تبدو مسألة فهم طبيعة التعارضات البرنامجية والسياسية في اطار منظمة التحرير الفلسطينية قضية شائكة لدى العديد من الأطراف الفلسطينية، التي انطلقت دوماً في علاجها لقضايا العمل المشترك من قاعدة "من ليس معي فهو ضدي" والزج بالتعارضات الثانوية ووضعها في مصاف التناقض الرئيسي مع العدو التوسعي الصهيوني. اخذت الجبهة الديموقراطية بمبدأ اخضاع كل التعارضات الفلسطينية، والفلسطينية - العربية لصالح التناقض الرئيسي مع العدو. وشاركت في كل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، حيث قدمت برنامجاً سياسياً يقوم على ضرورة حشد كل القوى، على اختلاف مواقعها الأيديولوجية والطبقية والحزبية، فلسطينياً وعربياً، ضد المشروع الاسرائيلي الصهيوني الذي بات يحتل كل فلسطين الانتدابية. كما كانت السباقة في حمل السلاح والمقاومة العسكرية ضد المحتلين وحماتهم المستعمرين من دون ان تقع في فخ الممارسات التعسفية التي قام اليمين واليمين القومي الانتشار في المدن العربية في دول الطوق، خطف الطائرات، عملية ميونيخ، احتلال السفارة السعودية في الخرطوم… الخ في مواقع العمل المختلفة مما سرّع بتنفيذ خطط ضرب المقاومة الفلسطينية المعدة مسبقاً والتي تنتظر لحظة التنفيذ. وبفضل البرنامج المحلي الذي قدمته الجبهة سنة 1973، الداعي الى تسوية سياسية تقوم على قرارات الشرعية الدولية، والذي اقره تباعاً المجلس الوطني الفلسطيني في حزيران يونيو 1974 وقمة الرباط العربية في تشرين الثاني نوفمبر 1974، تم تدويل القضية الفلسطينية بمساندة الاتحاد السوفياتي والدول العربية ودول عدم الانحياز، واصبحت منظمة التحرير، للمرة الاولى في تاريخ القضية الفلسطينية، عضواً مراقباً في الأمم المتحدة وممثلاً شرعياً وحيداً لشعب فلسطين. وشددنا دائماً على ضرورة وحدة الصف الفلسطيني في اطار ائتلاف منظمة التحرير وليس هيمنة فصيل ما ومصادرته برنامج الائتلاف. لذا، رفضنا اقتسام المنظمة بين جناح اليمين واليمين الوسط بزعامة ياسر عرفات وجناح اليمين القومي الفلسطيني جبهة الانقاذ آنذاك، على اثر الانشقاق الكبير في "فتح" عام 1983، واشتعال جحيم حروب المخيمات في لبنان والانقسامات المسلحة الحادة بن جناحي منظمة فتح في مخيمات سورية. وأصرّينا على اعادة الوحدة وفقاً لبرنامج سياسي جديد يتجاوز سياسة الهيمنة وتقديم التعارضات على التناقض الرئيسي والشعارات القومية الفضفاضة، ودخلنا في حوارات مع الجميع، تمكنا بعدها من الوصول الى اتفاق الجزائر - اليمن الشهير في تشرين الثاني 1984، الذي أعاقته المحاور العربية المتصارعة. وانتظرنا حتى نيسان ابريل 1987 في الجزائر حيث تمت اعادة بناء منظمة التحرير الائتلافية على اكتاف فتح والجبهة الديموقراطية والجبهة الشعبية والحزب الشيوعي الذي دخلها للمرة الاولى. هذه الوحدة شكلت الرافعة التاريخية للنضال الفلسطيني، وبعد شهور قليلة اندلعت الانتفاضة الكبرى في 9 كانون الاول ديسمبر 1987، وتشكلت قيادتها من القوى الفاعلة على الأرض من "فتح" والديموقراطية والشعبية وانضم اليها "الحزب الشيوعي" بعد ستة شهور من اندلاع الانتفاضة. وعندما انطلقت حركة "حماس" آب 1988 لم تنضم للقيادة الموحدة، وعملت منفردة بموازاة اركان القيادة الموحدة. الآن وفي ظل سنوات عجاف منذ توقيع اتفاق اوسلو الاول، نجد ان اتفاقات اوسلو تقدم مشروعاً مأسوياً للشعب الفلسطيني يقوم على: أولاً: "اسرلة" مليون فلسطيني داخل اراضي 1948. ثانياً: "أرمنة" الشتات الفلسطيني وتوجيهه نحو مصير الأرمن في بلدان الشتات حيث اندمجوا في المجتمعات ولم يعد بامكانهم العودة الى الوطن الأم ارمينيا بسبب مصادرة تركيا لمعظم الأراضي، واقامة جمهورية أرمينيا على رقعة صغيرة من الأرض لا تفتح آفاقاً للعودة اليها. ثالثاً: "الصوملة" نسبة الى الصومال، اي تشطير الضفة الغربية وقطاع غزة الى سلسلة من المربعات مطوقة بالمستوطنات وقوات الاحتلال. اتفاق أوسلو يطلُ ويشي بهذه الرؤوس السامة الثلاثة، كما أدى الى نشر وتوسيع الاستيطان لأنه لا يشير تصريحاً او تلميحاً الى وقفه، اضافة الى الاسراع في تهويد القدس. كما ان اتفاق واي ريفر فرض شروطاً جديدة، منها الغاء ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية وقانون مكافحة التحريض كم الأفواه. الجبهة الديموقراطية، كتيار وطني ديموقراطي فلسطيني وحدوي مسؤول عن مصير الشعب والوطن الى جانب كل القوى الوطنية، رفضت منذ اللحظة الاولى مظالم اوسلو وسياسة الخطوة خطوة الكيسنجرية التي لم تؤد الى السلام الشامل على الجبهتين المصرية والسورية، ولن تؤدي الى السلام الشامل المتوازن على الجبهة الفلسطينية، ودعت الى اعلان انتهاء المرحلة الانتقالية التي انتهت وفق اوسلو بسقف 4/5/99، واعلان سيادة دولة فلسطين على الاراضي المحتلة في حزيران 1967. وبذا يصبح الطريق سالكاً لتجديد الانتفاضة الوطنية والى وضع استراتيجية تفاوضية لها مرجعية ائتلافية فلسطينية ومرجعية دولية قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن التي تؤمن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفي بناء دولة مستقلة عربية فلسطينية عاصمتها القدس العربية وحل مشكلة اللاجئين والنازحين. وفي 8 شباط فبراير الماضي دعوت عرفات بعد للقاء معه في الأردن، لحوار شامل من اجل وضع برنامج سياسي مشترك لاعلان بسط السيادة في 4/5/1999. لكنه لم يستجب وانحنى للرغبات الاميركية والاسرائيلية وأرجأ موعد الاعلان الشهير. والسياسة الاميركية في بلادنا مصابة بفقر النزاهة، وهي ترتبط بالدولة العبرية ارتباطاً استراتيجياً. كما تتضح ازدواجية هذه السياسة بشكل فاضح حين تقف الادارة الاميركية الى جانب كرواتيا ومقدونيا والبوسنة والهرسك لتمكنها من الاستقلال، والى جانب اقليم كوسوفو لتأمين الحكم الذاتي الكامل له وعودة اللاجئين الألبان، بينما تتنكر للأرض العربية المحتلة وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى ديارهم وتضرب بعرض الحائط القرارات الدولية. ولن نستطيع مواجهة هذه السياسة المتعجرفة الا عن طريق التضامن بين الاقطار العربية على القواسم المشتركة والوحدة الائتلافية الفلسطينية. والسؤال المنطقي: أين المعارضة الفلسطينية من الوضع الحالي؟ نجيب بالقول: دعونا الى الحوار الشامل من اجل كسر قيود اوسلو وواي ريفر وإعادة الوحدة الى الصفوف الفلسطينية. في هذا السياق عقدت أخيراً ثلاثة مؤتمرات وطنية لقوى المعارضة في غزة والضفة الفلسطينيةودمشق. نجحنا في غزة والضفة، لأننا توصلنا الى قواسم مشتركة الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس تجمعنا مع كل المؤتمرين بمن فيهم اصحاب الخطاب الأيديولوجي والسياسي الغامض والذي يقدم شعارات عامة من دون اي برنامج ملموس. ونتج عن مؤتمر دمشق فوراً 12 و13 كانون الاول/ ديسمبر 1998، انقسام شهير، وسلكت المعارضة اتجاهين مختلفين. والذي حصل ان اخوة في "جبهة الانقاذ"، ومجموعات اخرى، ارادوا تحويل المؤتمر الى مجلس وطني لمنظمة تحرير ثانية، ينتخب لجنة تنفيذية جديدة، مما يكرس الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني ويفتح مصاريع حروب مخيمات من جديد. للمرة الثانية، رفضنا اقتسام منظمة التحرير. وجددت الجبهة الديموقراطية تمسكها بمعارضة موحدة وببرامج سياسية ملموسة تكون البديل عن اوسلو وواي ريفر، وبأن التناقض الرئيسي ما زال مع الاحتلال والاستيطان، وبالتالي لا بد من العودة الى بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية الائتلافية على القواسم المشتركة. ونحن واثقون من اننا سنربح معركة اعادة الوحدة الوطنية، لكن هذا سيتطلب وقتاً. ويتطلب من الجميع شحذ كل القوى والامكانات وممارسة كل اشكال العمل الكفاحي الممكن. مارسنا الكفاح المسلح باعتباره نضالاً مشروعاً في نظر الجبهة الديموقراطية، وهو ضرورة وطنية تحتل موقعها الرئيسي وفقاً لطبيعة كل مرحلة. واليوم، يبذل العدو الاسرائيلي كل طاقاته، بالتعاون مع الشرطة الفلسطينية لتطويق المقاومة الفلسطينية وقمعها. فمنذ اوسلو 1993 تمت بين فريقي اوسلو مقايضة اتفاق اوسلو بوقف الانتفاضة والمقاومة المسلحة. والمقاومة المسلحة في الجبهة الديموقراطية، تعرضت على امتداد ثلاثين عاماً لنزيف دامٍ في طاقاتها، ونفذت عمليات نوعية. نحن شددنا على الكفاح المسلح كشكل رئيسي على مساحة مرحلة تاريخية طويلة، ونشدد الآن على الفعل الوحدوي الانتفاضي، واهميته على ان يترافق مع برنامج وحدوي يستند الى قرارات الشرعية الدولية والعربية ممثلة بقرارات القمم العربية والشرعية الائتلافية الفلسطينية، ويضمن للشعب الفلسطيني حقوقه في تقرير المصير والعودة وبناء دولة مستقلة عاصمتها القدس. الآن، وبعد نتائج الانتخابات الاسرائيلية وانطلاق حكومة باراك الائتلافية الواسعة على قاعدة جوامع اللاءات اليهودية الصهيونية، نرى ان في الجانب الفلسطيني من يراهن على ائتلاف الصقور والحمائم بزعامة ايهود باراك وسياسته الصقرية المعلنة والمعلومة لدفع مسيرة اوسلو المتهالكة والعودة لسياسة الخطوة خطوة، فيما المطلوب فعلياً اليوم في ظل التغيرات الحاصلة، السير الجاد نحو الارتهان للعامل الفلسطيني ولمواضع القوة الفلسطينية والانطلاق نحو تعميق الترابط بين مسارات الحلول مع الدول العربية بدلاً من وضع البيض الفلسطيني كاملاً في سلة "بركات حكومة باراك" او النوم على حرير الراعي الأميركي فقير النزاهة، وآخر امثلته تصريح هيلاري كلينتون بجولتها الانتخابية لعضوية الكونغرس في نيويورك بأنها "مع القدس عاصمة موحدة ابدية لدولة اسرائيل" على رغم قرارات مجلس الأمن الدولي التي تؤكد ان القدسالشرقية جزء من الضفة المحتلة. وعلى الضفة الاخرى من المتراس داخل الدولة العبرية تؤكد الوقائع ان العرب، لو كانوا اكثر وعياً، لشكلوا قوة مقررة في السياسة الاسرائيلية الداخلية والاقليمية. فلو شكلوا لوائح ائتلافية لما ذهبت اصوات العرب الى العمل او الليكود او الوسط. الا ان التفتت الناتج عن التخلف والعصبية الطائفية والزعاماتية، والشخصية، خسَّرهم قوة بامكانها اسقاط اي وزارة لا يرضون عنها، فيما يحصدون الآن، ونحصد معهم، الاوجاع والاحتجاج الناتج عن تجاهل باراك لمليون فلسطيني ونوابهم العشرة في الكنيست الاسرائيلية على رغم تصويت 96.3 في المئة من نصف مليون ناخب فلسطيني عربي لباراك ضد نتانياهو في 17 ايار 1999. واليوم، ما يطرحه باراك من استفتاء حول أية اتفاقات للحل الدائم مع الشعب الفلسطيني او سورية مسألة مرفوضة من الناحية القانونية والدولية، اذ لا يجوز لسلطات الاحتلال ان تستفتي احداً على ارض وحق شعب آخر. وأجدد دعوتي لجميع الأطراف من اجل الاعتماد على الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني وقواه السياسية ولمرجعية ائتلافية موحدة لمنظمة التحرير بدلاً من انفراد اليمين ويمين الوسط من اهل اوسلو وتداعياته السامة. ونؤكد على ضرورة اعلان السيادة على اراضي فلسطين وانتاج برنامج سياسي يعيد بناء مؤسسات منظمة التحرير ويفتح الباب امام استراتيجية نضالية جديدة، وتفاوضية جديدة على أساس قرارات الشرعية الدولية ورعاية الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن الدولي. * الأمين العام ل"الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين".