لا أحد يعرف متى ستندلع الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، فهي كسابقتيها لن تأخذ إذناً من أحد، ولا يمكن أحداً أن يحول دونها، فإسرائيل لم تستطع ذلك، مع الانتفاضتين الأولى والثانية، وبالتأكيد فإن السلطة الفلسطينية ليس في مقدروها ذلك. هذا يعني أن الانتفاضة الثالثة في الطريق، وأنها ستندلع، اليوم أو غداً، ليس لأن أحداً ما يرغب في ذلك أو يخطّط له، عن هواية أو قصدية ما، وإنما لأن كل الدروب تقود إلى ذلك، بسبب انسداد كل الحلول السياسية، وبسبب أن الضغط، الناجم عن الاحتلال والقهر والظلم لا يولّد إلا الانفجار. وفي الواقع لا أحد يحتاج إلى أي قدر من التفكير للتأكد من أن سدّ كل الطرق أمام الفلسطينيين، ولا سيما أمام نزعتهم للتحرّر من الاحتلال، لا يؤدي إلا إلى هذا الطريق، بخاصّة مع استمرار بناء المستوطنات والجدار الفاصل ومصادرة الأراضي ومحاولات تهويد القدس وانتهاج الاعتقالات، وهو أمر تعرفه إسرائيل جيداً، فقد حدث ذلك من دون وجود السلطة (19871993)، ومع وجودها (20002004). القصد من ذلك القول إن عوامل الانتفاضة كامنة في احشاء المجتمع الفلسطيني، على رغم كل الكوابح، بما فيها الاحباط من مآلات الانتفاضتين السابقتين، والانقسام في الحركة الوطنية، والافتقار الى قيادة قادرة على إلهام الفلسطينيين وإشعال الحلم والأمل في قلوبهم، ومع وجود طبقة سياسية باتت تستمرئ العيش في ظل سلطة تحت الاحتلال وعلاقات التنسيق الأمني والارتهان لمعونات الدول المانحة، أي أن الانتفاضة ستأتي رغم كل ذلك، وهي تنتظر فقط لحظتها التاريخية، أو حادثتها، أو شرارتها. ربما يجدر التذكير هنا بأن المقاومة الشعبية ضد الاحتلال، بمظاهره العسكرية والاستيطانية، في قرى ومدن الضفة لم تهدأ قطّ، منذ وقف الانتفاضة الثانية (المسلّحة)، إذ إنها استمرت بمختلف الأشكال، وإن بوتائر متفاوتة. ويمكن أن نشمل في ذلك التحركات الشعبية ضد الاستيطان والجدار الفاصل، والتي بلغت ذروتها في الفعاليات المتواصلة منذ سنوات في قريتي نعلين وبعلين تحديداً. ويمكن أن نذكر، أيضاً، انتفاضة «العودة»، التي اطلقتها مجموعات من الشباب الفلسطينيين في الداخل والخارج، وتخلّلتها محاولات لعبور الحدود. كما تنضوي في الإطار ذاته جملة التحرّكات الشعبية الناشطة للتضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال، والتي باتت تعرف بانتفاضة «الأمعاء الخاوية» (أيار/مايو 2012). ومعلوم أن هذه المعركة كانت بدأت مطلع العالم الماضي، مع اضراب خضر عدنان (66 يوماً) وهناء الشلبي (44 يوماً)، ثم تصاعدت (في أيار) مع اضراب الأسرى الذين اشتهر منهم كل من بلال ذياب (77 يوماً) وثائر حلاحلة (77 يوماً)، وصولاً إلى الاضراب الأطول، وغير المسبوق في التاريخ، للأسير سامر العيساوي (أكثر من مئتي يوم). في هذا الإطار يمكن طرح ملاحظتين، أولاهما، أن تحركات الفلسطينيين لم تعد تقتصر على تحدي سلطة الاحتلال، فهي باتت تشمل، أيضاً، تحدّي السلطة في الضفة وغزة، بسبب تفاقم شعور الفلسطينيين بالضياع وفقدان الأمل والغضب. وهي مشاعر تتغذى من انسداد مشروع المفاوضة والتسوية، وحال الانقسام في النظام السياسي، وتفاقم المشكلات الاقتصادية والمعيشية، وتسيّد الأجهزة الأمنية، والتضييق على الحريات، وتفاقم الشعور بدونية السلطة إزاء إسرائيل، لا سيما مع علاقات التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية. والمشكلة أن كل هذا يجري في وضع لا تفوّت فيه إسرائيل أية فرصة للتقليل من هيبة السلطة والحطّ من صورتها عند شعبها. ويمكن أن نذكر في هذا الإطار الكثير من المظاهر ومن ضمنها، مثلاً، الحراكات الشبابية ضد الانقسام، والتي شملت الضفة وغزة (آذار/مارس 2011)، وكان شعارها الرئيس: «الشعب يريد انهاء الانقسام»، وقد جرى انهاؤها، بطريقة ناعمة أو قاسية. وهناك التظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على الزيارة التي كان يزمع شاؤول موفاز، زعيم حزب «كاديما»، القيام بها الى مقر القيادة الفلسطينية في رام الله (أواخر حزيران /يونيو 2012). أيضاً، ثمة التظاهرات التي شملت بعض مدن الضفة (تشرين الأول/اكتوبر الماضي)، والتي كانت دعت إليها مجموعة «فلسطينيون من أجل الكرامة»، وتركّزت ضد الاعتقالات السياسيّة التي تنفذها الاجهزة الأمنية للسلطة. كما يمكن أن نحسب في هذا الاتجاه الحراك المتمثل بالإقبال الشعبي الواسع على احتفالية الذكرى السنوية لانطلاقة «فتح» في مدينة غزة (كانون الثاني/يناير 2013)، والذي كان مفاجئاً لسلطة «حماس»، وعبّر في احد معانيه عن التذمر من طريقة إدارتها للقطاع. أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بموقف القيادة الرسمية من مسألة اندلاع انتفاضة جديدة، وهو موقف متسرّع ومزاجي، ويعبّر عن سذاجة سياسية، إضافة إلى أنه يأتي كنوع من سلفة سياسية مجانية لإسرائيل، وكإثبات امتثال لمتطلّباتها ومتطلّبات الدول المانحة، من دون النظر إلى حال الفلسطينيين وقضيتهم. ففي حقيقة الأمر فإن هذه الانتفاضة لن تأخذ إذناً من أحد، ولا من القيادة الفلسطينية، أي أنها ستشتعل هكذا ببساطة، لأن كل عوامل الاشتعال باتت موجودة. وهذه الانتفاضة ستندلع لأن هذه القيادة بالذات لم تعرف كيف توجّه الطاقة المختزنة عند شعبها في مواجهة الاحتلال، بهذه الطريقة او تلك، وإنما فضّلت حبسها، ومفاقمة احتقانها. والحال، فإن القيادة تتحمل قسطاً من المسؤولية عن وصول الفلسطينيين إلى هذا الوضع المتفجّر، بسبب علاقات التنسيق الأمني مع إسرائيل، ولممانعتها تبلور حالة منظمة ومستمرة من المقاومة الشعبية ضد الاحتلال. على ذلك، لا يشفع لهذه القيادة الادعاء بأنها ضد الانتفاضة بدعوى أنها ضد العنف والفوضى، فهذه لغة غريبة وتبدو مستوردة من قاموس الاحتلال، لا سيما أن المفاضلة محصورة هنا بين طريقين خاطئين: الفوضى والعنف أو العيش بهدوء في ظل الاحتلال. وبديهي، فإن وضع المسألة على هذا النحو الخاطئ هو دليل آخر على افتقاد هذه القيادة أهليتها الكفاحية، وتأكيد شيخوختها السياسية وتكلس بناها وتآكل مكانتها. الآن، قد يكون من المفهوم أن مهمة أية قيادة هي إدارة كفاح شعبها بأفضل وأقوم الطرق، والوصول الى الهدف بأقل الأثمان، لكن ذلك يرتبط بمفهوم آخر مفاده أن الاحتلال، بخاصة إذا كان من النمط الاستيطاني العنصري الأيديولوجي (الديني) لا ينتهي بالمناشدات أو بالتوسّلات أو بالمفاوضات. فلا شيء يجعل الإسرائيليين، الذين لا يدفعون أي ثمن للاحتلال، والذين باتوا يعيشون واقعاً من الاحتلال المريح والمربح لهم، في ظل سلطة اوسلو، يتخلون عن هذا الواقع، لا شيء البتّة، لذا فهذه معادلة غريبة، وغير مقبولة، وينبغي وضع حد لها، إما بإنهاء الاحتلال، أو بتدفيعه ثمن الاحتلال. حقاً، لقد دفع الفلسطينيون أثماناً باهظة في الانتفاضة الثانية، بسبب العسكرة التي حدّت من الطابع الشعبي للانتفاضة، واختزلتها بمجموعات عسكرية، وبسبب انتهاج نمط العمليات التفجيرية، التي بددت طاقة الانتفاضة، وبررت لإسرائيل البطش بالفلسطينيين، لكن الخيار هنا ليس حتمياّ بين الانتفاضة الثانية (المسلحة) أو قبول العيش في ظل الاحتلال، ومن يضع المسألة على هذا النحو يريد أن يؤبد الواقع القائم. والمعنى أن ثمة خيارات أخرى، فثمة، مثلاً، نمط الانتفاضة الأولى التي كانت شعبية، فهذه استطاعت تحييد الآلة العسكرية لإسرائيل، وجلب التعاطف الدولي مع حقوق الفلسطينيين، ناهيك عن دورها في مفاقمة الانقسام بين الإسرائيليين، وفرض أجندتها السياسية عليهم. ومن تفحّص التجربة الوطنية الفلسطينية يمكن، مثلاً، ملاحظة أن مشكلة الفلسطينيين لم تكن تتمثل باعتماد هذا الشكل الكفاحي أو ذاك، في مواجهة إسرائيل، بقدر ما كانت تتمثل في الرؤية السياسية التي تحكم اعتماد هذا الشكل او ذاك، وكيفية إدارته، ثم بالقدرة على استمراره. ولا شك في أن هذه الملاحظة لا تقتصر على كيفية إدارة الكفاح المسلح، أو الانتفاضة الشعبية، وانما تشمل كيفية ادارة العمل السياسي، وكذلك كيفية إدارة المفاوضات، إذ إن الحال في هذه الأخيرة لم تكن أحسن إن لم تكن أسوأ من الأولى. عموماً، فإنه لأمر غريب وجود قيادة سياسية تقلق، أو تتخوف، من صعود الروح الكفاحية عند شعبها، فالمفروض أصلاً أن أمراً كهذا هو موضع قلق عند الإسرائيليين، والمفروض، أيضاً، أن مهمة هذه القيادة الاشتغال على بثّ هذه الروح وتوظيفها أقله في مجال الضغط على إسرائيل. قصارى القول، لا ينبغي الهلع من الانتفاضة، بل ينبغي التهيؤ لها، لا لوقفها أو قمعها، وإنما لمواكبتها، واحتضانها، وتهيئة مقومات صمودها، في مواجهة عدوها، وأيضاً لتنظيمها، وترشيد مساراتها، بالاستفادة من التجارب السابقة، وصولاً الى استثمارها بما يخدم تحقيق الفلسطينيين لأهدافهم الوطنية. * كاتب فلسطيني