يمر الأردن في مرحلة انتقالية في غاية الدقة، ويواجه تحديات تلقي بظلالها على العمل السياسي وتؤثر جذرياً على الوضع الاقتصادي والحياتي للمواطن العادي. ثمة ملاحظات أولية توصلت اليها خلال قيامي بدراسة ميدانية منذ منتصف شهر تشرين الأول اكتوبر الماضي عن الحركات الاجتماعية - السياسية الصاعدة في الأردن. يشكل هذا البحث جزءاً من دراسة مقارنة عن أهم هذه الحركات في كل من مصر واليمن والأردن ولبنان وفلسطين. المسألتان الرئيسيتان اللتان تواجهان الأردن الآن: العلاقات الثنائية الداخلية الاردنية - الفلسطينية، والاصلاح، وهما مرتبطتان ببعضهما بعضاً ارتباطاً عضوياً. فمن الصعب جداً ايجاد حلول منطقية وفعّالة لقضية الوحدة الوطنية إلا بدمقرطة المجتمع الاردني وبناء مؤسسات حقيقية لامتصاص الافرازات الشعبية واشراك القواعد الشبابية في العملية السياسية. من جهة أخرى، تتطلب دمقرطة المجتمع الاردني وتقتضي العمل الجدي المبدع وبناء قنوات حوار وطني لحل قضية الثنائية في العلاقة الاردنية - الفلسطينية الداخلية. أشار العديد من الفاعليات الشعبية والشبابية، الذين قابلتهم، إلى ان الحكومة والقصر لم يتعاملا بجدية، حتى هذه اللحظة، مع الأحداث بمستوى التحدي. فلا توجد لدى الدولة رؤية استراتيجية للاصلاح، إنما محاولات متواضعة لسد الثغرات هنا وهناك بأساليب تقليدية غير خلاقة وغير كافية ولا تفي بالغرض المطلوب. تعتقد نخبة محدودة، ولكنها مهمة، ان "السيطرة على الادارة هي الحل" وان الاقتصاد يشكل العامل الاهم للتغيير. في نظر هذه النخبة الصغيرة والنافذة تشكل السيطرة على الادارة المدخل العملي للبدء في مشروع الاصلاح، والمطلوب القيام بمجموعة من الاصلاحات الجذرية في اقرب فرصة ممكنة لتقنين الادارة وتوجيهها وتفعيلها. على سبيل المثال وصل العجز المالي في الموازنة هذه السنة الى اكثر من حوالى 170 مليون دينار اردني حوالى 230 مليون دولار اميركي. ويقول بعض الخبراء الاردنيين إن هذا العجز يمكن تسديده بالكامل من خلال وقف الهدر الكبير في الدوائر والوزارات الحكومية المختلفة. لماذا تنفق الدولة، مثلاً، عشرات الآلاف من الدنانير على السيارات الحكومية الفاخرة، والموضوعة تحت تصرف كبار موظفي الدولة؟ كما يقدّر الهدر في استهلاك الطاقة والوقود والمياه في الدوائر الحكومية بالملايين من الدولارات. وتشكل الجامعة الاردنية وحدها ثاني اكبر مستهلك للمياه بعد القوات المسلحة. بالاضافة الى ذلك، تقدر كلفة سفر المسؤولين ومياوماتهم بالملايين من الدولارات، وتعطى الهواتف الخليوية لموظفي الادارات من دون أي أسس ومعايير حيث تكلّف أيضاً الملايين من الدولارات. ويتم شراء الأثاث والمواد والقرطاسية بطريقة عشوائية وغير ضرورية مما يزيد من نسبة الانفاق الحكومي وعجز الموازنة. يكمن الخوف في لجوء الحكومة الاردنية الى رفع بعض اسعار السلع، بخاصة المحروقات، في محاولة لسد العجز المالي في الموازنة. وتحذّر القيادات الوطنية من ان مثل هذه الخطوة ستلقى معارضة شعبية شديدة بسبب الوضع الاقتصادي والحياتي الصعب لعدد كبير من المواطنين. وتشير الدراسات الى ان واحداً من كل اربعة اشخاص في سوق العمل عاطل، اي ان نسبة البطالة تزيد عن 20 في المئة، واكثر من ثلث سكان الاردن البالغ مجموعهم 4.5 مليون نسمة يعيش تحت خط الفقر! من جهة اخرى يشدد خبراء اقتصاديون على انه بإمكان الحكومة ان تخفّف من حدّة ردّ الشارع الشعبي بسلوكها طريق ايقاف الهدر الكبير في مؤسسات الدولة. وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان الاردن نجح في تخفيض العجز في موازنته العامة منذ عام 1989 وحتى 1995 من حوالى 25 في المئة الى 3 في المئة من خلال ضبط النفقات الحكومية وزيادة طفيفة للضرائب. ولم تحدث اية خضة في الشارع الاردني لأنه كان هناك شعور لدى الاوساط الشعبية بأن الفساد في المراكز العليا، على الاقل، قضي عليه الى حد كبير، ولذلك قَبِِلَ الناس على مضض بالاجراءات القاسية الى حد ما. إلا انه من المستبعد ان تقبل الاوساط الشعبية الآن بزيادة مطردة في اسعار المحروقات بخاصة البنزين، لأنها مستاءة من نسبة الهدر الكبيرة في مؤسسات الدولة وتدهور مستوى معيشتها. القضية الثانية المرتبطة بعملية الاصلاح، التي تحظى باهتمام الاردنيين، علناً أحياناً وأكثر الأحيان في احاديث الصالونات، تتمحور حول قانون الانتخاب، الذي يستند الى ما اصطلح على تعريفه في الاردن ب"قانون الصوت الواحد". قدمت الحكومة الاولى في عهد الملك عبدالله الثاني، برئاسة رؤوف الروابدة، تنازلات للمعارضة وللقوى السياسية المختلفة في البلاد، وزعمت انها كانت جاهزة لادخال تعديل على قانون الانتخاب. لم يحدث شيء من هذا القبيل. الملفت للمراقب ان لا الحكومة تملك رؤية اخرى لقانون الانتخاب الحالي ولا يوجد لدى الاطراف السياسية المعارضة، التي تحاور الدولة، تصوّر موحد وواضح لتعديله. لكل ذلك، سيبقى قانون الانتخاب أحد العوامل الاساسية التي تزيد من حدة التوتر السياسي في الاردن، خصوصاً ان الحركة الاسلامية، أهم القوى السياسية المنظّمة، تعتبر ان هذا القانون "فُصّل تفصيلاً" لتحجيمها وتهميشها بعد فوزها المميز في الانتخابات النيابية عام 1989. السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن الحدّ من التداعيات السلبية لقانون الصوت الواحد على الساحة السياسية الاردنية في ضوء الانتخابات النيابية المقبلة، خصوصاً ان معظم القوى المعارضة قاطعت الانتخابات السابقة؟ ما هو المخرج القانوني الذي يسمح للدولة وللأحزاب السياسية بالتعاون من خلاله لبناء قاعدة وطنية مشتركة للعمل السياسي؟ لا يمكن القيام باصلاحات جذرية بنّاءة من دون معالجة قضية الحريات العامة، التي تتسم بالاستمرارية، وغالباً ما تؤدي الى تأزيم الوضع السياسي في الأردن. في هذا الاطار، ثمة خيبة امل شعبية كبرى ازاء اداء الحكومة الاولى في عهد الملك عبدالله، إذ اتسمت تلك المرحلة بتشديد الرقابة على الاذاعة والتلفزيون ومحاولة احكام السيطرة على وسائل الاعلام الرسمية، بما فيها وكالة الانباء الرسمية "بترا" وتعيين اشخاص محسوبين على رئيس الوزراء في المراكز العليا للجهاز الاعلامي الرسمي. وأدت الطريقة العرفية وغير الدستورية التي تعاملت بها حكومة الروابدة مع قضية "حماس" الى احتقان الساحة السياسية في الاردن وتذمّر شريحة كبيرة من المواطنين. والاخطر من ذلك، يزعم بعض السياسيين ان حكومة الروابدة بدل ان تعمل على تمتين اواصر وروابط الوحدة الوطنية، غزتها سلباً وعمّقت حال الفرز السياسي - السوسيولوجي في البلد. لقد تذمّر العديد من الاردنيين من زيادة سطوة دائرة جهاز المخابرات وتغلغلها في الحياة العامة خلال فترة الحكومة الاولى للعهد الجديد. والمثال على ذلك، ضُرب "مركز الدراسات الاستراتيجية" في الجامعة الاردنية وأُقصي مديره الدكتور مصطفى حمارنة، واعتبر هذا القرار في حينه عودة الى التدخل العلني في عمل الجامعات المدنية، مثلما كان يجري قبل 1989، العام الذي شهد تحولاً ديموقراطياً في الاردن. وأدى هذا التراكم التدريجي في الاخطاء الى انهيار شعبية حكومة الروابدة، كما اظهرته استطلاعات الرأي في "مركز الدراسات الاستراتيجية" فما كان من الملك عبدالله الثاني، إلا أنه اجرى تغييراً حكومياً بتعيين علي ابو الراغب رئيساً للوزراء. تدخل الملك لتصحيح المسار الحكومي له دلالات عدة. صحيح ان البلد الصغير يواجه عقبات وتحديات صعبة، إلا أنه بالمقارنة، توجد جوانب ايجابية تقتضي الامانة التاريخية عدم اغفالها. فالأردن ينعم بهامش من الحريات والمناورة السياسية لا مثيل له في معظم البلدان العربية. وأثبتت تجربة صحيفة "العرب اليوم" ان بإمكان الصحافيين والكتّاب ان يرفعوا من سقف الحريات والنقاش الحرّ. وعندما برزت مشكلة المياه الى السطح في 1998، أُطيح بالوزير المسؤول فوراً، هذا مع العلم بأن المسألة، كما تبين لاحقاً، كانت مُضخّمة الى حد كبير. تدخل الملك عبدالله الثاني شخصياً في قضية "مركز الدراسات الاستراتيجية" وأعاد مديره الى مركزه، على رغم الموقف العنيف لمدير جهاز المخابرات، الجنرال بطيخي، لإعاقة عودة الاستاذ الجامعي. وأثبتت هذه التجربة ان المجتمع المدني الاردني يملك المقومات والقدرة على المقاومة والديمومة في الاردن، إذ تتم الحوارات حول معظم المواضيع بشكل علني يذهل المراقب الخارجي. لقد نزلت التظاهرات الى الشارع لتغيير مادة في القانون، حول ما اصطلح بتعريفه "جرائم الشرف"، واشترك في بعض التظاهرات افراد من العائلة المالكة بتشجيع شخصي من الملك، في محاولة جدية لالغاء هذه المادة المخجلة. المراقب الخارجي، الذي يعيش في الاردن يشعر ان المجتمع الاردني ينبض بالحيوية ويملك ديناميكية مميزة خاصة، ولكن بعض الباحثين العرب وقع تحت تأثير بعض المقولات والاطروحات التبسيطية التي تعتبر ان اهمية المملكة الاردنية تكمن في نسبة عدد اللاجئين الفلسطينيين الى عدد السكان الاجمالي وقربها من ساحة الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي. المرحلة الانتقالية التي يمر بها الاردن ومحاولات الاصلاح والحوارات على ارض الواقع تحمل في طياتها امكان تخطي العديد من العقبات واثراء للحياة السياسية وللمجتمع المدني. تبقى كل هذه المحاولات مهددة بالفشل الذريع ما لم تتعاط الدولة والمجتمع الاردني بشفافية ووضوح مع القضية الجوهرية، الا وهي مسألة العلاقة الثنائية الاردنية - الفلسطينية ومستقبلها داخلياً. ثمة خوف حقيقي وعميق الجذور يدفع بالدولة والقوى السياسية المتعددة معاً الى عدم معالجة هذه القضية الخطيرة التداعيات. لا يكفي ان تتغنى الدولة بالوحدة الوطنية وتؤكد صلابتها، بل تقتضي المصلحة الوطنية والوئام المدني معالجة جذرية لحال الفرز الحقيقية في المجتمع الاردني. * استاذ العلاقات الدولية والديبلوماسية في جامعة سارة لورنس في نيويورك.