الحرب على الارهاب لم تكد تبدأ، وسينتصر من ينتصر، وينهزم من ينهزم، لكن هناك الآن فائزاً محققاً هو قناة الجزيرة. يقول الأميركيون ان الانسان "يصل" عندما تذكره "نيويورك تايمز"، وإذا كان هذا صحيحاً فقناة الجزيرة وصلت بالتأكيد لأن الجريدة التي توصف بأنها أهم جريدة في العالم تحدثت عن قناة الجزيرة مرة بعد مرة، ووصفتها بأنها "سوبر محطة"، وسخرت من محاولات الادارة الحد مما تنقل الشبكات الأميركية عنها من تصريحات أسامة بن لادن ومساعديه. وسجلت "كريستيان ساينس مونيتور" في تحقيق طويل أهم ثلاثة أخبار في الحرب على الارهاب حتى الآن، وقالت ان الجزيرة تفردت بها. أما "واشنطن بوست" التي تنافس "نيويورك تايمز" نفوذاً وصدقية فقالت ان الجزيرة بثت "سبقات صحافية" تحسدها عليها الشبكات الأميركية الكبرى. في لندن تحدثت "الصنداي تايمز" عن انتصار الجزيرة ونصحت قراءها ان ينسوا "سي ان ان"، أما "الصنداي تلغراف" فقالت انها المحطة العربية التي أذهلت الغرب. ورددت "الصنداي تلغراف" و"واشنطن تايمز"، وكلتاهما يمينية منحازة الى اسرائيل ان الجزيرة عقدت "صفقة" مع أسامة بن لادن قبل 11 أيلول سبتمبر لبث بياناته. غير ان الجريدة الأميركية لم تفضح فقط توافق المصادر، بل فضحت سوء الصنعة، وهي تتهم مراسل الجزيرة من دون تسميته، فلعلها تقصد تيسير علوني، بعقد الصفقة، ثم تقول انه فر خائفاً من كابول قبل القصف، وان القناة اعادته اليها مرغماً. ولم تلاحظ الجريدة ان المراسل يطلق لحيته، وانه يتعاطف مع بن لادن وطالبان، ويحظى بثقة الاثنين. باختصار، كل صحيفة مهمة أو منتشرة على جانبي المحيط الأطلسي تحدثت عن قناة الجزيرة، وبعضها أرسل مراسلاً أو أكثر الى قطر ليكتب تحقيقات عنها. مع ذلك فموضوعي اليوم ليس قناة الجزيرة نفسها، وانما الديموقراطية على الطريقة الغربية، وركنها الأساسي، أي حرية الصحافة. في الولاياتالمتحدة الأسبوع الماضي اتصلت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس بأركان شبكات التلفزيون الكبرى، وطلبت الحذر في ما تنقل هذه عن الجزيرة من تصريحات بن لادن، بحجة انها اما دعاية لقضيته أو شيفرة لرجاله حول العالم للقيام بعمليات. وكرر الناطق بلسان البيت الأبيض آري فلايشر موقف رايس، ورفضت الشبكات الأميركية حتى الآن الموافقة، وقالت "نيويورك تايمز" ما خلاصته ان ذلك عذر لتحقق الادارة طموحها القديم بكمّ فم الصحافة. وبما ان السياسة البريطانية هي السياسة الأميركية نفسها، وانما متأخرة عنها، فقد طلبت الحكومة البريطانية هذا الأسبوع من محطات التلفزيون، بما فيها "بي بي سي"، الحذر من نقل تصريحات بن لادن، أو عدم بثها. ورفض الصحافيون البريطانيون الطلب هذا كما رفض الصحافيون الأميركيون طلب حكومتهم. الصحافي العربي لا يرفض طلباً لحكومته، فهي تطلب من باب "العشم"، وهو يقبل من باب المحافظة على صحته، بعد ان اكتشف ان الحكومة أكثر ضرراًَ بهذه الصحة من التدخين. غير انني ابقى مع الديموقراطية على الطريقة الغربية. الولاياتالمتحدة تحاول ان تصدر الديموقراطية الى العالم أجمع، وهي تحاول ان تصدرها الينا في شكل خاص لأننا لا نملك شيئاً منها، ولكن هل تريد الولاياتالمتحدة فعلاً، أو هل يناسبها ان نكون ديموقراطيين؟ قناة الجزيرة تعكس الشارع العربي، كما لا يعكسه اي تلفزيون رسمي، لأنها تتمتع بقسط كبير غير كامل طبعاً من الحرية الصحافية. والولاياتالمتحدة تشكو اليوم من ان الدول العربية لا تؤيدها بحماسة في حربها على الارهاب، ولكن لو سادت الديموقراطية كل بلد عربي، وعكست الحكومات رأي شعوبها بأمانة لما توقف الأمر عند عدم التأييد، بل لانتهى بالمعارضة الكاملة. وفي حين ان أسامة بن لادن طارئ على العلاقات العربية - الأميركية فإن الثابت فيها هو تأييد الولاياتالمتحدة اسرائيل، عدوة العرب والمسلمين، لذلك فالسؤال ليس ما تطرحه أميركا حالياً وهو "لماذا يكرهوننا؟"، وانما "كيف لا يكرهوننا أكثر؟". هذا الانحياز الظالم لإسرائيل لا يبرر ضربة الارهاب في 11 من الشهر الماضي، ولكن ربما جعلت الضربة الولاياتالمتحدة تفيق من سباتها، وتبدأ في العمل بجد لتسوية القضية التي بددت الرصيد الكبير من الود بين العرب الخارجين من الاستعمار الأوروبي، والدولة الجديدة المنادية بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وربما أنارت قناة الجزيرة الطريق الذي يجب ان تسلكه الولاياتالمتحدة في التعامل مع العرب والمسلمين، فالمشكلة هي مع السياسة الأميركية، قبل بن لادن وبعده. ووزير الخارجية كولن باول طلب من أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة تخفيف اللهجة "التحريضية" لقناة الجزيرة، غير ان المواطن العربي لا يحتاج الى تحريض ازاء السياسة الأميركية، وبقدر ما تفهم الولاياتالمتحدة هذه النقطة تقترب من حل مشاكلها معنا. في غضون ذلك، كل وزير اعلام عربي يفتح في مكتبه تلفزيونين، التلفزيون الرسمي وقناة الجزيرة، فعين على رئيسه وعين على الشارع، وهو يخاف ما قد تحمل الديموقراطية، الا ان للولايات المتحدة اسباباً أكثر للخوف من الديموقراطية العربية.