من المسلّم به في ميدان تاريخ الأفكار ان الحداثة ترادف معنى المنظومة الفكرية التي تجاورت فيها اتجاهات، كالإنسانوية والعقلانية والتجريبية والعلمانية والتطورية والتاريخانية والتقنوية، وأن هذه المنظومة نشأت وتطورت في أوروبا، ابتداء من القرن التاسع عشر ثم ما لبثت ان اكتسحت العالم خارج مركزها الأوروبي: أميركا الشمالية، ثم اليابان، فسائر العالم. أما الحداثة العربية فنجمت عن اتصال فكري عربي بمصادر الفكري الغربي منذ قرن ونصف القرن، ابتدأ بالتقليد والاقتباس وتركّز بالاستلهام والتأويل والحوار والنقد. اي كل أنواع الاتصال التي يمكن ان ينسجها فكر مع فكر آخر يؤثر فيه. ولكنها في الوقت نفسه تحدرت من مشكلات خاصة بالمجتمعات العربية والثقافة العربية. مشكلات ما كان لحداثيي أوروبا قبل قرن ونصف ان يطرحوها لأنها لا تنتمي الى حقلهم التاريخي والثقافي. اجتاز الفكر العربي المعاصر لحظتين اساسيتين الأولى وتمتد حتى منتصف القرن العشرين كان فيها هذا الفكر إصلاحياً نهضوياً، والثانية تبدأ في الستينات من القرن الماضي، وكان هذا الفكر فيها حداثياً، بطرحه مسائل التمدن والحرية والدستور والعقل، وبتداوله إشكاليات الأصالة والمعاصرة القديم والحديث، الأنا والآخر. ولاستعادته المشكلات التي طرحها النهضويون ولكن على نحو مختلف يفكك بعض يقينياتها القديمة ويحرر بعض طروحاتها من دوغمائية العمى الفكري. يؤرخ عبدالإله بلقزيز في كتابه «من النهضة الى الحداثة» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت للمسائل التي طرحها رجال النهضة، ويتناول بالنقد والتحليل أبرز اسئلة الحداثة الفكرية: الدولة الوطنية، العلمانية، الحداثة، النزعة التاريخية، ويتوقف دارساً ممثليها الفكريين منذ الستينات حتى اليوم، في طروحاتهم ونقاشاتهم، وهم ناصيف نصار، أنور عبدالملك، ياسين الحافظ، عبدالله العروي، هشام جعيط، وعلي أومليل. يعتبر مؤلف الكتاب ان مفكري الحداثة الجدد تخصصوا في ميادين اختصاصهم أكثر من السابقين الذين تنوعت موضوعات اهتمامهم، واتسعت دائرة المسائل التي كتبوا فيها، وتداخل فيها الأدب بالنقد الأدبي، بالدراسات الاجتماعية والفكرية، وهو تخصص دفعهم الى تعمق اكثر في ميادين المعرفة التي اشتغلوا فيها، وإلى اتصال اوسع بمصادر الفكر. لذلك تميزوا بمنزعهم النقدي تجاه التراث والفكر الغربي فهم كانوا أقل اطمئناناً من سابقيهم الى معطيات المعرفة التراثية، وأقل انجذاباً بالمعرفة الغربية، أو استعداداً للتبشير بها. إن المنزع النقدي عند الحداثيين الجدد حررهم من ثقل التجاذب الحاد بين تيار الأصالة، والعصرنة، وحملهم على بناء رؤية حداثية تركيبية تنشد التقدم وتبني له صرحاً فكرياً بعيداً من فكرة النموذج الغربي، ومرجعية التراث العربي. من يقرأ كتابات الحداثيين الجدد على ما يذكر بلقزيز منذ الخمسينات (زكي نجيب محمود، وأنور عبدالملك) والستينات (عبدالله العروي وياسين الحافظ وهشام جعيط وناصيف ناصر) سوف يلحظ ان القيم الفكرية التي تأثروا بها، وعنها دافعوا، ومن داخلها فكروا وألّفوا، هي القيم التي كانت في اساس تقدم أوروبا والغرب والتي من رحمها خرجت أنظمة الحداثة السياسية والاقتصادية، والثورة الصناعية والتقنية والتقدم الاجتماعي، وسوى ذلك من الظواهر التي ترمز الى المدنية الحداثية، إنها قيم العقل والعلم والحرية والمواطنة والعدالة والتسامح، وهي ذاتها القيم التي أتت تحملها وتعبّر عنها نزعات في التفكير، وتيارات ومدارس كان منها العقلانية، والتجريبية، والتاريخانية، والعلمانية، والوضعية، والماركسية، والليبرالية وسواها. لم يتأخر الحداثيون الجدد كثيراً على استعادة الإشكالية التي طرحها رجال النهضة، وهي إشكالية التقدم: «ماذا نأخذ من الآخر، وما الذي نحافظ عليه من الموروث؟ هل الطريق الى النهضة يمر عبر الثورة على الاستبداد، ام عبر الإصلاح الاجتماعي، ام الإصلاح الديني؟ ما دور الدولة في عملية الإصلاح، وما دور المثقفين في التنوير؟ إذا دققنا اكثر في صيغ هذه الأسئلة وفي محتواها، لتبين بوضوح انها ليست اكثر من تنويعات لسؤال ضمني هو كيف نتقدم؟ انقسمت حوله النخبة الثقافية العربية الى قسمين: قسم فكّر من داخل إشكالية التقدم بمفردات إصلاحية اسلامية تخرج المسلمين من تخلفهم وتضخ الحياة في تاريخهم وتؤهلهم ليصيروا انداداً للغربيين، وذلك باتباع الطريق التي قطعتها أوروبا للخروج من ظلماتها وتحقيق مدنيتها الحديثة: سبيل العلم والحرية والدستور وفك أغلال المرأة ونشر التعليم والإصلاح الديني. في المقابل، انصرف قسم آخر من هذه النخبة الى الدعوة الى التمدن والنهضة اللتين لم ير من سبيل إليهما إلا بالقطيعة مع الماضي واستلهام المثال الأوروبي واحتذائه. منذ تعرّض الوعي العربي لصدمة الغرب على ما ينقل بلقزيز عن المفكر التونسي هشام جعيط، تبلور خطان ثقافيان كانا يحركان العرب المسلمين! «خط إصلاحي ذاتي بأوسع معنى الكلمة... وخط رفض مباشر للآخر...» بدأ الثاني سلفياً، لكنه انتهى الى ان يصبح احيائياً منذ حقبة ما بين الحربين. أما الأول فاستعار فكرة الإصلاح من داخل التجربة الحضارية الإسلامية، وعليه فإن النهضة العربية كما يوضح جعيط كانت سطحية وطالت اللغة حصراً دون الأدب. والأهم من ذلك كله قفزها من ماض قريب الى آخر أبعد في الزمن لاسترجاع الماضي في صفائه. ثم لا صلة لها بالإصلاح فهي أقرب الى الفكرة الأنوارية منها الى الإصلاح، وبخاصة ان الذين أفرغوا جهداً لتحقيقها ليسوا إصلاحيين مسلمين، بل من المسيحيين العرب في بلاد الشام. لقد مثل العصر الليبرالي العربي عصر لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين على ما يوضح جعيط فترة أنوار عربية بالنظر الى تأثير أفكار مفكري هذه الفترة في الأنتلجنسيا العربية اللاحقة، وخصوصاً دورها في علمنتها، ينقل عبدالله بلقزيز عن هشام جعيط قوله: «لكن المثقفين الليبراليين ما كانوا يشكلون وسطاً واسعاً، متماسكاً ومنسجماً على نحو كاف، بل كانوا سطحيين، ولم يبدوا إرادة دؤوبة على العمل لتأسيس العقل في قراءة الماضي بمجمله»؟ ان التشكيك بإنجازات النهضة على ما يذكر بلقزيز عن جعيط يلاقيه التردد عند المفكر التونسي من الحداثة. يعترف جعيط بأن ثمن الحداثة كان مؤلماً في كثير من الأحيان في المجتمعات نفسها التي أبدعتها، ويعترف بأن هذه الحداثة لم تقتلع قوى الشر في الإنسان والمجتمعات، لكن ذلك لا يسوّغ الاعتقاد بأن ولوج مغامرة الحداثة سيقود المجتمع والثقافة العربيين الى دفع ذلك الثمن من شخصيتهما، أي الى التضحية بهوية تاريخية مقابل حداثة ذات كلفة، أو غير مأمونة العواقب، إذ من قال ان هذه الهوية نفسها تقدم حلاً لمعضلة الانسداد التاريخي العربي. لا يكتفي هشام جعيط بالتشديد كما يذكر الباحث المغربي على ان الحداثة لا تهدد الهوية فحسب - خلافاً لما يذهب إليه مناهضوها - بل تمثل وعاء لاستقبال الهوية نفسها وتنميتها. وهكذا فالإسلام ينتشر اكثر فأكثر في العالم بسبب الحداثة وليس للاحتجاج ضدها. ومن يراقب اليوم استعمالات الإعلام الفضائي ومنظومة المعلوميات، وشبكة المعلومات الإنترنت من طرف المسلمين، يدرك الى اي حد بات في وسع الإسلام واللغة العربية ان ينتشرا اكثر، وإلى أي حد يستفيدان من أرقى إبداعات الحداثة: الثورة التكنولوجية والاتصالية والمعلوماتية، ما يقطع ببطلان الفكرة الذاهبة الى بيان وجه التعارض والتجافي بين الحداثة والهوية. إن كتاب عبدالله بلقزيز الذي يعنى بمطالعة فكرة الحداثة في وعي النخب العربية يكشف عن جهد اكاديمي مميز في تناول مسائل الحداثة، وينم عن نفس نقدي حاد يضع اليقينيات السائدة في موضع التساؤل.