ربما كان من المفيد أن نعرف أنه في حين يحاول مهرجان بيروت السينمائي أن يجد لنفسه مكاناً في زحمة المهرجانات الدولية هو واحد من نحو 600 مهرجان وسوق سينمائية سنوية فإن الهدف الآخر الذي يضعه المهرجان نصب عينيه كل سنة، ومنذ دورته الأولى قبل خمس سنوات، هو فتح شاشات المهرجان نافذة على العروض العالمية من أجل إثراء المتعة الفنية والثقافية لدى هواة السينما. وكل هدف من هذين الهدفين مشروع. مهم أن يجد مهرجان "بيروت السينمائي الدولي" يختتم برنامجة مساء اليوم لنفسه مكاناً، وهذا أصعب الهدفين، ومهم أكثر أن تجد بيروت مثل تلك النافذة عبره خصوصاً مع طغيان افلام الموزع المتخصص بالعروض الأميركية. نظرة واحدة الى الأفلام المشاركة في دورة هذا العام كافية لندرك أن المسألة لا تحتاج الى أي قدر من الشك: الأفلام المعروضة هي مساحات تعبير عن ثقافات أخرى كانت صالات السينما في بيروت قبل الحرب تتبرع بعرض الكثير منها تجارياً. الآن صارت كلها بحاجة الى مثل هذا اللقاء الخاص الذي يجسده مهرجان بيروت الصغير - الكبير بكل ما لديه من طاقة في وقت ليس للسينما اللبنانية غالباً، سوى حصتها من الأفلام القصيرة الشبابية والطالبية. بإمكانات محدودة استطاعت المديرة المشرفة على المهرجان كوليت نوفل احضار مجموعة لا بأس بها من الأفلام العالمية. وانطلق المهرجان بحفلة افتتاح في الثالث من تشرين الأول اكتوبر الجاري بعرض الفيلم البوسني - البلجيكي - الايطالي "أرض لا أحد"، ومهّد لمشاهديه ببانوراما من الأفلام الحديثة الأخرى من بينها "فاطمة" لخالد غوربار تونس، "سنغال الصغيرة" لرشيد بوشارب الجزائر - فرنسا، "يللا، يللا" لجوزف فارس هولندا، "لون الفردوس" لماجد ماجدي ايران و"أ بي سي أفريقيا" لعباس كيورستامي ايران الى جانب مجموعة كبيرة من الأفلام القصيرة والتسجيلية اللبنانية. وفي حين نجد أن المجموعة المعروضة لا تشمل افلاماً من دول كثيرة، لا بد من النظر الى الإسهامات اللبنانية على نحو يحفظ اندفاع الكثير من السينمائيين اللبنانيين ونضارة التجربة التي يخوضونها وحبهم لها. كما في الاعوام السابقة، فإن الأفلام اللبنانية القصيرة والمتوسطة المعروضة وهي بين الروائي والتسجيلي وذات شؤون ومشاغل متعددة تمثّل طموحات فئة كبيرة من "المبدعين" الجدد الذين يحاولون دخول جادة العمل السينمائي على نحو او أكثر. معظم هؤلاء سيجد انه لا يزال في مكانه بعد خمس سنوات وربما أكثر. الذين جاؤوا قبلهم ادركوا النتيجة ذاتها. قلة منهم وجدت عملاً في هذه المحطة التلفزيونية او تلك، او استطاعت إنجاز فيلم آخر. كثيرون سيقفون عند طريق مسدود، وينضمون الى حشد سابق من زملائهم الذين وقفوا عند حاجز الإمكانات الضيقة او المعدومة أساساً. كل هؤلاء يمثلون مواهب مهدورة كان يمكن خلق جيل جديد منها حتى ولو تخلف نصف من فيها عن المتابعة لأنه حتى في أفضل الأحوال، هناك من لا يستطيع الاستمرار لأسباب مختلفة. واذ يتبلور مهرجان "بيروت السينمائي" كنافذة عرض لما تنتجه السينما المحلية من أفلام في عام او نحوه، فإن الضغط لإيجاد مخرج لهذه المواهب يزداد ولو أنه لم يشكل بعد، وفي ظل ظروف اقتصادية كتلك التي نعيشها، مأزقاً ملموساً. بل يحق للمرء أن يتساءل اذا ما كان سيشكل يوماً مأزقاً ملموساً او مؤثراً يدفع المسؤولين للاهتمام بصناعة سينمائية لبنانية هي دائماً مطروحة ودائماً واعدة ودائماً "ان شاء الله عن قريب"... لكن لا بد من البقاء في إطار المهرجان من دون الشطط في مداولاته واطروحاته، اذ ان حاجة اللبنانيين، او حاجة فريق منهم، الى متابعة ما يُحقق من أفلام لم تكن لترى النور لولا هذا المهرجان، ويمكن تحديدها بحجم الإقبال، لكن ليس به وحده. في الدورات السابقة كان هناك بيروتيون كثيرون والمهرجان ينطق باسم مدينتهم لا يعلمون أن هناك مهرجاناً قائماً. في واحدة من تلك الدورات على الأقل، كانت الصالة العارضة من الصغر حيث بدا كما لو أن الجمهور الداخل مر ب"فلتر" حتى لا يزيد عدد الحاضرين عن عدد المقاعد المخصصة. وعلى رغم اعلانات في الشوارع وحديث في الصحف، لم يبدُ أن المهرجان استطاع - وعلى نحو ثابت ومستقيم - تمديد فترة عروضه في اتجاهات أربعة مطلوبة ليفرض نفسه على الاهتمامات اليومية حتى على اولئك الذين يبحثون عن مثل هذه الفرص، عن الفيلم الايراني والفيلم الفرنسي والفيلم البوسني في طيات ما تفرضه شركات التوزيع من لون هوليوودي واحد. حماسة كوليت نوفل للسينما الايرانية نتج منها في العامين السابقين استقبال عدد كبير من انتاج تلك السينما التي كان تقديرها أحياناً أعلى من مستوى بعض أفلامها، لكن لا بأس. حماسة السيدة نوفل تقودها اليوم ايضاً الى استقبال عدد كبير من الأفلام الايرانية بينها واحد من أفضل ما قدمته، وآخر من أسوأ ما قدمته. "لون الفردوس" لماجد ماجدي واحد من تلك الأعمال التي لا تنسى، اذ يتحدث عن صبي أعمى في قرية وأعباء حالته تلك على والده الأرمل الذي يريد أن يهاجر ويتزوج مرة ثانية، وطريقه الى ارسال ذلك الصبي الى العمل على رغم عاهته وعلى رغم معارضة جدته والدة الأب. لكن المحور هو ذلك الصبي، رهافة حسّه وهو يستمع الى اوراق الشجر عند هبوب الريح، الى الريح نفسها حين تعلو وتنخفض، الى تغريد الطيور وخرخرة مياه الأنهر، الى نفسه التوّاقة لرسم الوان على مشاهد لا يراها. "لون الفردوس" من أنضج ما أنتجته السينما الإيرانية في السنوات العشر الأخيرة وأفضلها تقنية. والمخرج لم يكن عليه أن يحمل الكاميرا على كتفه ويهزها أفقياً وعمودياً ودائرياً ويأتي بغير المحترفين يشاركونه "التجربة"، بل حقق "فيلماً محترفاً" وكاملاً. بحث عن هوية لكن ما سبق لا يمكن أن يقال عن فيلم عباس كيورستامي الجديد "أ بي سي أفريقيا". من لحظة أن تفتح الكاميرا على ورقة فاكس مرسلة من الأممالمتحدة الى السيد كيورستامي طالبة فيها "نجدته" لتحقيق فيلم عن انتشار الآيدز في أفريقيا، نجد أمامنا مخرجاً نصّب نفسه موضوعاً لفيلمه. كيف تسلم المهمة وكيف انتقل الى المطار وماذا قال لسائق التاكسي وكيف نظر الى المدينة وأهلها ثم كيف دخل المستشفيات. هو في كل شيء ولو على حساب المعاناة. المعاناة الأكبر هي تلك الكاميرا التي يحملها والتي تذكرنا بأن الفيديو خرب عقول السينمائيين أكثر مما أفادهم فأطاح الصلب والمهني من العمل واستبدله بتكنولوجيا تجعل من الممكن تقديم صورة نظيفة او لا بأس بها حتى مع استبعاد العناصر الفنية اللازمة للعمل السينمائي الحقيقي. طبعاً لا ننسى أنه في هذا الفيلم يقدم لنا عائلة اوروبية يصل الحنان بها الى تبني بعض الأولاد الأفريقيين كما لو أن هذا هو الحل، او كما لو أن المخرج قرر مشاركة آخرين الدعاية. كيورستامي لم يكن دوماً مخرجاً مفضلاً عند بعض النقاد والفيلم التسجيلي المذكور يقدم السبب. أفضل منه فيلم رشيد بوشارب "سنغال الصغيرة": رحلة عكسية يقوم بها كهل أفريقي صوب اميركا للبحث عن أقارب كانت سفن العبيد نقلتهم الى القارة حين كانت جديدة. بحث مضن يقوده الى تحديد مكان امرأة من جيله تملك الآن محلاً صغيراً على ناصية طريق لبيع الصحف. هذا الكهل سيقنعها بالعمل لديها وسيواجه مشكلات مختلفة من بينها عنصرية السود الأميركيين على السود الأفريقيين القادمين حديثاً مثله. ما ينجح بو شارب في تقديمه هو فيلم صغير بأبعاد رومانسية واجتماعية كبيرة وتمثيل جيد مع بلورة خطه شبه الدائم في أفلامه وهو بحث أبطاله عن هوية خاصة حين يحطّون في أرض ليست لهم. السينما العربية، اذا استثنينا الأفلام التسجيلية وأفلام محمد ملص المعروضة الى جانب عدد كبير من الأفلام التي سبق وأن شاركت في مهرجان "الشاشات العربية المستقلة" الذي أقيم بنجاح في قطر مطلع العام، مفقودة في اتجاهين. مفقودة على صعيد صناعاتها المحلية اذ تمر الآن في أزمة خانقة تجارية وابداعية، ومفقودة على صعيد تنشيطها في هذا المهرجان. نعم هناك فيلم "فاطمة" الذي عرض وهوجم بشدة في مهرجان "كان" خارج المسابقة وهناك "سنغال الصغيرة" ولو أنه ناطق بالهوية الفرنسية ولا ينتمي في الموضوع او في التمويل الى الجزائر، لكن في مهرجان كهذا كان يجب أن يجد القائمون على المهرجان بديلاً كبانوراما لهذا المخرج او لذلك الممثل او حتى لمدير تصوير او كاتب. منذ البداية نجد أن المهرجان ابتعد من هذا الخط من العروض مكتفياً بما هو متاح من افلام الساعة، على رغم أنه لا يعتبر تنازلاً نوعياً وعلى رغم أنه كان - ولا يزال - مفيداً على صعيد توسيع قاعدة العروض وبالتالي قاعدة الجمهور او الحضور. السينما العربية ضرورية لمهرجان، حتى ولو كان ثقافياً وفنياً، بل حتى ولو أراد أن يكون نخبوياً وهذا ما لا يريده مهرجان "بيروت"، ليس لتوازن في الجهات الجغرافية والثقافية المعروضة بل أساساً لتأصيل العادة السينمائية الجديدة التي يحاول المهرجان القيام بها، في ثوابت وقناعات الجمهور العريض. طبعاً ليس من السهل جمع أفلام ممثل واحد او كاتب او مخرج، لكنه ليس أمراً صعباً ايضاً. يوسف شاهين يقول ان جمع أفلامه لتلبية هذا المهرجان او ذاك "وجع راس ... عليك أن تبحث عن النسخ النظيفة او الأصلية وأن تجد من يملكها وتقبّل يد هذا وذاك حتى يرضى باعارتها لك حتى تبعثها الى المهرجان الذي يطلبها"، لكنه يدرك أن هذا ضروري جداً، في الوقت الذي تعلم مهرجانات السينما أن العروض العربية ضرورية حتى في مثل هذه الظروف الصعبة التي تواجهها هذه السينما. بالنسبة الى مهرجان بيروت، فإن هذه الظروف الصعبة التي تواجهها السينما العربية هي مدعاة للقيام بدور ايجابي حيالها، حتى من باب عرض قديمها او الاحتفاء بمبدعيها الذين لا يعملون اليوم - اذا ما كانوا لا يزالون على قيد الحياة. نجاح مهرجان ما، من أكبر المهرجانات الى أصغرها، مناط بوظيفته ثم بشروط تطبيق هذه الوظيفة. من هذه الشروط، المدينة وخدماتها وحاجة الناس اليها والى مهرجان فيها، وهذه يمكن توفيرها. بل ان المخرج البوسني دنيش تانوفيتش أصر على حضور حفلة افتتاح فيلمه الممتاز "أرض لا أحد" قائلاً للكاتب حين التقاه في مهرجان "تورنتو" الأخير: "لا شيء سيثنيني عن الحضور. هذا الجمهور خبر الحرب الأهلية كما جمهور بلادي وهو الأولى بأن يرى هذا العمل وأنا سأكون سعيداً جداً بالوجود هناك". تبقى الوظيفة هي الأساس، واذا ما كان مهرجان بيروت نافذة اللبناني على السينما العالمية او ما تيسر له منها فإن عليه أن يسهم في تنشيط الوعي بتاريخ السينما التي ينتمي اليها على نحو او آخر. في مثل هذه الظروف التي تمر بها السينما العربية وتمر بها مهرجاناتها من حيث افتقارها الى قوة جذب عالمية، كما الى افلام عربية حديثة تعرضها، فإن كل حصاة صغيرة توضع فوق أخرى ستؤدي الى بناء بيت. ربما ليس قصراً، لكن بيت.