اقترن اسم لويس عوض بالعواصف يثيرها شخصه وكتاباته، وبشجاعة المفكر إذ يضع الحرية في مقدم كل شيء، يعلّمها في محاضراته الجامعية وفي مؤلفاته ومقالاته، وكذلك في ممارسته اليومية، فهو تعرّض للفصل من جامعة القاهرة العام 1954 مع أساتذة آخرين في تجربة مبكرة لريبة الضباط الأحرار بحرية الثقافة والمثقفين، ريبة كانت تبرز حيناً وتضمر أحياناً في تاريخ الثورة كله. كما تعرّض للاعتقال العام 1960 بتهمة الشيوعية، هو المعروف بمناخ فكري اشتراكي معتدل وبتعاطف ما مع الماركسية مترافق مع مرارة تجاه تجاربها في الواقع. وتعرّض لويس عوض لحملات تشكيك أغلبها عمومي ظالم وأقلها يستند الى تسرعه أحياناً في الحكم على شخصيات ونظم فكرية ومراحل تاريخية، ومن حملات التشكيك تلك المتعلقة بكتابته عن جمال الدين الأفغاني والمعلم يعقوب المصري المتعاون مع الحملة الفرنسية والساعي في الوقت نفسه الى وطنية مصرية مميزة عن المحيط العثماني، ووصل الأمر بالحملات لاحقاً الى محاكمة كتابه "مقدمة في فقه اللغة العربية" كحدث جرمي. ويمكن الاعتراف بفضل غير مباشر للويس عوض إذ دفع بمحمود محمد شاكر الى الردّ على آرائه في رسالة غفران المعري كتاب "على هامش الغفران" رداً قاسياً ومقذعاً أحياناً، لكن هذا الرد الذي طبع في عنوان "أباطيل وأسمار" هو واحد من روائع النثر الجمالي العربي. في مثل هذه الأيام من العام 1985 التقيت لويس عوض للمرة الأخيرة، انتظرني في "نادي السيارات" وسط القاهرة، وهناك أخبرني ما كنت أعرف من ان الاسم القديم للمكان هو "النادي الملكي". كان يحتفظ باهاب المفكر كما نتخيله في غير زمن، في حواريات اثينا أو في مساجد بغداد ولنقل أيضاً في أروقة الاسكندرية. وبسبب هذا الاهاب كان الرجل يبتسم لا يضحك، ويعف لسانه عن تناول الأشخاص كأشخاص بسوء فيكتفي إذ تناولت أحدهم برأي سلبي ان يوحي بتأفف من الرجل وان لم يقل أفٍّ، على رغم علمي بقلة تقديره لكتابات هذا الرجل التي تناولناها للحظة ثم انصرفنا الى شؤون الجلسة، ولن أذكر هنا طريقته الارستقراطية في تناول الطعام وانفتاح شهيته بما يوحي بحسية في التعاطي مع الطيبات، وهناك علمان اثنان يماثلانه في الشهية، واحد رحل عن عالمنا هو نزار قباني والثاني الحيّ هو سعيد عقل. معارك ومحطات "نادي السيارات" في قلب القاهرة الأوروبية التي ينتمي لويس عوض الى روحها الايجابية، فمنذ الطهطاوي تحاول مصر الانفتاح على جديد الحضارة من دون ان تفقد شخصيتها، بل ان الشخصية المصرية في عهودها الفرعونية والمسيحية والإسلامية والحديثة هي محل جذب لفكر وخيال الكثيرين مشرقاً ومغرباً، ومهما غامر المفكر المصري لويس عوض أو غيره، فهو يعرف انه يلعب فوق سطح ثابت وعريق، وان مجتمعه يتحمل الأخطاء الصغيرة للمغامرات الكبيرة، ولن تكون المعارك الأدبية والفكرية مع طه حسين كما مع لويس عوض وغيره سوى محطات تنبيه الى الأفكار الجديدة وتطويرها واستحضارها في حركة الثقافة. قال لويس عوض في جلستنا بالحرف: "القضية الكبرى التي يثيرها دعاة الأصالة هي أن استيراد الفكر والثقافة يحطم هويتنا ويفقدنا شخصيتنا، وهذا طبعاً كلام لا معنى له لأن رجلاً كطه حسين أو رفاعة الطهطاوي وما بين هذين الرجلين من سلسلة طويلة، كان شديد التفتح للحضارة الغربية والثقافة الانسانية، لكنه ليس هناك من يستطيع ان يطعن في أصالة أي منهما واستيعابه الكامل لتراث بلاده. ليس هناك من يشك في أن طه حسين كان علامة عظيماً في الإسلاميات وفي الأدب العربي، وهذا لم يمنعه من أن يعيش مع ديكارت واندريه جيد، بل على العكس من ذلك، ان صلته الحميمة بالثقافات الراقية منذ اليونان الى عصرنا الحاضر جعلته يوجه أشعة فكره الى الوجوه المضيئة في تراث السلف ويحاول احياء المدرسة العقلية". ولو نزل لويس عوض فور قوله هذا من نادي السيارات الى الشوارع المجاورة للمبنى للاحظ في مثل هذه الأيام من العام 1985 ان أكشاك الصحف تبيع كتباً بينها أكثر من خمسة تتناول طه حسين بالسوء وتتهمه بأقذع التهم. كانت المرحلة حساسة، وثمة جهات عدة واعية أو غير واعية كانت تتولى تصفية فكر النهضة المصري في ما يشبه حفلة اعدام جماعي، والتأسيس لمرحلة عانينا ولا نزال نعاني منها الى اليوم، هي تحالف رجال أعمال جدد مع الجماعات المتطرفة التي يتأمّر عليها قادة ضيِّقو الأفق. لكن لويس عوض كان متفائلاً، قال لي في نادي السيارات: "أريد ان أقول انني لست متخوفاً، كما يحدث للبعض، كلما رأيت هذا العدد الكبير من النساء المحجبات بعد مئة عام من دعوة قاسم أمين لتحرير لمرأة، فهي في الظاهر تبدو ردة ولكن في الظاهر فقط. أنا مطمئن الى مستقبل المرأة المصرية طالما وجدت النساء المحجبات يذهبن الى المدارس والجامعات ويلتحقن بالعمل في البنوك والشركات وفي دواوين الحكومة، هنا نكون قد حافظنا على لبّ الدعوة الى تحرير المرأة وهو العلم والعمل والاستقلال الاقتصادي، بما يحرر المرأة من العبودية للرجل ويمكنها من أن تنشئ أبناءها بإرادة مستقلة". عند لويس عوض الحرية قبل أي شيء، مع وعي بشروط هذه الحرية وعدم طغيان الشروط عليها لتخنقها أو تجعلها وعداً مؤجلاً الى الأبد. وهذا التمسك بالحرية جعله متهماً من رعيل كتاب قوميين وماركسيين في مرحلة اتسمت بشمولية واضحة، في عدد من الدول العربية، ولدى مفكرين وجماهير متضامنين في دول أخرى. ولم يقتصر التهجم عليه في صدد ما تطرح مقالاته ومؤلفاته، بل وصل الأمر الى مهاجمة اختياره لمنبر النشر، ونذكر هنا مساهماته في مجلة "حوار" التي مولتها المنظمة العالمية لحرية الثقافة ورأس تحريرها الشاعر توفيق صايغ. ولا أدري لماذا أحسست في وقت لاحق بأن كتاب "المبتسرون" للكاتبة التي انتحرت أروى صالح يندرج في طريقة اختطها لويس عوض في تناول الشأن الاجتماعي السياسي، تتجلى من خلال السيرة والعبارة الأدبية والمشهد الروائي أو المسرحي. في مرحلة من هذه الطريقة متقدمة فنياً نجد روايته "العنقاء/ أو تاريخ حسن مفتاح" شهادة فنية نادرة عن انقسام مجتمعاتنا بين أصيل ودخيل، معبّراً عنه بحدة وتطرف وتخييل من خلال احلام حسن مفتاح وتشريد أفكاره وتصوراته. لقد أثّر لويس عوض ويؤثر، ليس فقط لأنه رجل التحدي والضجيج مخطئاً أو مصيباً، بل لأنه كاتب يقدم المعرفة ممزوجة بحس انساني، وهو مزج لا يتاح إلا للموسوعيين الذين يقاربون وحدة المعرفة ويمزجون بين تقصي الباحث وحساسية الأديب المبدع. وفي فصول من كتابه "تاريخ الفكر المصري الحديث" نجد الاحصاءات وقد طلعت من الأرشيف الميت لتتحول كلاماً حياً ينبض بحركة شخصيات وحال مكان ومجتمع وعلاقات محلية واقليمية ودولية. الاستفزازي الشكّاك ومثير علامات الاستفهام، كان شبه وحيد، وأتخيله في وحدته تلك كئيباً، فهو من أواخر رعيل النهضويين بعدما آلت النهضة الى دول وأنظمة ثابتة ومصالح وشخصيات كاريزمية وجماهير، وبعدما آلت أيضاً الى اسم بلا مسمى، كبيت تركه أهله لا يستطيع السكان الجدد التحرك فيه بوضوح وإلفة. آخر النهضويين ولم يهتم، في ما ألاحظ، بسجالات الحداثة التي انتهت مثلما ابتدأت اسئلة تستولد أسئلة، وليس لها أصرة تشد الى الثقافة بمفهومها الاجتماعي العريض. كان لويس عوض في النهضة، التي تعنى باكتشاف الذات وعلاقتها بالآخر، الوطن وتفاعله مع المحيط، الانماء الشامل وصولاً الى الإنسان بل استهداف للإنسان. وفي النهضة تلك لا مكان لتقسيمات خلافية بين يمين ويسار فكلاهما يهدف الى النهضة، يلتقيان أكثر مما يفترقان. ولا أقصد باليمين هنا المحافظة انما النهج الديموقراطي الاجتماعي في النهضة. التقسيمات الخلافية أهلكت وأهدرت الكثير من وقت لويس عوض رداً مداوراً على من اعتبروه مفكر اليمين المصري والعربي المطلوب ردعه ومنعه، حتى إذا استطاعوا ذلك أو كادوا لم يبق أمامهم محاور، لم يبق سوى قاتليهم أي الذين لا يفهمونهم أو لا يريدون هذا الفهم أصلاً، لم يبق سوى الاستكانة القاتلة. مشروع لويس عوض هو مشروع النهضة المستمر الذي تتداخل ملابساته اليوم لا في الحداثة ولا في ما بعد الحداثة انما في العولمة الراهنة. عولمة نحتاج معها الى جرأة في الفكر ومسؤولية عن ذاتنا وعن العالم، فنحن في فترة ركود وإفلاس، صحيح، ولكن إذا لم نبادر قد تأتي ثورة غير مضبوطة بفعل ضغط خارجي بعدما سقطت الحدود بين داخل وخارج. وعلى صعيد اللغة فتجديدها المطلوب يأتي واقعياً من ركاكة بلا حدود تكرسها وسائل الإعلام وأناس غير معنيين باللغة أصلاً. وفي مجال غربلة الشخصيات والمنحنيات التاريخية يجري التسليم بالأدبيات القديمة المتناقضة، ومن هذه الأدبيات يتصاعد غبار حروب أهلية لا علاقة لها بحياة الناس، لكنهم قد يخوضونها بحماسة. والانفتاح الثقافي صار واسعاً في مرحلة ما بعد الكولونيالية، إذ يفقد الأدب والفكر الغربيان مركزيتهما ولم تتأسس بعد علاقات وتبادلات بين حضارات العالم الأخرى. والموسوعية... انها نادرة ندرة أشخاص منذورين لها. والاهتمام في الشكل والمنهج خنقتهما الخطابية الغوغائية أو حصرتهما في نخب وبعض جامعات. صار الناس متروكين للكلام المباشر والفن المباشر والفكر المباشر كيفما اتفق. أما تعدد مراكز الثقافة العربية فأفقد أياً منها وهجه ومرجعيته، على رغم عراقة لا تزال جذابة ومسؤولية لا يلبث أن يهتدي الى أصحابها البعيدون، لذلك قرأنا ونقرأ لويس عوض متفقين معه أو مختلفين. * كاتب لبناني من أسرة "الحياة". والنص شهادة القاها في مؤتمر عقده المجلس الأعلى للثقافة في مصر عن مشروع لويس عوض النهضوي.