لا ريب في أن جميع القوى الوطنية والاسلامية الفلسطينية الموجودة على الساحة الفلسطينية في الداخل والخارج انخرطت فعلياً في الانتفاضة، كل من موقفه السياسي والايديولوجي وكل بحسب حجمه وفعله، وصحيح ان الجسم الشبيبي "الفتحاوي" وجميع القادة الميدانيين الذين راكموا خبرات نضالية في خضم الجهاد والنضال الوطني. وكفروا بكل ما حملت المرحلة السابقة من تداعيات، يلعبون دوراً بارزاً وأساسياً في حمل أعباء الانتفاضة الحالية، وتم ايجاد شكل تنسيقي القيادة العليا للقوى الوطنية والاسلامية يقود الانتفاضة، ولكن بعض التيارات العربية تهدف الى اختراق الانتفاضة، تحت دعاوى "وقف العنف والتهدئة والعودة الى طاولة المفاوضات"، والسلطة الفلسطينية على استعداد للتعاطي وبشكل أقرب الى الخضوع لمثل تلك المحاولات. ألا يمثل ذلك تناقضاً قد يشكل خطراً كبيراً على الانتفاضة اذا لم يتم حله بشكل يضمن حمايتها على المستوى السياسي؟ وسؤال آخر أكثر خطورة يُطرح على الرموز المنخرطة في فاعلياتها ميدانياً: لمن القرار في البت في الفعل الانتفاضي وتصعيده في مقابل استمرار تلك المحاولات أو وقفها؟ أهو للقيادة الميدانية أم للسلطة أم للاثنتين معاً؟ وإذا كان القرار يعود الى الميدانيين، فهل يستطيع هؤلاء اتخاذ قراراتهم بمعزل عن حسابات واعتبارات السلطة السياسية؟ وإذا كان الأمر غير ذلك، هل تستطيع السلطة توظيف تلك المحاولات لمصلحة شعار الانتفاضة، أم أن شكل تعاطيها يوحي عكس ذلك؟ وهل تستطيع السلطة ان توظف الانتفاضة لمصلحة رفع سقف المفاوضات وأن توفر شروط استمرارها في الوقت نفسه؟ تناقض آخر خطير يواجه الانتفاضة ويحتاج الى حل في هذا الاطار. ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى قد أعادتا الاعتبار الى الكثير من الشعارات الصحيحة، والقيم والمقولات الكفاحية، وطهرتا المجتمع الفلسطيني من الكثير من الشوائب السياسية والاجتماعية، وعمقتا الكثير من القيم الاجتماعية والدينية التي تساهم في توطيد وتقوية مناعة المجتمع الفلسطيني. فشعار "المرحلية"، على سبيل المثال لا الحصر، كان في يوم من الأيام أحد أهم الشعارات الكفاحية، وتناثرت الساحة الفلسطينية الى شظايا بسبب إفراغه من محتواه الكفاحي من قيادة منظمة التحرير التي اختارت خيار "الحل الذي يأتي من أميركا"، وليس نتيجة فعل نضال الشعب الفلسطيني المسلح والانتفاضي الذي ترسخه الانتفاضات في كل مرة. هذا الشعار، طرحته الانتفاضة وأعطته مضموناً "دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط، ومن دون التنازل عن أي من الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني"، وجعلت منه قاعدة أرضية راسخة وثابتة للوحدة الوطنية، ويستطيع من خلاله أي فصيل وطني أو إسلامي أن يتمسك بخطه السياسي والايديولوجي، ويساهم بكل ما أوتي في الفعل الانتفاضي. فهو وحده الكفيل بحل جميع الاشكاليات والتناقضات والمخاطر التي تواجه الانتفاضة وتحدق بمستقبل تطورها، وفي مقدمها استمرار المحاولات والجهود التي تستهدف وقفها أو اختراقها والالتفاف عليها. وانتفاضة الأقصى، والانتفاضات التي سجلها تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، هي فعل جماعي ينطوي على بعد عسكري، بالوسائل المتاحة والمتوافرة لدى شرائح وقوى وفصائل الشعب الفلسطيني المنتفض كافة. لكن ما يجمع كل انتفاضات الشعب الفلسطيني انها جميعاً كانت تضع في كل مرة "آلة العدو العسكري" أمام "اللحم البشري" وجهاً لوجه، وتدفعها الى وضع تناقضي أشبه ب"الورطة الاستراتيجية" إذا ما جاز لنا استخدام هذا التعبير العسكري. فإما أن تستخدم هذه الآلة كل ما لديها من أسلحة، من أجل مواجهة "الشكل السلمي للانتفاضة" وارتكاب المجازر، كما حدث ويحدث في بعض الأحيان، وتحصد المزيد من الفشل السياسي، وإما أن تستخدم الوسائل والخطط العسكرية المنتقاة بموازاة المحاولات السياسية التي تستهدف اختراق الفعل الانتفاضي. والكفاح المسلح برز ليشكل إحدى سمات انتفاضة الأقصى الأساسية، الامر الذي ترك أثره المباشر في أداء الخصم آلة العدو العسكرية. فما فتئ القادة العسكريون يتهيأون لمواجهة "حرب عصابات" على النمط اللبناني. فانتفاضة الأقصى قد استحضرت وبحق نموذج "حزب الله" في لبنان. وعلى رغم ذلك فإن ما يجمع عليه كثير من المختصين والكتّاب العرب والأجانب الاستراتيجيين هو أن الأشكال التي تستخدمها انتفاضة الأقصى لا تخضع حتى اللحظة لاستراتيجية واضحة ومتماسكة تضمن تحقيق شعارها السياسي. فكيف تستطيع السلطة أن توفق بين إصرار قوات الاحتلال على وجود أجهزة الأمن وعلى القيام بدورها بمحاربة "الارهاب ووقف العنف" وبين ما يطلبه قادة الانتفاضة الميدانيون لوقف عمل هذه الأجهزة، وحصر مهام الأجهزة الأمنية وقوات الشرطة التابعة للسلطة، بتوفير الحماية الأمنية الكاملة لمناطق السلطة، وحماية الأمن الجماعي والشخصي للمنتفضين؟ وكيف يستحضر البعد الاقتصادي المغيب تقريباً ويتم طرح رؤيا اقتصادية قادرة على استيعاب البنى الاقتصادية والمؤسسات الموجودة، والشروع في تأسيس أرضية مناسبة لبناء اقتصاد تكافلي يحمل آفاق التطور ليشكل مقدمات لاقتصاد وطني مقاوم؟ ان انتفاضة الأقصى وضعت الكيان الصهيوني وباراك، حتى الساعة، في موقع الخسارة. أياً كان قراره، وطريقة تعامله مع الانتفاضة، فإنها وضعته أمام ثلاثة خيارات، على ما يجمع بعض الساسة والعسكريين والبحاثة الاستراتيجيين في الكيان الصهيوني: 1- التسليم بشعار الانتفاضة دحر الاحتلال وإقامة الدولة ذات السيادة من دون قيد أو شرط. 2 - الاستمرار في اتباع الاستراتيجية الحالية على الصعيد السياسي، واستخدام العنف العسكري في مقابل كل عملية عسكرية تقوم بها الانتفاضة خارج سقف المواجهات العادية في الشارع وصولاً الى العودة الى طاولة المفاوضات والتوصل الى اتفاق جديد، وهذا ما كان يريده باراك ويرغب فيه. 3 - انتهاج استراتيجية التصعيد الشامل، بتوجيه ضربة عسكرية تستهدف الشعب الفلسطيني وانتفاضته وسورية ولبنان من أجل الخروج من أزمته التاريخية التي كشفتها وعمقتها انتفاضة الأقصى. * كاتب فلسطيني - دمشق.