بين عامي 1970 و2000 حدثت تطورات كثيرة في العالم والوطن العربي وفي سورية أيضاً. وتستدعي المرحلة الزمنية الفاصلة بين هذين التاريخين وقفة جدية تقويمية للكثير من القضايا، ومنها حركية الأحزاب السياسية وتطورها وآفاق عملها القادمة! ففي 1970 قام الرئيس الراحل حافظ الأسد بحركته التصحيحية، وفي 2000 انتقل الى رحمة الله بالعزة نفسها التي جاء فيها الى السلطة. أي أن هذه الحقبة: حقبة الرئيس الأسد في التاريخ السوري اتسمت ببرنامجه وسياسته وسمات فكره الذي أرخى بظلاله على طبيعة الحقبة كلها. ولكن أيضاً جرت مياه كثيرة في وادي الفرات. لقد ازداد عدد سكان سورية كثيراً، وأصبح مع دخول العام 2000 يفوق ال16 مليون نسمة، وانخفضت نسبة الأمية، وتطورت البلاد على رغم أنها خاضت معارك كثيرة، وصار بإمكان أكثر من نصف السكان ملاحقة أحداث العالم وتطوراته من خلال الأطباق اللاقطة، لكن الأحزاب وحدها هي التي تراجعت، هي التي تؤرق قادتها وكوادرها الباقية كيفية العودة الى الألق القديم الذي كان يسم حركتها. وفي كل مرة يجرى فيها الحديث عن أجواء الحوار السياسي في سورية ومتطلباته، يتوقف الجميع عند نقطة واحدة هي: الديموقراطية والانفتاح السياسي وتوسيع الهوامش المتاحة أمام الأفكار والآراء المخالفة والمعارضة. وهذه مسألة مهمة جرى الوقوف عندها ثلاث مرات خلال العقود الثلاثة الماضية. مرة عندما تم الحوار حول قيام الجبهة الوطنية التقدمية في عامي 1970 و1971، ومرة عندما شكلت لجنة لتطوير الجبهة اثر تفاقم الصراع مع الاخوان المسلمين عام 1979. والمرة الثالثة في مطلع التسعينات بعد حرب الخليج الثانية وسقوط الاتحاد السوفياتي. وهذه المرة، يجرى الحديث عن المسألة نفسها، ويشارك في المطالبة آخرون من خارج سورية، وبتوجهات متباينة يجمعها القاسم المشترك الأهم وهو "حرية الحركة السياسية". لا بأس! فالحوار مفيد على كل حال، حتى لو لم يكن مجدياً في بعض اتجاهاته. إلاّ أن هذا الموضوع يفتح على قضايا أخرى كانت قد استجدّت، ولم تُدرس بعناية وانتباه، برزت مع مرور الزمن ثم أعطت بعض المستجدات والظواهر التي ينبغي استرجاع معانيها، ومن بينها: - الانشقاقات التي وقعت في الأحزاب التقليدية، وأعطت نماذج عدة من التجمعات والقوى والأحزاب التي تبلور بعضها واستمر، وتراجع بعضها الآخر، ثم تلاشى لظروف معروفة. وقد لمسنا هذه الظاهرة عند الشيوعيين والوحدويين الاشتراكيين والاشتراكيين العرب. - استغراق بعض الحالات في فوضى العنف، والمراهنة على الارهاب كشكل من أشكال العمل السياسي، أثبت عدم جدواه. ونذكر هنا تجربة المنظمة الشيوعية العربية وتجربة الطليعة المقاتلة. - ظهور أحزاب جديدة سواء من طريق فكرة "البديل" أو من طريق المراهنة على دور ما ضمن الطواقم السياسية العاملة. ونذكر هنا تجربة: حزب العمل الشيوعي في سورية الرابطة والكادر اللينيني وغيرهما. - انتقال بعض الأحزاب من مرحلة الكمون الى حالة النشاط الذي قد يكون ظاهراً وشبه علني: الحزب السوري القومي. وضمن هذه المعطيات التي استجدت في تاريخ الحركة السياسية السورية، يمكن الحديث عن ثلاث سمات مهمة هي: أولاً: تصاعد البنية التنظيمية لحزب البعث العربي الاشتراكي الى درجة خيالية بالمقارنة مع طبيعة الأحزاب الأخرى، حيث وصل عدد الأعضاء الى نحو مليون وأربعمئة ألف عضو كما ذكر إبان المؤتمر القطري التاسع. ثانياً: تراجع البنية التنظيمية للأحزاب الأخرى الحليفة للبعث، وحتى الأحزاب غير الحليفة، حيث وصل عدد الأعضاء الى المئات. وعند المبالغة يقولون: العشرات. ثالثاً: انخفاض حركية النشاط السياسي التي عرفت بها سورية على رغم ازدياد عدد السكان، وهذا الانخفاض يعود الى قناعات مفادها أن لا جدوى من العمل السياسي، وبعبارة أدق: لا جدوى من العمل في مثل هذه الأحزاب، أو هذه المرحلة. وقد يكون هذا نوعاً من "الإضراب السياسي المبطن" أو ربما كان نوعاً من الاطمئنان والركون الى الحال السائدة! ان مقارنة بسيطة بين عامي 1970 و2000 تكشف لنا أن عدد الأحزاب الموجودة في سورية كان خمسة عام 1970 اضافة الى جماعة الاخوان المسلمين. لم تدخل الأحزاب الكردية ضمن هذه الاعتبارات لخصوصيتها كما لم تدخل الفصائل الفلسطينية أيضاً، لكن هذا العدد تنامى وتضاعف في الأعوام التالية وصولاً الى العام 2000 ليعطي الصورة البانورامية التالية: 1 - حزبان شيوعيان في الجبهة الوطنية: خالد بكداش " يوسف الفيصل. 2 - حزبان للاشتراكيين العرب في الجبهة الوطنية: عبدالغني قنوت " غسان عبدالعزيز عثمان. 3 - حزبان للوحدويين الاشتراكيين: فايز اسماعيل " أحمد الأسعد أمين عام الحزب الوحدوي الاشتراكي الديموقراطي. 4 - حزب الاتحاد الاشتراكي العربي صفوان قدسي. 5 - الحزب السوري القومي الاجتماعي خارج الجبهة. 6 - حزب الاتحاد العربي الديموقراطي يوسف جعيداني - خارج الجبهة. 7 - الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي رياض الترك - خارج الجبهة. 8 - حزب العمال الثوري طارق أبو الحسن - خارج الجبهة. 9 - حزب البعث الديموقراطي ابراهيم ماخوس - خارج البلاد - غير ناشط. 10 - حزب العمل الشيوعي - الرابطة خارج الجبهة. 11 - حزب الاتحاد الاشتراكي الديموقراطي جمال الأتاسي حتى رحيله أخيراً - خارج الجبهة. 12 - حركة الاشتراكيين العرب عبدالغني عياش - خارج الجبهة. 13 - الحزب العربي الناصري. 14 - الحزب الوطني الديموقراطي كريم الشيباني - خارج الجبهة. 15 - حزب الاخوان المسلمين خارج الجبهة. وهذا اضافة الى حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يقود الجبهة الوطنية التقدمية في سورية منذ 1970. هذه الصورة البانورامية لعناوين العمل الحزبي تعطي أكثر من مدلول على نمطية التطور الحاصل في حركية الأحزاب، وإذا كان الكثيرون لم يسمعوا ببعض الأحزاب، فإن الكثيرين أيضاً يرقبون باهتمام سيرورة كل حزب ومعطياته البرنامجية حتى لحظة وقوفه، أو حتى الآن. وقد توقف الوسط السياسي في سورية مطولاً عند حالة الظهور العلني، للعديد من هذه الأحزاب، أثناء تأبين الدكتور جمال الأتاسي في أيار مايو الماضي، بحضور بعض المسؤولين من حزب البعث وأحزاب الجبهة. كما وجد هذا الوسط بإطلاق سراح كل من رياض الترك وأصلان عبدالكريم وفاتح جاموس خطوة ذات معنى تشبه خطوات أخرى أخذت تتوالى في سورية منذ اعادة انتخاب الرئيس الراحل حافظ الأسد للمرة الخامسة قبل أكثر من سنة. وعندما انعقد المؤتمر القطري الخامس، في أجواء وفاة الرئيس الأسد وانتخاب الدكتور بشار خليفة له، تنامت في الأوساط السياسية المحلية والعربية رغبات متباينة تتعلق بتفعيل النشاط السياسي السوري بشكل عام بشفافية عالية، وهنا طرحت نفسها مجموعة أسئلة ومعطيات حول هذا الموضوع: فهل المطلوب تفريخ مجموعة من الأحزاب من دون برامج موضوعية، وتحمل الأفكار نفسها التي ترفعها الأحزاب الموجودة؟ وهل المطلوب السماح بصحف لأحزاب الجبهة، أو صحف تختلف في الرأي؟ هل ستنضم أحزاب جديدة للجبهة، وما الذي سيجرى للميثاق الذي مضى على صدوره زمن طويل وتغيرت ظروفه ومعطياته؟ ثم هل هناك حاجة الى تطوير تجربة التعددية الحزبية الموجودة بحيث يصدر قانون للأحزاب يحدد حقوقها وواجباتها وشروط نشوئها؟ وربما فرض سؤال جديد مهم نفسه أيضاً: هل المطلوب من الأحزاب الموجودة مراجعة تجربتها والوقوف عند دروس الماضي والاستفادة منها؟! الأسئلة كثيرة جداً، وكلها تحاكي الواقع من قريب أو بعيد، لكن "النموذج السوري" في "حركية الأحزاب ونشوئها وارتقائها وانتهائها كظاهرة سياسية، له خصوصيته، ومن خلال هذه الخصوصية، تنشأ الأفكار الواقعية التي تؤسس لمستقبل أفضل يعمل الجميع فيه وفق النواظم التي يجتمعون عليها. وثمة ثلاث أفكار واقعية أمام الأحزاب السورية سواء تلك التي تعمل في اطار الجبهة أو خارجها، وهذه الأفكار تطرح نفسها ضمن المهام الملحة التي يحتاجها العمل من أجل المستقبل. وأول هذه الأفكار تلك التي تتعلق بصدور قانون الأحزاب. فصدور مثل هذا القانون ضمن حملة تحديث القوانين الشاملة في سورية، يعني الكثير، بل يشكل إذا ما صدر فعلياً، مفترق طرق تاريخياً للحركة السياسية السورية، لا تقل أهميته عن أية مادة أجمع عليها الشعب في الدستور. ولذلك يتطلب الإعداد لصدوره حواراً جاداً ومسؤولاً، يبدأ من استيعاب تجربة التعددية الجبهوية العتيدة، وصولاً الى انتقال واسع وفاعل وجدي الى دائرة التفاعل الحضاري بين مختلف الاتجاهات على أرضية الوحدة الوطنية وحرية الاختلاف. أما الفكرة الثانية، فتتعلق بالأحزاب الموجودة ووحدتها، وخصوصاً تلك التي تحمل البرامج نفسها، فلا بد من دفع القوى والاتجاهات الصغيرة الى الدمج لتتمكن من التعبير عن نفسها، والقيام بالحد الأدنى المطلوب من حزب أو تجمع سياسي وهو اصدار صحيفة له، إذا ما سنحت الفرصة لذلك في حدود ما يمكن أن يصدر من قوانين جديدة. ففي سورية، توجد أحزاب ناصرية كثيرة، وتتشابه أفكارها الى حد التطابق. كذلك يوجد أكثر من فصيل شيوعي، وأكثر من فصيل يحمل أفكاراً قومية، فما الجدوى من هذه التجزئة وهذا التشتت. وتتعلق الفكرة الثالثة بإمكانية نشوء أحزاب جديدة. فإذا كان الشيوعيون قد عبروا عن أنفسهم تاريخياً من خلال حزب شيوعي يعبر عن مصالح معينة، وإذا كان الناصريون قد فعلوا ذلك أيضاً، فما الذي يمكن أن يعبر عن الصناعيين أو التجار أو أنصار حماية البيئة؟ وهذه مسألة ليست مضحكة، ولا تبدو نافلة. وحتى في النموذج السوري العتيد جرت محاولة لأن يكون التمثيل في قيادة الجبهة لأكثر شرائح المجتمع وفاعلياته. ان من الضروري افساح المجال أمام ظهور تعبيرات سياسية مشروعة، تعبر عن نفسها ضمن القانون والدستور وتلتقي عند نقطة أو هدف واحد هو "المصلحة الوطنية العليا" و"حرية الرأي والتعبير".