الكاتب الروسي - الأميركي فلاديمير نابوكوف، المتعدد الهجرات، هو واحد من أهم المشتغلين على الأسلوب في القرن العشرين. فهو في سعيه لفهم "كيف يسجن الناس داخل الجنون، أو الهوس، أو داخل السجن الانفرادي اليومي لأرواحهم" شاء أيضاً أن يحرّر أسلوبه بل لغته، ممارساً هواية "المراوغة الفنية". وهذا ما أربك بعض قرائه. ونابوكوف يستعمل تشكيلة واسعة من الألعاب الأدبية من بينها التلميح، والتضخيم، والجناس التصحيفي، واللعب على الكلمات، فضلاً عن إدراج مقاطع من كتابات الآخرين داخل نصه. وقد رأى نابوكوف أن الكتابة مثابة عملية لعب متبادل بين المؤلف والقارىء. والصياغة عنده تجذب الانتباه الى ذاتها بشكل لافت، لكنها تأتي أيضاً لتعبّر عن عاطفة أصيلة أو لتقول شيئاً ما، وهذا يذكر بالتأثير الذي تركته لغة شكسبير على تولستوي. حياة من فرار فلاديمير نابوكوف، الذي تحتفي الأوساط الأدبية العالمية هذه الأيام بمرور مئة عام على ولادته، ولد عام 1899 في مدينة سانت بطرسبرغ التي كانت يومها عاصمة روسيا ومركزها الثقافي، فضلاً عن كونها نافذتها على أوروبا. والده السياسي الليبرالي والعالم بالجريمة زرع في أولاده حب العلم والتفكير الليبرالي ولا سيما أنه انتقد كلاً من الحكم الاستبدادي للقيصر وثورية البلشفيك، في الرابعة تعلّم الصغير الإنكليزية على يد مربيه، وكذلك درس الفرنسية وهي كانت لغة الأرستقراطية الروسية، بعد اندلاع الثورة البلشفية هربت العائلة الى جنوبروسيا، ومن ثم الى انكلترا. واللجوء الى المنفى تبدّى لاحقاً لدى نابوكوف على أنه خسارة وطن، وثقافة، ولغة. وللخمسين سنة التي ستلي شكّل المنفي وحيوية الذاكرة موضوعين رئيسيين في أعماله. في لندن بدأ نابوكوف دراسة الأدبين الروسي والفرنسي في جامعة كامبريدج، ولكنه كان لا مبالياً في دراسته حيث أنه لم يدخل مرة مكتبة الجامعة. ولكن حين اغتيل والده عام 1922 في تظاهرة سياسية في برلين، أصبح جديّاً، ونال شهادته الجامعية، ثم انتقل الى برلين التي شكّلت حينها قلب المجتمع الروسي المهاجر، وراح من أجل العيش ينشر القصائد والأعمال القصصية ويترجم لصحيفة روسية يومية، "الدفة" وكان والده ساعد في تأسيسها. بقي هناك سنوات عدة تزوج خلالها من فيرا سلونيم. ظروف الحرب أوجبت عليه السفر عام 1937 الى فرنسا فزوجته كانت يهودية. وبعد ثلاث سنوات فرّ من جديد، وهذه المرة، الى الولاياتالمتحدة هرباً من الاضطهاد النازي، وقد أصبح نابوكوف مواطناً أميركياً بدءاً من عام 1945، وشغل بين عامي 1948 و1958 مركز أستاذ الأدب الروسي في جامعة كورنيل في نيويورك. خلال شغله ذلك المنصب كتب عمله الفذ "لوليتا" 1955 الذي مكّنه من التفرّغ للكتابة. وفي عام 1960 استقر في سويسرا حيث تفرّغ للكتابة والاهتمام بالفراشات، ذلك الاهتمام الذي أخذه أيضاً عن والده. رواياته الروسية نشر نابوكوف روايته الأولى "ماشينكا" ماري في برلين. وفي هذا العمل طرح نابوكوف واحداً من موضوعاته الرئيسة، الواقع وأهمية الذاكرة. وتنطوي الرواية على حنين مهاجر شاب نحو حب تركه في روسيا. تحكي "ماشينكا" قصة غانين الذي ربطته علاقة حب قوية بماشينكا قبل الثورة. وأثناء إقامة غانين هذا في نزل مع مجموعة متبطلة من اللاجئين المنتظرين أخبار الوطن وامكان تغيّر حكومته، يتعرّف الى رجل هو بانتظار قدوم زوجته، التي تصدف أنها ماشينكا، من روسيا، وهذا ما يسلّم غانين الى أحلام يقظة على مدار أيام، مستعيداً في الذاكرة علاقة حبه القديمة. ورغم تخطيط غانين لاستقبال ماشينكا بدلاً من زوجها عند محطة سكة الحديد، إلا أنه يعدل فجأة عن ذلك مدركاً أن ذكرياته هي من أغلى ما يمكن أن يقدمه له الماضي، وأنه لا يستطيع أن يعيش من جديد أيامه مع ماشينكا. لذا يترك برلين وحيداً ليتخلص من تبطّله. وإذا كانت هذه الرواية تركّز على الواقع وأهمية الذاكرة، إلا أنها لا تشبه رواياته اللاحقة، فهي نتاج الحركة الرمزية التي تأثرت بالشاعر الرمزي الروسي الكسندر بلوك. ولعل "ماشينكا" هي الرواية التي أكثر ما تحمل رسالة واضحة من بين أعماله، حيث يرى البعض أن البطلة ترمز الى روسيا، والرسالة هي "ألا تنسوا روسيا، لكن لا تنتظروا منها أن تعود هكذا، تحرّكوا واعملوا"! لا بد من الإشارة الى أن روايات نابوكوف التي كتبها بالروسية حملت توقيع ف. سيرين لأن والده كان يستعمل اسم فلاديمير نابوكوف في كتاباته. واللافت في روايات نابوكوف الإبن في الروسية أنها أكثر ميلاً الى السيرة الذاتية وأقل شأناً من أعماله بالإنكليزية. ولكن لا يمكن نكران فضل هذه الروايات في مساعدته على صوغ تقنيته الأدبية، بمعنى أنه من خلالها طوّر فن الإلماح وإدراج مقاطع من أعمال الغير في نصه كوسيلة من وسائل فن السرد. والملاحظ في الروايات المكتوبة بالروسية، وكذلك في تلك اللاحقة، تركيز نابوكوف على شخصيات غريبة تتميز بإكراهات هوسية معينة وتتمتع بمخيلات جمالية معقدة وسعي محموم لمعرفة الذات، مما يجعلها غير متكيفة مع المجتمع. في روايته الثانية "الملك، الملكة، والولد" حيث أفاد نابوكوف من التقنية الأدبية المشار اليها، مسخراً في الوقت ذاته الحبكة والشخصية لصالح الشكل والأسلوب وتقنيات الإبداع، نقع على واحد من التنويعات النابوكوفية المتعددة على مثلث الحب لديه: امرأة أنانية تدعى مارتا تخطط مع حبيبها الشاب، فرانز، لقتل زوجها، غير المرتاب بشيء، وعمه. ويلاحظ في هذا العمل أن القوة التي تقرّر مصير مارتا هي المؤلف، حيث نلمس استغلال نابوكوف هذه القوة لتوجيه السرد والنهاية بطريقة غير متوقعة. أما في رواية "الدفاع" 1930 فيقوى حضور الشخصية الغريبة الأطوار. أستاذ الشطرنج لوزهين يجهد لاكتشاف كنه هويته عبر الشطرنج، فيؤدي ذلك الى فقده الاهتمام بزوجته وعائلته بعد تحوّل اللعبة الى هوس. وبعد نأيه بنفسه عن المجتمع وخسارته أرجحية عقله يقدم على الانتحار. ورؤيته الأخيرة الى العالم تكشف عن لوحة شطرنج هائلة حيث عليه أن يؤدي مباراة لا نهاية لها. الكتابة بالإنكليزية في نهايات الثلاثينات بدأ نابوكوف التجريب على الكتابة بالإنكليزية من خلال ترجمة روايته "اليأس"، المكتوبة عام 1934 بالروسية، الى الإنكليزية. وكونه غير متيقن تماماً من اجادته اللغة، طلب مساعدة الآخرين لإعادة قراءة الترجمة. طُرح عليه اسم ه.جي.ويلز، لكن التعاون لم يكتب له النجاح، وكذلك انسحب مرشح آخر معلناً عدم قدرته على القيام بالأمر. أخيراً وافقت امرأة انكليزية على إجراء التصحيحات ولكن بعد أن أنهت لائحة توصياتها بخصوص التغييرات المطلوبة، وجدها نابوكوف غير منطقية "فأي كاتب انكليزي يقترف العدد نفسه من الهنات النحوية" حسبما كتب الى زوجته فيرا. ولذا نشر الكتاب كما ترجمه هو. وتحكي رواية "اليأس" قصة رجل مصاب بالانفصام يقابل رجلاً يشبهه، فيخطط الانفصامي مع زوجته لقتل الرجل الآخر بغية الحصول على مال بوليصة التأمىن على الحياة الخاصة بذاك الرجل. لكن الخطة تفشل ويهرب الانفصامي الى فرنسا متهماً العالم بتجاهل دهائه وسعة اطلاعه وخبرته، متحوّلاً شيئاً فشيئاً الى مجنون. أما آخر رواية كتبها نابوكوف بالروسية فهي "الهبة" 1952 وهي تعتبر عمله الأهم في لغته الأم. فمن خلال ست قصص لا تجمعها علاقة تكاملية ظاهرة بعضها مع بعض، تقرب الرواية ما بين نقاط اهتماماتها كما حال قطعة فسيفساء واحدة تتألف من أجزاء متنافرة. يعمد نابوكوف من خلال متابعته نمو الإدراك الأخلاقي والفني لدى بطله فيودور غودونيف الى تناول مواضيع أخرى كالأدب الروسي، والحب، والسياسة. وقد اعتبر أندرو فيلد في كتابه "نابوكوف: حياته في الفن" أن رواية "الهبة" هي أعظم رواية أعطاها الأدب الروسي في هذا القرن. في عام 1941 ظهرت رواية نابوكوف الأولى بالإنكليزية "الحياة الحقيقية لسيباستيان نايت"، وفيها تخلى المؤلف عن الوقيع بإسم ف. سيرين، ليظهر تالياً كاتب أميركي جديد يسمى فلاديمير نابوكوف. تحكي الرواية الحافلة بالكثير من أخبار السيرة الذاتية والتلميح للعبة الشطرنج قصة راوٍ يكتب قصة حياة أخيه المهاجر الروسي سيباستيان نايت الذي قضى في ظروف غامضة. والهدف هو جلاء الشخصية الحقيقية لذلك الأخ. وبدلاً من أن تكشف السيرة المكتوبة عن تفاصيل حياة سيباستيان، تثير المزيد من الأسئلة. وتنتهي الرواية بالتساؤل عمّا إذا كان الشخص الذي يتابع الراوي قصة حياته هو أخوه حقاً. ومع أن نابوكوف كتب "سيباستيان نايت" في غرفة حمامه في باريس، إلا أنها نشرت في الولاياتالمتحدة عام 1941، وذلك بعد مرور سنة على وصول الروائي وعائلته الى نيويورك هرباً من رعب هتلر. قام نابوكوف خلال سنوات إقامته الأولى في أميركا بأعمال هامشية، إلا أن المامه بعالم بالفراشات أمّن له عملاً في متحف هارفرد لعلم الحيوان، ومن ثم أصبح محاضراً زائراً في ويلزلي كوليدج، الى أن انتهى به المطاف عام 1948 في جامعة كورنيل في نيويورك. والصورة التي ارتسمت عنه خلال تلك المرحلة هي صورة الأستاذ الملهم لطلابه، وإن بدا أحياناً غريب الأطوار. كان يلقي محاضراته اعتماداً على أوراق ورسوم بيانية معدّة بشكل جيد، وقد نشر معظمها لاحقاً في كتابه "محاضرات حول الأدب". كان من الممكن لنابوكوف أن يتابع اعطاء المحاضرات بهدوء، لولا نشر روايته "لوليتا" وهي قصة التعلّق المهووس لرجل خمسيني بتلميذة في الثانية عشرة. فقد حوّلته "لوليتا" بين ليلة وضحاها الى شخصية أدبية شهيرة عالمياً، لتغدو بدورها الرواية الأكثر إثارة للجدل في القرن العشرين، حيث كُتبت عنها آلاف الصفحات، بداية رُفضتْ "لوليتا" من قبل أربعة ناشرين أميركيين بسبب موضوعها الجنسي. وتالياً نُشِرتْ في فرنسا بواسطة "أولمبيا برس" المتخصصة بالأدب الجنسيّ. وما لبثت أن لاقت الرواية رواجاً، وراح السياح ينقلونها خارج البلاد، فطلبت الحكومة البريطانية من الحكومة الفرنسية مصادرة ما تبقى من النسخ. وكان أن حصل الروائي البريطاني الشهير غراهام غرين على نسخة، وكتب مقالة في "اللندن تايمز" ركّز فيها على لغة الرواية أكثر من محتواها، مشيراً الى أن "لوليتا" واحدة من أفضل عشر روايات لعام 1955. وقد أدى السجال حول الرواية الى زيادة شهرتها، فنشرت عام 1958 في الولاياتالمتحدة، وفي غضون خمسة أسابيع غدت الرواية الأكثر رواجاً، وبقيت على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في "النيويورك تايمز" لأكثر من سنة. تدور حبكة "لوليتا" حول النزعة العشقية لهامبرت هامبرت وهو برفسور وعالم جمال أوروبي في منتصف العمر، نحو دولوريس هايز، لوليتا، التي ينشغل بمطاردتها بغية التعويض عن خسارته حباً عزيزاً خلال مراهقته. ومن أجل أن يكون قرب محبوبته لوليتا، يتزوج من والدتها، ثم سرعان ما يجد حلمه يتحقق حين تموت الأم ليبقى هو المسؤول عن الإبنة، ويفاجأ هامبرت في ليلتهما الأولى وحيدين أن لوليتا أكثر خبرة منه في الحب. وتبلغ علاقتهما الغريبة التي تجعلهما يتجولان في أنحاء الولاياتالمتحدة ذروتها مع هرب لوليتا مع كاتب مسرحي، وانتقام هامبرت من غريمه. وبعد سجنه تبعاً لقتله منافسه يلجأ هامبرت لتطهير ذاته من خلال قص حكايته. وقد تمّ التحذير في المقدمة التي وضعها للرواية الطبيب النفسي الفرويدي الدكتور جون راي أنه لا يمكن أن تُغفر لهامبرت فعلته. كان نابوكوف روائياً عظيماً، سواء في أسلوبه الفريد أو في تأثيره على جيل كامل من الكتّاب، فضلاً عن قدرته على نقل الرواية الى متاهة شخصية جذابة. ولدى موته كتب ألدين ويتمان في "النيويورك تايمز" أن "رواية نابوكوف كانت مثابة تنقية عبر الذاكرة والفن لتجربته الخاصة كإنسان فقد أباه ووطنه لصالح ثورة عنيفة، ورجل تبنّى ثقافة أخرى وأتقن لغتها كما فعلت قلة من أبنائها، بيد أنه لم ينسَ أبداً أصله".