Christophe Jaffrelot ed. Le Pakistan. الباكستان. Fayard, Paris. 2001. 504 Pages. حتى عام 1933 لم يكن ثمة وجود في المعاجم للفظ "باكستان". فهذا التعبير الذي يعني حرفياً "بلاد الأطهار"، جرى نحته بصورة مصطعنة تماماً. فقد كان الشاعر الفيلسوف محمد إقبال، رئيس الرابطة الإسلامية في حينه، اقترح في عام 1930 مشروعاً لانفصال مسلمي الهند عن هندوسييها ولإنشاء دولة إسلامية من أقاليم الهند المأهولة بغالبية مسلمة: البنجاب والسند وبالوشستان واقليم الثغر الشمالي - الغربي. وبعد ذلك بثلاث سنوات استعاد الفكرة طالب مسلم في جامعة كامبريدج، وهو شاوذري رحمة علي، واقترح أن تسمى تلك الدولة باسم "باكستان" بتركيبها من الحروف التي ترمز إلى تلك الأقاليم الخمسة بعد إضافة كشمير إليها: ب رمزاً إلى البنجاب، وأ رمزاً إلى أفغان اقليم الثغر، وك إلى كشمير، وس إلى السند، و"تان" إلى بالوشستان. وبقي اقتراح كل من الشاعر والطالب حبراً على ورق، إلى أن تبنت الرابطة الإسلامية بصورة رسمية عام 1940 فكرة انشاء دولتين مستقلتين، علماً بأن الدولة التي ستعرف باسم باكستان عام 1947 ما كانت تمثل في حينه سوى 23 في المئة من مساحة الهند و18 في المئة من سكانها. ولعل مفارقة كبرى تحكم مولد باكستان المستقلة عام 1947. فالدعوة إلى الانفصال لم تصدر عن سكان تلك الأقاليم الخمسة المأهولة بغالبية مسلمة، بل عن الانتلجنسيا المسلمة التي كانت تقطن مناطق مأهولة بغالبية هندوسية، والتي كان هاجسها الأكبر التخوف من طغيان الأكثرية الهندوسية في دولة الاستقلال على الأقلية المسلمة. لهذا كان محمد علي جناح، الذي آلت إليه زعامة الرابطة الإسلامية، يقول: "إن أمتين، واحدتهما أكثرية وثانيتهما أقلية، لا يمكن أن تجتمعا في حضن دولة واحدة". ومن هذا المنظور يمكن القول إن باكستان كانت، مثلها مثل اسمها بالذات، عبارة عن "انشاء ايديولوجي". وتأكدت الطبيعة الايديولوجية لهذه الدولة عقب الانفصال مباشرة. فمقاليد الحكم في دولة الاستقلال تولاها، لا السكان الاصليون من مسلمي اقاليم البنجاب والبنغال وبالوشستان، بل المهاجرون النازحون من مناطق الغالبية الهندوسية، والذين قدر تعدادهم في حينه بسبعة ملايين مهاجر، استقر 3.6 مليون منهم في باكستان الغربية، حيث شكلوا عملياً نحواً من ربع السكان الاصليين البالغ تعدادهم 4.27 مليون نسمة. وتمثل طغيان أقلية المهاجرين بواقعتين اثنتين: اختيار كراتشي عاصمة أولى لدولة الاستقلال، واختيار الأردية الأُردو لغة قومية لهذه الدولة. فقد تم اختيار كراتشي، لا لاهور التي كانت تكبرها بثلاث مرات وتتقدم عليها بما لا يقاس من حيث عراقة التراث الإسلامي فيها، لأن كراتشي هي مسقط رأس محمد علي جناح، ولأنها هي المدينة التي تدفقت عليها أكبر أعداد المهاجرين حتى أمست نسبتهم فيها 57 في المئة من جملة سكانها. كذلك فإن الأردية، لغة المهاجرين، هي التي فرضت لغة قومية رسمية لدولة الاستقلال، على رغم أن عدد الناطقين بها ما كان يزيد على 6 في المئة، مقابل البنغالية والبنجابية التي كان ينطق بهما ثلاثة أرباع سكان باكستان فضلاً عن لغات أخرى مثل الباشتونية والسندية والبالوتشية. ولا شك في أن الطغيان الإداري واللغوي للمهاجرين لعب دوراً حاسماً في دفع سكان باكستانالشرقية، الناطقة أكثريتهم الساحقة بالبنغالية، إلى التمرد وإلى إعلان الانفصال عن باكستان الغربية ليشكلوا ابتداء من 1971 ما سيعرف باسم دولة بنغلادش 132 مليون نسمة اليوم، على حين أن باكستان الغربية ستظل متمسكة باسم باكستان 158 مليون نسمة اليوم. ولعل كل تاريخ باكستان، منذ نشوئها إلى اليوم، يقبل التفسير على ضوء التفارق ما بين ايديولوجيتها الدينية الوحدوية وهويتها الاثنية التعددية. فإن يكن البنغاليون، وهم أكبر مجموعة اثنية، قد اختاروا الانفصال مقدمين عامل الوحدة القومية الاثنية على عامل الوحدة الدينية، فإن البنجابيين، وهم ثاني أكبر مجموعة اثنية 19 مليون نسمة من أصل 76 مليون نسمة من اجمالي سكان باكستان الغربية والشرقية معاً، طبقاً لإحصاء عام 1951، اختاروا بالمقابل طريق التمايز العسكري والإداري والاقتصادي. فعلى رغم أن نسبتهم إلى اجمالي السكان لا يزيد على الربع، فإن حضورهم في الجيش يصل إلى 80 في المئة. كذلك فإن تمثيلهم في الإدارة، ودوماً طبقاً لإحصاء عام 1951، يصل إلى 55 في المئة. وبما أن البنجابيين هم تقليدياً شعب مزارع، بقدر ما هم شعب مقاتل، فإنهم يستأثرون بمصادر الثروة الأولى في باكستان التي هي في المقام الأول أيضاً بلد زراعي. فالبنجاب، المشهورة أيضاً باسم "بلد الأنهر الخمسة"، هي الضرع المغذية بالقمح والحبوب لباكستان الغربية بأسرها. واستفاد مزارعوها - ولا يزالون - من مشاريع الري الكبرى التي أقامها البريطانيون منذ 1880. وحصدت البنجاب أيضاً نتائج الثورة الخضراء لعقد الستينات، فتضاعف الانتاج الزراعي فيها بمعدل 9 في المئة سنوياً، أي ضعفي معدل النمو القومي، وبلغت حصتها في عقد الثمانينات 80 في المئة من اجمالي ورحبة الجرارات و88 في المئة من اجمالي الآبار الارتوازية في عموم باكستان. ولئن ظل مع ذلك مستوى الحياة في اقليم البنجاب الريفي أدنى بنسبة النصف من مستوى الحياة في اقليم السند - الذي استقر فيه المهاجرون - فلأن الاقليم الثاني يظل بالمقارنة مع الأول اقليماً مدينياً، تتركز فيه الإدارة والتجارة والصناعة الناشئة، فضلاً عن دفق المساعدات الخارجية. ومما زاد من شعور البنجابيين بالظلم، وبالتالي بالضغينة، كونهم استُبعدوا من المناصب العليا للدولة على امتداد السنوات العشر الأولى من نشوء باكستان. ولعل ذلك ما يفسر تحول باكستان من الحكم المدني إلى الحكم العسكري مع الانقلاب الذي نفذه الجنرال ايوب خان في 1958 والذي بادر إلى اعطاء الفلاحين البنجابيين سندات ملكية الأراضي الزراعية التي رحل عنها الفلاحون الهندوس والسيخ، وإلى نقل العاصمة من كراتشي، مركز ثقل المهاجرين، إلى روالبندي، وهي مدينة - ثكنة في شمالي البنجاب، ثم إلى آسلام آباد بجوارها. وبعد البنجاب جاء دور القومية السندية لتستيقظ بعدما تولى مقاليد السلطة ذو الفقار علي بوتو عام 1971. فالسنديون كانوا يشكون من هامشية وضعهم في الجيش الذي ما كانوا يشغلون سوى 2.2 في المئة من مناصبه القيادية، كما من هامشية وضعهم في الإدارة التي ما كانوا يشغلون سوى 7.2 في المئة من وظائفها. وبادر بوتو إلى اصدار قوانين تأميم طالت الشركات التي تعود ملكية أكثرها إلى المهاجرين، كما إلى إصدار قانون بترقية السندية إلى مصاف لغة قومية، مما أدى إلى اندلاع اضطرابات اثنية في الأقاليم الأخرى، ثم إلى سقوط بوتو نفسه في انقلاب عسكري جديد قاده هذه المرة الجنرال البنجابي ضياء الحق. وبما أن جميع هذه الصراعات الاثنية، الظاهرة أو الخفية، تحتاج إلى تغطية ايديولوجية، وبما أن الأساس الايديولوجي للدولة الباكستانية هو الدين، فإن كل تاريخ باكستان، منذ نشوئها، يحكمه مسار تصعيدي واحد: المزايدة الدينية. فجميع العهود المدنية والعسكرية التي عرفتها باكستان سعت باستمرار إلى المزيد من الأسلمة للدولة وللمجتمع، نظراً إلى أن الأسلمة كانت باستمرار أداة للشرعنة السياسية ووسيلة ناجعة للسيطرة على الانقسامات الاثنية. وليس من قبيل الصدف أن يكون "العلماني" ذو الفقار علي بوتو هو من أدخل على الدستور في 1973 مفهوم "الدولة الإسلامية"، وهو من أمر باغلاق الكازينوهات وحظر الخمور. وعندما خلفه الجنرال ضياء الحق عام 1977 بادر إلى المزايدة باستصدار "مرسوم الشريعة" الذي نص على أن أية محكمة باكستانية تستطيع أن تصدر أحكامها بالرجوع مباشرة إلى الشريعة من دون التزام بالتشريع الوضعي. ولم تستطع بنازير بوتو نفسها، على رغم صورتها كامرأة شابة وعصرية ومتخرجة من جامعات انكلترا والولايات المتحدة الأميركية، أن تخرج عن هذا النهج طوال الحقبة التي حكمت فيها 1988-1990 و1993-1996. والواقع أنه في عهدها جرى تمويل حركة "طالبان" وتسليحها لتمكينها من السيطرة على مصائر أفغانستان وتطبيق سياسة أسلمة متطرفة فيها. وصحيح أن موقفها هذا أملته أيضاً اعتبارات جيوبوليتيكية تتصل بالعمق الاستراتيجي الذي تمثله أفغانستانلباكستان في صراع هذه الأخيرة مع الهند، إلا أن تغليب العنصر الطالباني على سائر عناصر المقاومة الإسلامية في أفغانستان يعكس ميلاً ثابتاً في السياسة الباكستانية إلى المزيد من التجذر في التوظيف السياسي للدين. وبمعنى من المعاني يمكن القول إن باكستان غدت أسيرة ايديولوجيتها الإسلامية. فبدونها ستكف هذه الدولة، التي وصفها أكثر من باحث بأنها "مصطنعة"، عن الاشتغال. والسابقة البنغلادشية ناطقة الدلالة من هذا المنظور. فتحت نار الايديولوجيا الإسلامية يكمن الرماد القابل للاشتعال للنزعات القومية الاثنية. وبين فكي هذه الكماشة يبدو مصير باكستان معلقاً في شبه فراغ.