواطنين.. بغض النظر عن الانتماء السياسي). القرار فهم بحسبانه خطوة باتجاه تخفيف قبضة الحزب على السياسة والادارة وكان لافتاً للنظر ان صحيفة (تشرين) نشرت تعليقاً بهذا المعنى (في 9/7)، حيث قال احد كتابها - نبيل صالح - (ان الرأي الصائب هو ما يجب ان يقود الدولة والمجتمع. والرأي الصائب ليس حكراً على جماعة او تجمع او حزب دون غيره). وما لفت الأنظار في هذا الكلام ان الثقافة السائدة ظلت تقرر طيلة العقود الاخيرة ان الرأي الصائب هو ما يصدر عن (الحزب القائد)، وحين يجيء صاحبنا ليقول ان ذلك الرأي ليس حكراً على حزب دون غيره (حتى ولو كان حزب البعث)، فان ذلك يغدو كلاماً جديداً تماماً! (2) لم يكن ذلك هو الصدى الوحيد. وانما هاجمت بعض الصحف القريبة من دوائر السلطة دعاة الاصلاح والتغيير، في ثنايا نقدها الأوضاع القائمة. فقد نشرت صحيفة (النور) الناطقة باسم احد اجنحة الحزب الشيوعي تحليلاً قالت فيه ان (الكثير الكثير من ابناء الشعب يقلقهم أمران. الاول ان الحديث عن التحديث والتطوير هو اكثر من فعل التحديث والتطوير في وقائع الحياة اليومية. والثاني ان الادارة الامريكية ومن يتأثرون بها او يأتمرون بأمرها، جعلوا انفسهم دعاة التغيير الجذري، داخل الوطن السوري.. وعلى نطاق العالم العربي). في الوقت ذاته اصدرت زعيمة جناح آخر للحزب الشيوعي - وصال بكداش - بياناً انتقدت فيه دعاة التغيير، وقالت ان: قوى اليمين الرجعية تشن هجوماً على التحالف بين القوى الوطنية والتقدمية في البلاد.. وهي تتستر بشعارات زائفة ومطالب وقحة ابرزها حل الجبهة الوطنية التي تشكلت في العام 1972، في احزاب ناصرية وشيوعية بقيادة البعث. ونقلت صحيفة (الحياة) على لسان وصال بكداش قولها ان بيانها توجه بالدرجة الاولى إلى اولئك الذين يتحدثون عن المجتمع المدني بضبابية شديدة. واستطردت مضيفة: نحن مجتمع مدني وليس مجتمعاً عسكرياً! - (11/7). اذا تغاضينا عن الخطأ في مقابلة المجتمع المدني بنظيره العسكري، في حين ان المقصود بالمدني في الخطاب السياسي هو المجتمع التعددي (الديمقراطي) ، فان المتابع لما تنشره الصحف السورية يلاحظ أموراً ثلاثة في تعاطيها مع ملف الاصلاح السياسي، هي: @ انها تشارك بحذر شديد في الحوار الدائر حول الاصلاح، على نحو وصفه تقرير مراسل (الحياة) في دمشق بأنه محاولة لسحب بساط النقاش الصاخب حول الموضوع، الحاصل في وسائل الاعلام العربية من ناحية، وفي الشارع السوري بطبيعة الحال. ويتجسد ذلك الحذر في السماح بجرعات اضافية من الجرأة في نشر قرارات سياسية اصلاحية والتعليق عليها. وقرار قيادة البعث والتعليق عليه اللذان سبقت الاشارة اليهما نموذج لذلك. @ ان الهجوم على دعاة الاصلاح السياسي ركز على اتهامهم بأنهم متأثرون بالتوجهات الامريكية ومؤتمرون بأوامرها. وهي حجة تستمد قوتها من الادعاءات الامريكية التي استصحبت غزو العراق واحتلاله، رافعة شعارات الديمقراطية والتحديث وما إلى ذلك. ومن اعلان الادارة الامريكية عن تخصيص 40 برنامجاً لتعزيز الاصلاحات في العالم العربي، رصد لها مبلغ مائة مليون دولار. (البرنامج تشرف عليه اليزابيث تشيني ابنة نائب الرئيس الامريكي التي تخرجت في جامعة شيكاغو عام 96، وهي معينة الان في منصب نائبة مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الادني). ولعلك لاحظت ان التهمة ذاتها وجهت إلى الطلاب المتظاهرين في طهران، الأمر الذي يضعنا امام مفارقة لا تخلو من طرافة، تتمثل في ان الادعاء الامريكي بالدفاع عن الديمقراطية المشكوك فيه، اصبح يستخدم سلاحاً لضرب التوجه الديمقراطي الحقيقي في دول المنطقة. @ الملاحظة الثالثة ان خطاب الاصلاح السياسي يتحرك في حدود الاوضاع القائمة، دونما محاولة لتغيير اطارها العام. فقيادة الحزب وضعت سقفاً للاصلاح. (3) اذا خرجنا من الدائرة السورية، ونظرنا إلى الساحة العربية، فسيلفت انظارنا لاول وهلة ان رايات الاصلاح السياسي المرفوعة في مختلف العواصم، وسنجد ان هناك ثلاثة مستويات للتعاطي مع الموضوع. مستوى مستهجن ومرفوض، ينطلق من اليأس مما هو قائم، والمراهنة على التدخل الخارجي لفرض الاصلاحات، وذلك حاصل في عدد محدود من الاقطار قمعت فيها النخبة السياسية خلال ممارسات استمرت لسنوات طالت، ألغيت فيها السياسة تماماً. وكنت قد اشرت في حديث سابق إلى بعض المواقع على شبكة الانترنت التي عبرت عن تلك المراهنة، ولم تجد غضاضة في انتظار قوات بوش لتغيير ما هو قائم، وليكن بعد ذلك ما يكون. المستوى الثاني تبني الاصلاحات بدرجة او أخرى، ودخل اليها من باب الانتخابات الحرة (الكويت احدث نموذج لذلك، وهو ما حدث أيضاً في البحرين والاردن واليمن والمغرب) - وهذا المستوى مقبول بصورة نسبية، من حيث انه يتجاوز حدود اليأس ويوفر للناس أملاً في امكانية تطوير الممارسة وتحقيق المشاركة التي تستدعي المجتمع وقواه السياسية، وتقيم جسور الثقة والتفاهم بين السلطة والمجتمع. المستوى الثالث يبعث على القلق حقاً، لانه لا يجهض محاولة الاصلاح الحقيقي كما في النموذج الاول، ولا يفتح الباب لاحتمالاته كما في النموذج الثاني، ولكنه يمارس نوعاً من الالتفاف على الاصلاح، ويسوق ما يمكن ان نسميه (وهم الاصلاح). هذا الالتفاف يتخذ صورتين في الاغلب. بمقتضى الاولى تقام المؤسسات الديمقراطية ثم تفرغ من وظيفتها، بحيث تتوفر الهياكل والابنية وتغيب المشاركة والمساءلة وتلغى فكرة التداول. وهو ما يعبر عنه بعض الباحثين بقولهم انه بمثابة فصل للديمقراطية عن الليبرالية، بمعنى أن تبقى اللافتة الديمقراطية مرفوعة، في حين تستبعد قيمها وتعطل قوانينها. الصورة الثانية تتمثل في التركيز على الفروع دون الاصول في المشهد الديمقراطي. والاصول التي اعنيها هي الحريات العامة والمشاركة والمساءلة والتداول، اما الفروع فهي افرازات تلك الاجواء المتمثلة في المنظمات الاهلية، وما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني التي تعنى بحقوق الانسان أو المرأة أو غير ذلك. وهي الأنشطة التي لا تكون فاعلة او ذات جدوى، الا في اجواء ديمقراطية حقيقية. ان شئت فقل ان الديمقراطية هي (الحصان) بينما تلك الافرازات بمثابة العربة او العربات التي يجرها، والتركيز على الاخيرة دون الاولى هو بمثابة وضع للعربة امام الحصان! في هاتين الصورتين يفتقد الاصلاح السياسي الجدية. ولذلك وصفته في مقام آخر بأنه اصلاح (سياحي)، يقصد به المسايرة والتجمل وسد الخانات لا اكثر. والفرق الجوهري بين ما هو سياسي وما هو سياحي في الاصلاح، ان الاول يخاطب الداخل في حين ان الثاني يخاطب الخارج، بحيث يبدو وكأنه محاولة لملء بيانات (استمارة) الاصلاح. على نحو يوحي بانه استيفاء لاستحقاقاتها، لتقديمها إلى من يهمه الأمر. في الوقت الذي تظل الاوضاع المطلوب تغييرها مستمرة كما كانت، دون ادنى تغيير. (4) لقد تعامل البعض مع عنوان الاصلاح السياسي باعتباره (صرعة) الموسم، تم الترويج لها بعد ما جرى في 11 سبتمبر. حيث قامت الآلة الدعائية الامريكية بتبني تلك الدعوة وتسويغها لاسباب ليست خافية. ولعله في ذلك اشبه بصرعة (التعددية) التي اطلقت عقب انهيار سور برلين في اوائل التسعينيات، وما استتبعه من سقوط الانظمة الشيوعية في اوروبا الشرقية وانهيار الامبراطورية السوفيتية. آنذاك - لعلك تذكر - ظلت التصريحات السياسية والابواق الاعلامية تطنطن بشعار التعددية التي اعتبروها فريضة الوقت وتأشيرة الانخراط في مسيرة التاريخ. لان الريح كانت قوية آنذاك، فقد كان من الصعب معاندتها او اغلاق الابواب دونها. كما ان الولاياتالمتحدة لم يكن لها فضل فيما جرى، ولذلك كان متعذراً اتهام دعاة التعددية بأنهم متأمركون. ولذلك تراوحت المواقف ازاءها بين مستويين اثنين. فمن ناحية حاولت بعض دول العالم الثالث ان تنخرط في المسيرة الجديدة. ففتحت الباب للتعددية السياسية، وأجرت في ظلها انتخابات برلمانية، اسفرت عن انهاء احتكار السلطة وميلاد انظمة جديدة (وهو ما حدث في بعض الدول الافريقية). وتبنت دول اخرى نهج الالتفاف والاحتيال، فسمحت بقيام عدة احزاب سياسية، ووضعت لذلك شروطاً مكنتها من التحكم في الإجازة والمنع. الأمر الذي مكنها من الامساك بمفاتيح شرعية الحراك السياسي. واجرت انتخابات عامة (كانت نتائجها معروفة سلفاً). حتى بدا امام العيان انها استوفت الاشتراطات اللازمة للانخراط في الصرعة السائدة، في حين ان كل ما فعلته انها غيرت من ديكور المسرح السياسي، وقدمت ذات الفيلم القديم باخراج جديد. من ثم فقد بقيت العناصر الاساسية في المشهد - احتكار السلطة بوجه اخص - دون ادنى تغيير! وما زلت اذكر ان الابواق الاعلامية في احدى دول المغرب العربي ذهبت إلى ابعد من ذلك. فقد عمدت آنذاك إلى المزايدة على الجميع، قائلة ان النظام القائم سبق الجميع إلى فكرة التعددية، وانها في حقيقة الأمر ولدت في بلادنا. ولست انسى انني كنت وقتذاك في زيارة لاحدى الدول الخليجية، وذهبت إلى صلاة الجمعة، فوجدت الخطيب يقرأ خطبته من ورقة مكتوبة (علمت لاحقاً ان الخطبة تعدها الوزارة المعنية ثم توزعها على جميع المساجد)، ولفت نظري انه تطرق إلى التعددية مشيداً بها، لكني فوجئت بأنه كان يقصد تعدد الزوجات! (5) ان معاندة الاصلاح السياسي والتملص منه قد تمر لبعض الوقت، رغم انها بمثابة معاندة لحركة التاريخ تحاول ايقاف عجلته، لكن ذلك موقف يتعذر احتماله او استمراره طوال الوقت. بل هو ليس في مصلحة استمرار الاوضاع القائمة ذاتها. وقد رأينا في النموذج العراقي الثمن الباهظ الذي دفعه النظام حين تخلى عنه المجتمع ووقف صامتاً - وشامتاً أحياناً - وهو يراه يتهاوى ويندثر. اما الالتفاف حول الاصلاح السياسي بتفريغه من مضمونه او بالقفز فوق اصوله والتركيز على افرازاته وفروعه، فهو خطر من نواح عدة. اولها انه يعمق من ازمة الثقة بين السلطة والمجتمع الذي لن تفوته المفارقة بين ما يسمع وما يرى على ارض الواقع. وثانيها انه يدفع السلطة إلى زيادة الاعتماد على الخارج دون الداخل. اذ طالما ان التجمل واسترضاء الخارج هو الهدف، فان (القبلة) في هذه الحالة ستختلف جذرياً، بحيث يغدو الخارج في هذه الحالة هو سند البقاء والانصياع ومصدر الشرعية. اما ثالثة تلك الاخطار فهي ان التطلع إلى الخارج من شأنه ان يرتب التزاماً تلقائياً بأجندته واهتماماته، الأمر الذي يحدث خللاً في اولويات العمل الوطني، بحيث تتراجع هموم المجتمع الحقيقية (الفقر والامية والتخلف مثلاً) وتتقدم مقتضيات التجمل ومحاولات الاسترضاء لاستيفاء القائمة الطويلة من شرائط القبول والاعتماد. وذلك كله ليس قدراً مكتوباً، لكنه اختيار.