ما هو الفكر العربي المعاصر، وهل فيه ما هو جدير بالقراءة والاستئناف، وما الأسباب التي دعت إلى قراءته ورفضه، أو الاحتفاظ به والرهان عليه من جديد؟ تناتج هذا الفكر، من ثلاثينات القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين، وبقي الجوهري فيه مقترناً ب «عصر النهضة»، الذي بدأ مع رفاعة الطهطاوي وانتهى مع طه حسين. ومع أن «الأيديولوجيات الثورية»، التي صعدت في أربعينات القرن الماضي، حملت آفاقاًً من الفكر النهضوي، فقد آثرت التمايز عنه باستعلاء، موازية شعارات «دولة الاستقلال الوطني»، التي قالت الوحدة العربية والاشتراكية وتحرير فلسطين. غير أن هزيمة حزيران 1967، محت التمايز المفترض وألقت بالفكر النهضوي والأيديولوجيات المتعالية عليه في مأزق، لا يزال مستمراً حتى اليوم ، كما لو كان «اغتراب النهضة» لدى البعض، سبب الهزيمة والخسران، أو كانت «تلفيقية الفكر النهضوي»، لدى دعاة تجاوزه، أساس الإخفاق الفادح الذي لا ينتهي. دفع «التمزّق الروحي»، الذي جاءت به الهزيمة، المثقفين العرب إلى مراجعة ثقافتهم المعاصرة، تجاوزاً لليأس أو بحثاً عن خلاص، مقدمين اقتراحات لا متكافئة: جاء عبدالله العروي بكتابه الرائد «الأيويدولوجيا العربية المعاصرة»، الذي أوغل في نقد الفكر النهضوي (محمد عبده وسلامة موسى وأحمد لطفي السيد...)، وأمر فكره النزيه بالتخفّف من الغلو لاحقاً. ونشر المصري أنور عبد الملك في «منفاه الباريسي»: أنطولوجيا الفكر العربي المعاصر، وأخذ محمد عبده الجابري على «الخطاب العربي المعاصر» فقر «ابستمولوجيته»، ... كان هناك أدونيس الذي حاكم، بلا اعتدال، «التلفيقية النهضوية» في كتابه «الثابت والمتحول». بيد أن توالد الأزمنة، وتحالف العرب والهزيمة تحالف الفم والأسنان، علّم بعض المثقفين شيئاً من الاعتدال، فتخلّوا عن «الثوري الصلب» وعادوا إلى «أبناء رفاعة»، بلغة الروائي المصري بهاء طاهر، فتأملوا طه حسين بوعي جديد (سعد الله ونوس)، أو كشفوا عن ريادة فرح أنطون في الدعوة إلى علمانية مبكرة (عبدالإله بلقزيز)، أو راهنوا على نهضة جديدة وتنوير جديد (جابر عصفور وماهر الشريف)، أو وضعوا محمد عبده في سياقه (عبد الله العروي). أصبح الفكر النهضوي، بعد تجذّر هزيمة حزيران ، مرجعاً ملتبساً للفكر العربي المأزوم، ينقده ويتطلع إلى تجاوزه (هشام شرابي) حليم بركات، مهدي عامل، وبعض ينقده ويتراجع عنه (عادل حسين ومحمد عمارة وبينهما حسن حنفي...) وطرف ثالث ينتمي قلقاً إليه (نصر حامد أبو زيد، برهان غليون، محمد جابر الأنصاري، نوال السعدواي...)، ورابع لا يروقه هذا الفكر أو ينتمي إليه بشيء من التحفّظ والحفيظة (عزيز العظمة وجلال صادق العظم وجورج طرابيشي...). والواضح في هذا التقدم والتراجع، اللذين لا تنقصهما المفارقات، أزمة لها وجهان: كان للنهضويين قضاياهم الفكرية التحررية المحددة (الكواكبي والاستبداد قاسم أمين وقضية المرأة، عبدالله النديم والهوية الوطنية)، قبل أن يصبح فكرهم «المتقادم» قضية الفكر العربي المأزوم، وكان للنهضويين اقتراحات تبحث عن أفق تحرري، قبل أن تراوح قضاياهم في زمن معوّق لا أفق له. يتكشّف، في هذا التحديد، وضوح الفكر النهضوي ومأساة مآله، وينكشف اضطراب الفكر العربي الراهن أيضاً، كما لو كان «تقدم النهضة» شرطاً لولادة فكر محرّر من الإعاقة والتكرار الضروري، ذلك أن الأسئلة التي لم تعثر على إجاباتها تظل صالحة في أزمنة مختلفة. لا يحيل هذا الوضع على «استنقاع فكري عربي»، وهو تعبير سخيف على أية حال، بل على المواجهة المستمرة بين إرادة الفكر النقدي وممكنات الواقع، لأن في الأخير ما يبعث على اليأس والمراوغة وأنصاف القول، وعلى المجابهة الصريحة أيضاً. تشكّل العناوين السابقة، في أشكالها الرئيسية والفرعية، موضوع الكتاب الطموح: الفكر العربي المعاصر - نقد ثقافي بمنظور مقارن - للباحثة اللبنانية إليزابيث سوزان كسّاب، الصادر هذا العام عن جامعة كولومبيا. وضعت الباحثة في كتابها مستويين: مستوى مباشراً يقرأ ويحلّل ويركب الفكر النهضوي، اعتماداً على استقصاء تعاقبي، إذ كل مفكر يستكمل بغيره وإذ الأفكار جميعاً، التي تستهل بالطهطاوي وتصل إلى هشام شرابي، تشكّل وحدة نظرية متعددة الوجوه تدعى: الفكر العربي المعاصر. أما المستوى الثاني، وهو مضمر تقريباً، فيتمثل بالرد على المستشرقين وأشياعهم (غوستاف فون جرونباوم والبير ميمي)، الذين يدعون بأن العقل العربي عاجز عن إدراك قضاياه، ولا فضول لديه للتعرّف الى ما يصوغ واقعه. أملى هذا البعد السجالي المضمر، المحكوم بانضباط منهجي دقيق، على الباحثة أن تقتفي الفكر النهضوي من بداياته الواعدة إلى نهاياته المهزومة، وأن تقبض على مقولاته الأساسية، وأن تفصح عن ديناميته، التي توزّعت بعد هزيمة حزيران على اتجاهات مختلفة. ولهذا حمل بحثها في علاقاته الداخلية بعداً إيضاحياً تفسيرياً وعبّر، بلا صخب، عن منطق «التساؤل النظري الملتزم»، الذي يرى في الموقف المحايد هرباً من المواقف جميعاً. ولعل هذا الالتزام، الذي تفصله عن «التورّط» مسافة قصيرة، هو الذي استولد القراءة الخصبة لمسرحية سعد الله ونوس «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران»، التي رأت فيها كسّاب «وثيقة نظرية نقدية»، تشرح أسباب الهزيمة. بعد مقدمة قصيرة شرحت «قلق الثقافة العربية»، الممتد من الوجود الاستعماري المباشر إلى احتلال العراق، وزّعت الباحثة موضوعها على حقب ومواضيع: حقبة النهضة بأسمائها الكلاسيكية، التي جعلت من مشروعها الفكري مشروعاً وطنياً اجتماعياً، يتلوها الفكر النقدي بعد هزيمة حزيران، الذي أعقبه خطاب يعالج الأزمة بمقولات مأزومة أشهرها: الأصالة والمعاصرة والحداثة والتقاليد، التي تبارك، غالباً، الواقع الثابت وتقترح علاجاً لا يأتي بشيء، كما أشار مهدي عامل في منتصف السبعينات الماضية. ولهذا كان على الباحثة أن تتوقف في الفصل الرابع أمام «جديد الواقع العربي الأيديولوجي»، الذي انتقل من الخطاب القومي والماركسي إلى «الخطاب الديني»، في أطيافه المختلفة، التي لاذت بها «الجماهير» والسلطات وصولاً، طبعاً، إلى خطاب دنيوي مجزوء دعت إليه «فئة متبقية» ينحسر أثرها الاجتماعي أمام «الاستثنائية العربية»، التي تُجانس «الشعب والسلطة» وتعطف الطرفين على ركود مريح. في بحثها الواسع المتشجّر، الممتد بين محمد عبده إلى محمد أركون وفرج فوده، ومن الكواكبي إلى فؤاد زكريا وبسام الطيبي، اقترحت الباحثة مبدأ المقارنة مبدأ أساسياً، يرصد الفكر العربي المعاصر في تطوره، الصريح والمعوّق معاً، ويضيء ما استجد فيه وما تقادم. ربطت، في هذا كله، بين تحوّلات الواقع العربي واستجابة الفكر النقدي، التي تأتي صائبة أحياناً وتضطرب بين الممنوع والمسموح حيناً آخر. لا غرابة أن يأتي النقد العالي الصوت من مفكرين لا يرتبطون ب «أجهزة الدولة الأيديولوجية» العربية، ذلك أن في المنفى، مهما كان سببه، حرية تدرجها السلطات بين المحرّمات. بيد أن البعد الأكثر جدة وتحفيزاً يتمثل في الفصل السادس من الكتاب، الذي اتكأ على «الدراسات ما بعد الكولونيالية»، وما توحي به، وعلى فلسفة الثقافة بعامة. ففي مواجهة هوية ثقافية عربية مأزومة، وخطاب ثقافي عربي لا يقل أزمة، توسّلت سوزان كسّاب مبدأ المقارنة، وألقت ضوءاً ضافياً على «قلق في الثقافة» عرفته ثقافات أخرى، لأسباب مغايرة. فقد اشتق الفلاسفة الألمان (نيتشه ودلتي وزمل ...) أزمة الثقافة من تصاعد الصناعة وتقدم التكنيك وتشيّؤ البشر، وهو ما دعاه جورج لوكاتش الشاب في كتابه «نظرية الرواية» ب «زمن الإثم الكامل، رداً على الحرب العالمية الأولى وتداعي القيم في المجتمع الرأسمالي. وإلى جانب الألمان كان للمثقفين في الولاياتالمتحدة أزمة أخرى ساءلت الفرق بين الأوروبي والأميركي. وإذا كانت جسور الوصال بين الفليسوف الأميركي والمفكر العربي أثيرية القوائم، فهي ممكنة مع «أوردة أميركا اللاتينية المفتوحة»، بلغة إدواردو غاليانو، التي تحيل على رغبة في التحرر من السيطرة الأميركية وبناء ثقافة وطنية تجمع بين الخاص والعام، وتوائم بين الوطني والكوني، ورؤى تحررية صاغها الشاعر الراحل أوكتافيو باث، والناقد الأدبي الماركسي اللامع روبرتو شفارتز والفيلسوف أنريك دوسل وصولاً إلى دعاة «لاهوت التحرير»... ولن يختلف الأمر في أفريقيا التي بحث لها ليوبولد سنغور، منذ زمن طويل، عن «زنوجة» رومانسية وساءل قضاياها لاحقاً ه. بولان، الذي تأمل «معذبي الأرض»، بلغة فرانتس فانون، وبحث لهم عن معنى للحياة يجمع بين الديمقراطية والحداثة والتحرر، وكتب انطلاقاً منها ، الروائي نجوجي واثنغو، كتابه «تحرير العقل من الاستعمار» وطرح أسئلة «فلسفة لغوية مستقلة».... في عودتها إلى نصوص فلسفية متعددة قوامها «أزمة الهوية الثقافية»، أرادت سوزان كسّاب أن تخفّف من «تشاؤم الفكر العربي»، فما يعانيه عاناه ويعانيه غيره، وأن تدعو إلى الانفتاح على نصوص «دعاة الحرية»، في عالم متعدد الثقافات ، وأن توقد شمعة ولا تكتفي بهجاء الظلام.