ان نكتب عن ف. إس. نايبول هو ان نتبيّن حدود الاضافة التي أدخلها الى الادب المكتوب بالانكليزية. إذ ان نايبول ليس فقط مؤلف عدد وافر من الأعمال الروائية وغير الروائية وقد يرقى بعضها الى مستوى ارفع ما كُتب من نثر باللغة الانكليزية في اي عصر. ولكنه الى ذلك، مكتشف في الادب ومؤسس. فالاكتشاف والتأسيس سمتان تلازمان مضامين اعماله بقدر ملازمتهما الموقع الذي يحتله الكاتب وينطلق منه. شاء نايبول، على ما يخبرنا في غير مناسبة، ان يكون كاتباً. غير ان هذه المشيئة لم تصدر عن معرفة بما سيكتب، وانما تبدو اقرب الى تبنٍ لرغبة والده المحبطة في ان يكون كاتباً في عالم لم تكن الكتابة والقراءة سوى من قبيل الترف النادر. كانت ترينيداد، على ما يصف نايبول موطن ولادته ونشأته "صغيرة، بعيدة وغير مهمة. وكنا نعلم ان ليس من أمل لنا في ان نقرأ الحياة التي رأيناها من حولنا في الكتب. كانت الكتب من عالم البعيد، وكان في وسعها تقديم الفانتازيا فحسب.. كنت امضي الى الكتب في سبيل الفانتازيا، في حين ان ما كنت اطلبه هو الواقع". وبما ان اعمال المخيلة الادبية التي قرأها نايبول في طفولته وشبابه المبكر لم تكن السبيل الى الواقع الذي خبره عن كثب، فهو اقتضى عليه، وخلافاً لما هو الامر بالنسبة الى جلّ الكتّاب، ان يكتشف واقعه بواسطة مخيلة مجردة من اي تراث ادبيّ. اما نتيجة هذه الحقيقة فيمكن ان نتبينها بجلاء منذ اعماله المبكرة. فلغة السرد الشفوية الطابع، والساخرة، التي توسلها نايبول في روايات مثل "المدلّك الصوفيّ" و"ميغل ستريت" و"منزل من اجل السيد بسوار" تبدو اقرب الى حصيلة ابتكار ذاتيّ للغة الواقع المقصود منها الى لغة التراث الادبي الاوروبي الذي انغمس فيه الكاتب منذ طفولته. ان كتابة الواقع، "الصغير والبعيد وغير المهم" والذي الى ذلك لم يكن موضوعاً لأية مخيلة ادبية سابقة، هي المهمة التي تولى نايبول القيام بها خلال حياته الادبية. وقد اقبل على انجازها إما من خلال صوغ درامي لما شهد وخبر، كما في جلّ اعماله الروائية، او من خلال الوصف والتقرير والتحليل غير الدراميّ الذي توسله في كتب رحلاته وريبورتاجاته الصحافية ومقالاته كما في "الرحلة الوسطى" و"المحجر المزدحم" و"الهند: حضارة جريحة" وغيرها، او من خلال صوغ سرد تاريخي لما يتوافر من وثائق كما في كتابه "خسارة الدورادو". وعمد نايبول الى اتخاذ بعض ريبورتاجاته الصحافية نفسها موضوعاً لرواياته، بما يدل على انه اتخذ من نفسه مادة سلفاً. فرواية "حرب عصابات" هي بمثابة صوغ قصصي لريبورتاجه الشهير والرائع "مايكل أكس ومقتلات القوة السوداء في ترينيداد". اما روايتا "في دولة حرة" و"منحنى في النهر" فيمكن ردّهما الى ريبورتاجه المثير للجدال، شأن جلّ اعماله من هذا القبيل، "ملك جديد للكونغو: موبوتو وعدميّة افريقيا". اتبع نايبول كلاً من هذه السبل المتباينة في صوغ الواقع المقصود كموضوع للمخيلة على وجه فرديّ عموماً. غير انه في مناسبات قليلة لم يتورع عن اتباعها جميعاً في عمل ادبيّ واحد كما في روايته "في دولة حرة" و"طريق في العالم" بما افضى الى ظهور لون من السرد "نايبولي"، اذا جازت الصفة، يتجاوز الحدود القائمة ما بين الاشكال النثرية، ولكن في الوقت نفسه يفترق عن جلّ محاولات التجديد الادبية الجانحة الى تطرّف شكلانيّ عموماً. ولئن كان نايبول مجدداً في النثر المكتوب باللغة الانكليزية، فهذا "تحصيل حاصل" كتابة تنطلق من موقع السعي الى الاكتشاف والتأسيس. غير ان هذا التجديد، كما الكتابة نفسها، لا يمكن رده الى سلف محددّ ولا سيما تلك التيارات والنوازع الادبية الحديثة التي استقام سعي التجديد عندها استجابةً لهمّ جماليّ. وهذا مرده، على الارجح، الى وعي نايبول الوجودي للموقع الذي يكتب منه. فشأن جلّ كتّاب المنفى، ثمة وعي وجودي طاغٍ عند نايبول يجعل الانغماس في تمارين التجريب الشكليّ ترفاًً غير متوافر له. يكاد الاّ يخلو عمل واحد من اعمال نايبول من دلالة وعيه الوجوديّ باعتباره، اولاً، الكاتب القادم من عالم "صغير وبعيد وغير مهم"، ثانياً انه مقيم في عالم تفصله عنه هوة لا يمكن ردمها، وثالثاً، انه يحاول الكتابة عن ذلك الواقع البعيد وغير المهم، متوجهاً الى جمهور لا يعلم من امر ذلك الواقع شيئاً يذكر ولا يبدو انه يكترث اكتراثاً كبيراً لكي يتعلم. يتجلى هذا الوعي وفق درجات متباينة من الظهور والدلالة: فهو قد يتجلى على صورة سيرة ذاتية او على صورة صوغ درامي للسيرة الذاتية او من خلال الإحالات المتكررة، ولا سيما في مقالاته وريبورتاجاته، الى ما هو ذاتيّ. بيد ان ما هو ابلغ دلالة في الإعراب عن مثل هذا الوعي انما يكمن في طبيعة السرد الذي يعود فضل ابتكاره الى جهد نايبول الذاتيّ. ادرك نايبول باكراً ان اللغة الانكليزية، وعلى رغم انها واسطة تواصل كونيّة، الاّ انها حينما تصل الى الادب فإنها تمسي لغة وثيقة الصلة بالثقافات المحلية والتقاليد الاجتماعية وسبل أو مناهج التربية والتعليم والولاءات السياسية. على هذا، فباعتباره الكاتب القادم من "اللامكان" والراغب في الكتابة عن واقع ليس بعد موضوعاً للتراث الادبيّ الانكليزي، لم يكن في وسعه الاستناد الى اساليب السرد المتوافرة باللغة الانكليرية، وما كان في ميسوره إرساء اسس لغة محليّة مكافئة للغات الشائعة والمتوافرة. فمثل هذا الامر لا يمكن ان يتحقق دفعة واحدة نتيجة جهد فرديّ، ولكن الاهم من ذلك، ان نايبول، سواء في ضوء اختياره الاستقرار كاتباً في انكلترا، ام في ضوء طبيعة علاقته بموطن ولادته ونشأته، فإنه لم يتمتع لحظة بحس من الانتماء التام يتيح له القدرة، بل والحق ايضاً، في إنشاء ادب محليّ صادق في مكافأته الواقع الذي كتب عنه. ومن الجدير القول إن نايبول ينتمي الى اقلية هندية جُلبت للعمل في ترينيداد في نهاية القرن التاسع عشر، وانه الى ذلك، اتسعت مع انقضاء الاعوام جغرافية الواقع الذي شاء الكتابة عنه حتى بات يشمل افريقيا وآسيا وانكلترا ايضاً. وفي ظل استحالة الانطلاق من تقاليد ادبية محددة، وفي ظل غياب مرجعية خارجية، كان لا بد للسرد عند نايبول من ان يطوّر مرجعية ذاتية، يُصار الى الاستناد اليها في الوصف والتقرير والحكم. ولعل في هذا تفسيراً لغلبة صيغة ضمير المتكلم في السرد الذي توسله في أعماله القصصية وغير القصصية على السواء. فحتى تلك الاعمال التي تتوسل صيغة ضمير الغائب، لا تعدم إشارات صريحة او ضمنية الى وجود "ذات" الكاتب باعتباره الشاهد الذي يروي. فمثل هذا الحضور دلالة بالغة على ذلك الغياب الكبير للمرجعية التعبيرية والاخلاقية. إلا ان اتخاذ الذات مرجعاً قد يسفر عن نتائج غير مريحة ايضاً. فالسرد اذا ما احتاج الى الذات كمرجع، حيث لا مرجع آخر له، قد ينقلب الى اداة لتعزيز حضور الذات وسلطتها ومن ثم تبرير احكامها. وبدلاً من ان يكون اداة لجلب ما هو غائب او مكتشف يصير وسيلة لتقرير الحقائق والحكم عليها حكماً يقينياً لا يتيح ادنى سبيل للشك فيها او تعريضها للفحص والجدال. مثل هذا الامر قد يجعل الكتابة اقرب الى التعبير عن جنون العظمة منه الى إدخال اضافة وإطلاق جهد. ولا شك في ان الكثير من مواقف نايبول السياسية، خصوصاً تلك التي لا يني يطلقها في مقابلاته الصحافية، ينمّ عن جنوح كهذا. لكن ما هو اشدّ مدعاة للقلق ان هذا الجنوح ادى الى توقفه عن كتابة الرواية. فلم يكتب نايبول خلال العقدين الماضيين سوى ثلاث روايات، واحدة منها فقط تستحق المقارنة بأعماله السابقة، وذلك إيثاراً منه لكتابة غير قصصية مثل "بين المؤمنين" و"الهند: مليون ثورة" و"أبعد من العقيدة". وهذه انما تنطلق من موقع ذات متضخمة لكاتب يزعم الحق في الوصف الاختزالي والمقاضاة التبسيطية ضد شعوب وتواريخ وثقافات وحوادث بالغة التعقيد وعصيّة على الإحاطة وخصوصاً في زمن تراجع المرجعيات المركزية. والتوقف عند احكام نايبول التبسيطية، والمتحاملة احياناً، إنما يعني الذهاب مذهب تلامذة مدرسة القراءة الرديئة ممن يختزلون العمل الادبي الى العبارة السياسية التي ينطق بها. ونحن اذا ما شئنا الوقوف على حدود اضافة نايبول الى الادب المكتوب بالانكليزية، بل والادب عموماً، فلا بد لنا من ان نضع جانباً حضور الذات المتعاظمة في اعماله، ولا سيما اعماله اللاحقة، ونمعن بالتالي في التحقق من الموقع الذي ينطلق منه هذا الكاتب الفريد الخبرة والإبداع. فمنذ روايته الأولى "المدلّك الصوفي"، او "ذات الراوي" التي جعل يطورها في اعماله، بدا نايبول وكأنه اختار الوقوف وحيداً في عالم يتعاظم إحساسه بضرورة تعريف هويته وولاءاته السياسية. ففي وقت كان متوقعاً من الكاتب القادم من المستعمرات الى الحاضرة ان ينضوي في جوقة المناهضين للاستعمار، ومن ثم المحتفين بتحقق الاستقلال الوطني، او في اقل تقدير، الاستجابة الى مناخ ليبرالي غربيّ لم ينِ يعرب عن إحساسه بالذنب تجاه السياسة الامبراطورية، اختار نايبول اسلوباً مضاداً للولاء بالتزام سياسي. فجعل الفكاهة الإطار الذي تجري فيه روايته الاولى، بل اعماله المبكرة عموماً، ولكن ليس بقصد السخرية من اهالي المستعمرة او الحطّ من شأن نمط حياتهم وتطلعاتهم وانما بغية الافصاح عن قلق لا يني يخامره حيال غياب الضوابط والحواجز التي تحول دون الانكفاء الدمويّ، على الارجح، الى حال الطبيعة. وخلافاً للكثير من الكتّاب المهاجرين والمنفيين فإن نايبول ما كان في وسعه ادعاء دور الممثل او السفير للبلاد التي التمس الفرار منها اصلاً. كما انه لم يستطع التعويل على سلف ادبيّ محدد. وهو ما كان في وسعه تحديد ولاء سياسي لكتابته بما جعله يقف موقف الوحيد. غير ان هذا الموقف لا يصدر عن رغبة في الحياد السياسي بقدر ما هو اشبه باحتكام الى رؤية ميتافيزيقية تعلو على الفهم التاريخي لحوادث العالم. وعلى رغم ان اعمال نايبول تدور في جغرافيات محددة تحكمها حوادث تاريخية ملموسة الاّ ان احتكامه الى رؤية ميتافيزيقية يجعل منهج الاستدلال من العلة الى المعلول امراً غائباً عن سياقه السرديّ. فهو اذا ما عمد الى سوق خبر تأريخيّ لما يجري او لما آلت اليه الامور، فإنه يبدو وكأنه يعرض لجملة من الحوادث المتلاحقة تلاحقاً لا يحكمه منطق العلاقة السببيه بالضرورة. واذا ما بدا السرد احياناً وكأنه يُنحي باللائمة على جهة ما لحدوث ما حدث، فإنه في نهاية المطاف يجمل الامر باعتباره مظهراً من المظاهر التي حتمت وقوع ما وقع. غنيّ عن الإضافة ان هذه الرؤية تشاؤمية وسوداوية على وجه قبليّ، وبما يحول دون تصوير الواقع الاّ من كونه آيلاً الى الانهيار. وهذا على الارجح مصدر إمعان السرد في البحث عن العوامل والمظاهر التي تدل على ان الانكفاء الى حال البربرية امر محتوم. خذ على سبيل المثال "تماسيح ياموسكرو"، وهو نصّ حصيلة رحلة الكاتب الى ساحل العاج في مطلع عقد الثمانينات. فعلى رغم ان الكاتب، او الراوي، يعي تماماً حقيقة ان هذا البلد نجا من كل الويلات التي ألمت بالبلدان الافريقية المجاورة منذ عهد الاستقلال، بل انه الى استقراره السياسي، أصاب من الازدهار الاقتصادي ما جعله مقصداً لآلاف المهاجرين واللاجئين، الاّ انك تراه الراوي مجدّاً في البحث عن الدلائل التي تنذر بالتفتت والانهيار: الفقر المدقع، الإيمان بوجود ارواح شريرة، الانغماس في ضرب من علم إناسة عبثيّ المعنى والجدوى، الحط من شأن الحياة المدنية عموماً... الى سوى ذلك من مظاهر تشي بأننا حيال عالم غير راسخ الاسس وغير متماسك، ما يدل على انه ليس بمنأى عن دوامة العنف التي ألمت بالكثير من المجتمعات الافريقية الاخرى. مثل هذا الإمعان في تقصي نُذر الشر غالباً ما يُحمل لدى اتباع مدرسة القراءة الرديئة على محمل الإعراب عن موقف "إستشراقي" يفترض مسبقاً ان بلدان العالم الثالث لا بد من ان تنتهي الى العنف والدمار الذاتيّ حتى وإن تمتعت بقسط من الامن والازدهار. غير ان من يمنح هذا النصّ الرائع من الاهتمام ما يستحق سيدرك ان الرجل إنما يسرد من منطلق الاكتشاف والتأسيس. "أُسافر" يقول نايبول، "لكي أكتشف الامزجة العقلية للآخرين. وإن كنت في سبيل هذه المغامرة الفكرية اذهب الى اماكن يعيش فيها الناس حياة ضيقة، فهذا ما تمليه جزئياً، خلفيتي الكولونيالية في ترينيداد. أذهب الى اماكن مهما كانت غريبة فإنها تتصل بطريقة مع ما اعرفه بالفعل، وحينما يبلغ فضولي الشبع، وحينما لا تبقى هناك مفاجآت، تنتهي المغامرة الفكرية وأمسي متشوقاً للمغادرة." ليس من قبيل المصادفة اختيار نايبول لهذا النص بالذات لكي يكون التوأم المكمّل لسيرته الذاتية في الكتابة. فهو لئن صرّح هنا بحافز الكتابة عنده وغرضها، فإنه يشدد على التواصل في الرؤية التي تحكم رؤيته الى العالم الواقع الذي شاء الكتابة عنه من موقع الواقف وحيداً في فضاء ميتافيزيقي لما هو مهدد بالانحدار والانهيار. على ان التشاؤم والسودواية اللذين يخترقان رؤيته هذه لا يرجعان الى حقيقة ان هذه الرؤية في طبيعتها ميتافيزيقية وعاجزة بالتالي عن انتهاج سبيل العقلنة العلمانية، وانما يرجعان الى إطباق الاحساس بالوحدة والغياب عنده. وفي إطباق هذا الاحساس ما يجعل الكاتب، او الراوي، مفرط الحساسية تجاه ادنى مظهر سلبيّ او مريب وبما يحضه في النهاية على حمله كدلالة على ان الامور تمضي ابداً نحو انهيارها. ومثل الاحساس، الذي تشي به روايات متباعدة الظهور "المقلدون" 1967، و"منحنى في النهر" 1979، و"لغز الوصول" 1987، يبدو كأنه متصل ومتأصل في سرد نايبول. فما يعرب عنه رالف سنج، بطل الرواية الاولى، يكاد سليم، بطل الرواية الثانية، ان يستعيده بحذافيره، وكذلك يفعل الراوي في الرواية الثالثة. فهم جميعاً ينظرون الى العالم باعتباره كياناً هشّاً آخذاً في التراجع او مقبلاً على الانحدار في اية لحظة.